كنيسة العراق وموقفها من الفقراء والمهجرين العراقيين
المقدمة :ترتبط ( الكلمتين ) الوصيتين الثامنة والعاشرة بانتهاكات حرية الإنسان والعدالة في المجتمع فمن وراء الصياغة السلبية، توجد الوصية الإيجابية التي تدعو إلى صيانة تفتح الإنسان تفتحاً حراً، والاعتناء بتنمية العدالة الاجتماعية والاقتصادية في عالم العمل والاقتصاد.
ان الكلمة الثامنة " لا تسرق " تحرم كل اعتداء على مقتنيات الآخرين، من خلال امتلاك جائر، أو استغلال للغير. واللفظة العبرية " غنب " لا تعني فقط " سرقة "، بل هي تشمل كل المجال الذي تشير إليه الألفاظ " اغتصاب، نهب، سرقة، غش، خداع، أو التخلي عنهم". فهي لا تتعلق فقط بالثروات المادية، بل، وقبل كل شيء بجريمة احتجاز اشخاص عن طريق العنف في سبيل استفزازهم، أو استعبادهم، أو بيعهم كعبيد. فالأمر هنا يتعلق بحرية الانسان، فهي أولى المقتنيات التي تحميها الكلمة الثامنة. إلا أن ذلك ينطوي أيضاً على حرية التصرف بما يملك الانسان وبما اكتسبه بالارث أو العمل.
الكنيسة الأولى :
كان يسوع يهتم بالفقراء، وطبقه عملياً. فعقد الصداقات مع المحتاجين وأطعم الجياع. وأمر تلاميذه بأن يبيعوا ممتلكاتهم ويقدموا صدقات للفقراء، وإذا صنعوا وليمة عليهم أن المساكين والمشلولين والعرج والعمى الذين ربما لا يكونون في وضع يسمح لهم أن يدعوهم بالمقاتل. كما وعد تلاميذه، بأنهم عندما يطمعون الجياع ويكسون العراة ويرحبون بمن لا مأوى لهم ويزورون المرضى، إنما يقدمون كل هذه الخدمات له.
على هذا النهج عاشت الكنيسة الأولى بعض الوقت على تقاسم طوعي للأموال في سبيل أن تتوافق مع كلام يسوع، المتعلق بالتقاسم مع الفقراء. " وكان جميع المؤمنين يعيشون معاً، وكان كل شيء مشتركاً فيما بينهم. وكانو يبيعون أملاكهم ومقتنياتهم، ويوزعون أثمانها على الجميع بحسب حاجة كل واحد منهم" ( أعمال الرسل 2 : 44 ).
عرفت الكنيسة في بدايتها تقسيم الأموال بدافع المحبة. ثم أصبح تنظيم المساعدة للفقراء مؤسسة وطيدة الأركان عن طريق "الشماسية " في الكنيسة القديمة.
اهتمت الكنيسة الأولى بالموقف الشخصي لكل إنسان تجاه المقتنيات. فالانتقاد الإنجيلي وتوجيهات الرسائل الأخلاقية لا تستهدف نظام الملكية الخاصة بل الاخطار الأخلاقية والدينية المرتبطة في معظم الأحيان بالمقتنيات والأملاك ، أي الجشع والاشتهاء والأنانية، والمواقف التالية في سوء استعمال الثروات المادية هي مواقف خاطئة، وغالباً ما تترافق مع اقتناء الأملاك وتهدد حرية الإنسان: قلب تسلسل القيم، والتعدي على العدالة والمحبة، وبنتيجة ذلك زعزعة أساس النظام الاجتماعي.
وقد طرحت قضية الرق مشكلة خاصة على المسيحية الأولى، إذ كان العبيد يعدون ملكاً لاسيادهم، وفي الغالب ضحايا استبدادهم. يتوسط القديس بولس لصالح العبد أونيسموس الذي هرب، فيسأل سيده ( المسيحي فليمون ) أن يقبله " كأخ محبوب "( فيلمون 16 ).
وهكذا سعت الكنيسة الأولى إلى جعل التصرف تجاه العبيد أكثر إنسانية في البيئة الوثنية، وإلى دمج هؤلاء في الجماعة المسيحية، وفي اجتماعات العبادة كان الجميع متساوين، كما كان باستطاعة عبيد أن يضطلعوا بمسؤوليات في الكنيسة.
معنى ( الكلمة ) الوصية الثامنة في الزمن الحاضر:
ان المعنى الأصلي ( للكلمة) للوصية هو احترام حرية الإنسان واحترام أملاكه ومقتنياته التي هي أساس عيشه، يبقى قائماً في عالم الحياة اليوم. لكنه، وباعتبار التغيرات الحاصلة في بنى الحياة الاجتماعية والاقتصادية، قد اتسع اتساعاً كبيراً فاشكال العبودية في عالم العمل اليوم وتجاوزات السلطة في طريقة استعمال ثروات الأرض. تذكر باوامر الوصية في الحاح خاص. فتنبه الوصية إلى ضرورة اقامة نظام عادل للعمل والاقتصاد وإلى المسؤولية في استخدام صحيح للملكية في كل أشكالها.
العمل في ضوء الإيمان الإنجيلي :
ان في المسيحي الحقيقي غريزة تدفعه إلى معلمه يسوع المسيح والاقتداء به دوماً، وان كان بوسع الطبيعة أن تخالف نواميسها، فالمسيحي لا يسعه أن يحيد عن سلوك معلمه الذي أحبه، حتى الموت من أجله ومن أجل العالم. كلمات يسوع جاءت كناقوس يدق في أعماق الفكر والقلب عبر السنين وظروف الحياة " رحمة اريد لا ذبيحة " لتشغل الكيان بالمحبة للآب والقريب، وهو الذي ردد " كما فعلتم لواحد من هؤلاء اخوتي الصغار فلي قد فعلتم " فاراد لمحبة القريب ان تشابه محبته التي خصنا بها " كما أحبني الآب، فكذلك أحببتكم أنا ايضاً " ( يوحنا 15 : 9 ).
ولبلوغ هذه المحبة كان لا بد أن تشب نيرانها في دواخلنا لتتلألأ بعفوية ونكران الذات، لا بالكلام واللسان بل بالعمل والحق وتجاوز كل الحواجز، فالقريب هو كل إنسان. عندما نحس بنعمة عيش مسحة الإنجيل بمحبة القريب مع الجائع والعطشان، بين العريان والغريب، داخل المستشفيات ودور الايتام دون الالتفات إلى المنظر ولا الى طول القامة.
فقد نتوصل الى إلله بالقلب والعقل، لكننا نقترب منه بإيمان متجسد في رجاء محبة القريب، إذ يقول في سفر الأمثال " نعيمي مع بني البشر " ( أمثال 8 : 13 ). عندما نشعر ان محبة الله للقريب، هي كالموسيقى للحياة، والأغنية للقلب البشري، وهذه المحبة متفوقة على كل حقيقة ضعف وعجز، فننطلق بنعمة عطايا محبته نحو البؤس، بين أبناء بلدنا العراق الذين ذاقوا مرارة الحروب، وعاشوا سنين الحصار ومن ثم الاحتلال، والارهاب، والقتل، والخطف، والتفجيرات والتهجير القسري لنبلغ وفي وسطهم هم، معنى الدخول في الفرح وفي الألم أيضاً في آن واحد.
تلك خبرة رسولية، نختبرها بين السجناء، والعجزة والمعاقين، والفقراء والمهمشين، والمتروكين من المجتمع، لتجدد في كل لقاء، دهشتنا أمام عظمة محبة الله لمثل هؤلاء الناس، ليستخدمنا بغير استحقاق لمجد اسمه، بين هؤلاء الفقراء والمساكين والمهمشين. ونخجل من إيمان تلك العجوز التي تشتاق لجسد المسيح، وقد كانت بعيدة عن الكنيسة، حبيسة جدران غرفتها الأربعة في دار المسنين، فتهرع وتتناول صفحة من الإنجيل المقدس لانها تحمل كلمة المسيح. وتتهلل النفس أمام ذاك الطفل المعاق الذي يرتمي في أحضان سلة عطايا المأكولات، وكأنه يرتمي في أحضان والده المحب.
وتبتهج الروح لشعلة الإيمان، في قلوب هؤلاء التلاميذ الذين يهرعون من قراهم وقصباتهم البعيدة، حباً بالتعلم، ليكونوا كمعلمهم صيادي بشر، عندما يكتمل غذاء إيمانهم بنور العلم والإيمان والمحبة، وهم متيقنون ان بؤس الشعوب يبدأ بالجهل، ونور الإيمان ينطفئ بالانغلاق والتقوقع والاستسلام لسطوة الواقع.
هل من مزيد لنضيف ؟
من أين نبدأ والى أين ننتهي ؟
الفقراء المعدمون، محرومون اقتصادياً. فقد يفتقرون إلى الطعام، أو اللباس، أو المأوى، أو يفتقرون إليها جميعها. السجون ودور العجز والمسنين والمعاقين، والمشلولين واليتامى والارامل، ومستشفى المجانين والأقسام الداخلية التي يسكنها تلاميذ القرى.
ان الكرم واسع أيها الأخوة، والحصاد كثير لكن الفعلة قليلون.
فالجوع إثر الحرب، والحصار، والاحتلال، والعنف، والخطف، والقتل، والتهجير القسري لاخوتنا في بغداد والموصل والبصرة زاد من الاختلال الاجتماعي والانحراف، وقلل من اهتمام الأبناء بالآباء والأمهات، ولنتوجه إلى بناء دور للمسنين لاحتوائهم، وقلة الدواء وزيادة تكاليفه زادت من المعاقين. وانتشار أيضاً البطالة بين شعبنا وخاصة شبابنا وشابتنا. وانخفاض مستوى التعليم في المدارس نتيجة الظروف الصعبة التي يمر بها بلدنا.
هناك الفقراء المعدمون، المحرمون، من ضروريات الحياة الأساسية. وهناك المساكين المظلومين، ضحايا الظلم البشري الذين لا حول لهم ولا قوة. وهناك فقراء من الوجهة الروحية، هناك المساكين المتضعون، الذين يقرون بعجزهم ويتطلعون إلى الله وحده طالبين الخلاص. وترتسم أمامنا صورة الله في كل حالة آتياً إليهم ومتبنياً قضيتهم التزاماً منه بطبيعته فهو " يقيم المسكين من التراب ".
نقف امام هؤلاء، لنردد من الأعماق صرخة نحو العالم الواسع من كلمات معلمنا يسوع " اريد رحمة لا ذبيحة " منتظرين برجاء المحبة من هنا، أو هناك عيناً تبصر، أو اذناً تسمع.. فالعالم ينتظر الأعمال ليمجد الآب في السماوات، ذلك رجاء إيماننا بمحبة الله من خلال محبة القريب.
ولإيماننا بان كل خدمة هي وليدة عصرها وزمانها، يبقى الجهل هو المسبب الأول لكل أنواع البؤس، المرضي منه، أو الاخلاقي، أو الاجتماعي. لذلك تبقى الحاجة القصوى الى نور. كل شمعة تضاء وسط ظلمة الجهل . تلك الشمعة قد لا نجد الطريق إليها إلا بالتعلم والصلاة والخدمة.
الخاتمة :
بواسطة الوحي الإلهي، يستضيء معنى العمل أيضاً بالنسبة إلى المسيحي بنور الإنجبل ومن ثم فالعمل البشري له كذلك بعد لاهوتي.
فالنشاط البشري الشخصي والجماعي وجهد البشر لتحسين أوضاعهم الحياتية على الدوام يتطابقان مع تصميم الله.
وعمل الله الخلاق يستهدف أن تظل الأرض " مسكن حياة لكل ما هو حي " وان يُعدها البشر باتجاه هذه الغاية التي سبق الله فأقرها. والإنسان بصفة كونه صورة الله، انيطت به مهمة " فلاحة الأرض وحراستها " ( تكوين 2 : 15 ) فهو في عمله ومنجزاته قد عُهد إليه بالخليقة كي يرتبها.
ان الأرض مع ثمارها هي اولى عطايا الله المخصصة لاعالة حياة الإنسان. لكن الأرض لا تؤتي ثمارها بدون استجابة واعية من قبل الإنسان لعطية الله، أي بدون العمل. البشر جميعاً في كل ما يصنعون يسهمون بفضل ذكائهم في اعطاء الخليقة شكلاً ويخدمون منفعة الناس الاخرين.
لقد خصص الله الأرض وكل ما تحتوي عليه لكل البشر والشعوب، في سبيل اشباع حاجاتهم لذلك ينبغي أن تستغل خيرات الأرض وتوزع بحيث يتمكن جميع الناس من العيش بطريقة جديرة بالإنسان.
هذا التفاوت في أوضاع الحياة يتطلب من الجميع تضامناً أكبر مع المحرومين ومن الأقوى سلوكاً يعامل في الأضعف بطريقة عادلة، وينم واقعياً عن الاهتمام بحياة لائقة للجميع.
ان أحد المعايير الأخلاقية الأساسية لكل القرارات الاقتصادية والاجراءات السياسية والمؤسسات هو الخيار الأولوي للفقراء : على القرارات الاقتصادية والاجراءات السياسية أن تخدم جميع الناس، ولكن أولاً الفقراء ومن الضروري الانتباه إلى ما ينتج عن القرارات الاقتصادية من تبعات بالنسبة إلى الفقراء، وإلى الأضرار التي تسببها لهم وإلى اسهامها في اتاحة الفرصة لهم ليساعدوا أنفسهم.
ان العلاقات الوثيقة التي تجمع الناس في وسط البشرية والترابط بين كل البشر والشعوب يتطلبان تضامنا بين كل الناس والأجيال الحاضرة والمستقبلة. فالمطلوب أن يبنوا معاً " عالماً أفضل على الحقيقة والعدل ".