Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

لماذا تحولنا الى شعوب لا تقرأ ؟

اذ يقولون بان الكتاب هو الحضارة ، وانه من اهم وسائل التقدم بعوالم الفكرالانساني ، والتحليق به في مدارات جديدة دائما ، فأننا لن نختلف في اهمية الكتاب في حياة الانسان ، كحامل للمعرفة والعلم ، وكوننا لانجد عالما ، او مفكرا ، او مخترعا ، لم يكن الكتاب هو استاذه الاكبر ، فالقراءة هي سبب رئيس في نيل المعرفة والعلم . وصار معروفا للقاصي والداني ، ان الكتابة والقراءة ، بدأت من العراق وسوريا ، وان الانسان في منطقتنا وبحثا عن الخلود هو من وجد في الكتابة والكتاب اداة تحفظ له تاريخه وافكاره ، فكان السومريون في العراق اول من اعد الواحا من الصلصال نقشوا عليها كتاباتهم الاولى . وتحمل لنا كتب التاريخ وقائع وقصص طريفة عن علاقة اجدادنا بالكتاب واهميته في حياتهم ، فالخطيب البغدادي تعود الناس على رؤيته وهو يمشي وفي يده كتاب يطالعه ، وأبو بكر الخياط النحوي يدرس في جميع أوقاته ، حتى وهو في الطريق ، وكم من المرات سقط في جرف ، أو خبطته دابة وهو يقرأ ، وقصة الجاحظ معروفة وكيف كان يستأجر دكاكين الوراقين ويبيت فيها للمطالعة ، وان الفيروزبادي صاحب معجم "لسان العرب" ، كان لا يسافر إلا وبصحبته عدة أحمال من الكتب التي يشتريها باغلى الاثمان ، وكم ذكر من الشعراء قصائدا تغنوا باهمية الكتاب وصحبته. وعبرالتاريخ صار الانسان يفهم اهمية الكتاب ، واكثر من ذلك فهم الحكام الطغاة قوة الكلمة والكتاب فتفننوا في منع الكتب واعاقة نشرها بل واحراقها ، فكلمة الحق والمعرفة تمنح الانسان القوة للسعي لبناء حياة افضل ، حرة كريمة ، بينما الشعب الامي ، الجاهل ، يكون سهل القياد ، وهكذا في كل تجارب الشعوب نجد ان منع وحرق الكتب كانت ممارسات رديفة لممارسات الانظمة المستبدة. هكذا شهدت شوارع المانيا في زمن السفاح هتلر حفلات حرق افضل ما انتجته ابداعات كتاب العالم ، فالنازيين كانوا يدركون ان الكتب واحدة من اكثرالاسلحة فتكا بنظامهم المعادي للتطلعات الانسانية ، وعلى هذا الطريق سار حكام اخرون ، وفي تجربة العراق ايام حكم نظام صدام حسين كثير من التفاصيل التي حكم فيها بالموت على كتاب ومبدعين انتجوا كتابات لم ترق للديكتاتور ومؤسسات نظامه الاستبدادي ، بل وان موطنين عاديين غيبوا واعدموا لاقتنائهم كتبا ممنوعة من قبل مؤسسات النظام . وفي عصرنا الحالي ، والعالم يشهد تطورات متسارعة في عالم الاتصالات ، في عالم الانترنيت والفضائيات ، صار الحديث عن كون العالم قرية صغيرة حديثا مبتذلا ومكرورا ، فالعالم في الحقيقة تحول الى زقاق صغير في قرية ، وصار ايقاع الحياة يتغير بسرعة كبيرة لا يمكن اللحاق بها ، ومع ذلك يتحرك الواقع الثقافي والمعرفي في كل بقاع العالم ، بينما نجد منطقة العالم العربي لا تزال تحبو في مختلف جوانب الحياة ، ومن ذلك علاقة شعوبنا بالكتاب والقراءة. المتابع لحال علاقة المواطن في منطقتنا بالكتاب والقراءة يتملكه الحزن الشديد للمعلومات والتقارير الرسمية التي تقول بان مستويات القراءة في تدن مستمر، بل ونصاب بالصدمة اذ نطلع على تقارير منظمة مختصة هي (اليونسكو) في تقرير لها عن القراءة في منطقة العالم العربي ؛ حيث جاء في التقرير " ان المواطن في المنطقة العربية يقرأ (6) دقائق في السنة " ! بينما نجد ان المواطن الاوربي يخصص عدة ساعات من يومه للقراءة .

اين تكمن الاسباب ، وهل شعوبنا مسؤولة عن ذلك ؟ ان انتشار الكتاب ، والعلاقة مع الكتاب وتطور مستويات القراءة ، يعتمد على عوامل عديدة ، والرقم المتدني للقراءة يرتبط بارقام اخرى تبين حجم المصيبة في منطقتنا ، والمسؤولية الاساسية تقع على عاتق حكومات المنطقة ومؤسساتها الثقافية اولا ، فهي المعنية بتدني علاقة المواطن بالكتاب وبالقراءة . ولو راجعنا تقارير منظمة اليونسكو لوجدناها تشير الى كون الاحصاءات المتوفرة لدى المنظمة تشير الى وجود أكثر من 70 مليونا مواطن في بلدان العالم العربي لا يعرفون القراءة ولا الكتابة ، وتشير التقارير ايضا إلى أن هذه الارقام لا تتحدث عن الأمية الحاسوبية . فغالبية الدول العربية حسب شهادات هذه المنظمة الدولية تتجاهل تعليم الطفل في المرحلة التحضيرية ، كما أن 40 % من الأطفال ممن تتراوح أعمارهم بين السادسة والخامسة عشرة لم يلتحقوا بمقاعد الدراسة ، لاسباب اجتماعية واقتصادية . وايضا هناك ارقام اخرى يمكن ان تساعد على فهم اسباب تدني مستوى القراءة ، ففي المنطقة العربية تشير تقارير ذات المنظمة الى انه يصدر كتاب واحد لكل (350) ألف مواطن، وللمقارنة نجد انه في اوربا يصدر كتاب لكل (15) ألف مواطن ، كما أن احصائيات اخرى تشير الى ان كل دور النشر العربية تستوعب من الورق ما تستهلكه دار نشر فرنسية واحدة هي (باليمار) ، وتشير احصاءات لمؤسسات ابحاث اخرى الى ان معدل نشر الكتب في منطقتنا هو 1% فقط ، أي بما يعادل الثلاثين كتابا لكل مليون مواطن عربي ، بينما المعدل في أوروبا هو 584 وأمريكا 212 !. وبالرغم من هذه الارقام المتواضعة في نشر الكتب في منطقة العالم العربي ، فان عملية النشر هذه لا تعيش وضعا مستقرا ، وحرا ، بل يعيش الكاتب والناشر باستمرار تحت ضغوط عديدة ، فالعديد من الكتب منعت من النشر لاسباب مختلفة سياسية ودينية ، وبعض الكتب يتم مصادرتها في بعض البلدان العربية تحت حجة انها ممنوعة من دخول البلد . واذا توقفنا عند ما ينشر من الكتب ، فأننا نجد ارتفاع اسعار الكتب في بعض البلدان العربية ، الى جانب تدني دخل المواطن العادي ، مما يمنعه من اقتناء الكتاب وتحويله الى حاجة ضرورية ، وهكذا يتحول الكتاب عنده الى سلعة ترف عليه الاستغناء عنها لسد رمق اطفاله وتوفير الاحتياجات الاساسية لاسرته . من جانب اخر لا تزال خدمات المكتبات العامة غير متطورة في منطقتنا بالشكل الذي يمكن ان توفر للمواطن المحب للقراءة والمتابعة حاجته وتعوضه عن اقتناء الكتاب والتخفيف من ضغط اسعار الكتب ، ولو بالحد الادنى قياسا مما هو متوفر في البلدان المتطورة . وامام تدني علاقة المواطن مع الكتاب صرنا نطالع بين الحين والاخر اخبارا عن غلق العديد من محلات بيع الكتب لابوابها وتحولها الى محلات لبيع الكاسيتات وبطاقات المناسبات ، وتخليها عن بيع الكتب . وامام ذلك ومع تلهف المواطن للمعرفة والبحث عن الاخبار والتطورات في العالم والحياة ، صار الانترنيت والفضائيات مصدرالمعلومات الاساسية له ، ويوما بعد صار الابتعاد عن الكتاب شيئا معتادا ، فصار من الطبيعي ان يحكي لك شخص عن حدث تاريخي استنادا الى قصة مسلسل شاهده ، وليس استنادا كتاب في التاريخ قراه ، وهكذا . في المجتمعات المتطورة العلاقة مع الكتاب ممارسة انسانية يومية ، والكتاب يصاحب المواطن الاوربي الى كل مكان، وتجده يقرأ في ساعات الفراغ ، في وسائط النقل ، في لحظات الانتظار ، وغير ذلك ، دون ان يفوت فرصة ليلتهم بها عدد من الصفحات ، ويسجل لنفسه الملاحظات والهوامش ، فالعلاقة عند الانسان الاوربي مع الكتاب تبدا منذ سنوات حياته الاولى ، فمشهد كتب القصص عن سريرالاطفال شيئا مالوفا وعاديا وضروريا ، ومن لوازم التربية ، حيث يقوم افراد الاسرة ، الاب او الام غالبا ، بقراءة قصة للطفل قبل النوم ، وليزداد تعلق الانسان بالكتاب كلما تقدم في الحياة ، يساعده على ذلك نوعية منهاج التعليم والتربية ، التي تزرع في روحه حب البحث والتعلم والتزود بالمعرفة . وربما من المفيد الحديث قليلا هنا عن تجربتي الشخصية في فنلندا ، حيث اقيم منذ وصولي مطلع 1995 لاجئا لاسباب سياسية ، وضمن قوانين وانظمة البلاد ، وبعد انجاز دورة تعلم لغة البلاد الرسمية ، وهي اللغة الفنلندية ، وضمن برنامج الدورة الدراسية ، اتيحت لي فرصة للتدريب لعدة شهور ، في المكتبة العامة لمدينة اقامتي ، فجعلني هذا على تماس واطلاع بشكل جيد على انظمة البلاد بخصوص نظام المكتبات وعلاقة المواطن الفنلندي مع الكتاب. ووجدت ان المكتبة هي البيت الثاني للمواطن الفنلندي ، فهي مركز ثقافي يوفر مختلف الخدمات الثقافية ، بدءا من الاطفال وحتى كبار السن واصحاب الاحتياجات الخاصة . ويجد الطلبة خصوصا ، ومن مختلف الفصول الدراسية ، في المكتبة العامة المكان الاساس لتوفير المصادر الكافية لاتمام بحوثهم الدراسية ، فالنظام التعليمي في هذه البلاد لا يربط الطالب الى مقعد الدراسة لمجرد الاصغاء للاستاذ المحاضر ، بل يدفعه للركض بين صفحات المصادر والكتب لاعداد بحث متميز في المادة الدراسية لينال عنه درجة امتحانية . في منطقتنا لا تزال عملية التربية والتعليم تعاني من افات خطيرة ، وهناك قصور وضعف في مناهج التعليم واساليب التربية والتعليم ، التي لا تزال تعتمد على عملية الحفظ والتلقين ، وتهمل التكنولوجيات الحديثة ، واساليب التعليم المتطورة ، التي تتعامل مع نظم الاتصالات والمعلوماتية ، حيث تشير تقارير اليونسكو الى ما يزيد على 90% من الطلبة في المنطقة العربية لا يمتلكون ثقافة معلوماتية . اضافة الى غياب مفهوم التعليم والتثقيف الذاتي عند الطلبة والمواطنين بشكل عام ، ففي المدارس في منطقتنا يبتعد الكثير من الطلبة عن الكتاب بعد ان زرعت اساليب التعليم في نفوسهم عداءا للكتاب المدرسي المقرر ، ولا يوجد اهتمام بالمكتبات المدرسية . ومطلوب الكثير من المعالجات للخلل في العملية التربوية ، وفي مقدمة ذلك العمل بمبدا حق التعليم للجميع وتحديث اساليب التربية والتعليم . وهناك عوامل عديدة اخرى تؤثر على علاة المواطن بالكتاب تتعلق بنوعية التربية التي يتلقاها الفرد داخل الاسرة ، والمجتمع بشكل عام ، وامكانية تربية الانسان على الانفتاح وتقبل الرأي الاخر ، الذي يمكن ان يقدمه الكتاب ، وايضا الرغبة الذاتية عند المواطن لنيل المزيد من المعرفة ، وقدرته على الصمود امام مغريات الفضائيات والاذاعات ومواقع الانترنيت المختلفة ، التي تقدم برامج ترفيه واثارة وجذب مع غياب واضح للبرامج التثقيفية الهادفة ، وهذا ما سهل انتشارونجاح ما صرنا نسميه "الغزو الثقافي الغربي " ، وما هو الا روحا استهلاكية للثقافة السطحية ، التي تعزز من الشعور باليأس وعدم الجدوى من امكانية اللحاق بالعالم المتطور وتحقيق شئ يذكر . اضافة الى عجز مؤسساتنا الثقافية من تشجيع المواطن وتوجيهه للبحث عن المعرفة والتثقيف ، فعلى سبيل المثال فان مكتباتنا العامة لا تزال تعتمد اساليب عفا عليها الزمن في نوعية الخدمات التي يمكن ان تشجع المواطن ليكون زائرا دائما ، ولتساهم في تطوير ثقافته من خلال خدماتها المتنوعة . في بلد مثل فنلندا ، لا يزال يحتل ومن عدة سنوات مرتبة متقدمة بين البلاد الاوربية في تطور خدمات المكتبات العامة ، تكون المكتبة العامة على اتصال مباشر مع المواطن ، ومع الاسرة ، بمختلف الاشكال ، ولا يمكن للمواطن الاستغناء عن خدماتها . ففي اي مدينة فنلندية وفي مكتبتها العامة تجد صالة لمتابعة مختلف الصحف والمجلات من مختلف دول العالم ، وبكل اللغات ، والى جانبها يمكن ان تجد قاعة مخصصة للاشرطة الفلمية والموسيقية ، هذا من غير صالات الكتب العلمية والادبية ومن مختلف الاختصاصات وفي مختلف المواد ، والمكتبة مجبرة على البحث عن الكتاب المطلوب للمستعيروالعثور عليه سواء داخل البلاد او خارجه، وتوفيره للمواطن وفق رسوم شكلية ، وترصد شهريا اموال ضخمة لصيانة المكتبات العامة وتطوير الخدمات فيها ، بحيث تواصل خدمة المواطنين التواقين لمزيد من المعرفة . والمكتبات العامة ، تنظم الحلقات الدراسية التثقيفية المفتوحة ، وتنظم لقاءات مباشرة للحوار بين الكتاب والقراء ، استنادا الى طلبات القراء انفسهم ، فبعد صدور ترجمة كتابي " طائرالدهشة " ** الى اللغة الفنلندية ، وصلتني عدة دعوات من عدة مكتبات عامة في مدن فنلندية مختلفة ، وتوفرت لي خلالها فرصة لقاء القراء الفنلنديين ، ومعرفة ارائهم وملاحظاتهم عن كتابي مما عزز تجربتي واغناها ، وهذه اللقاءات تتم عادة استنادا الى طلبات القراء انفسهم ، فمع صدور كتاب ما وحصوله على اهتمام النقاد تدرس ادارة المكتبات طلبات القراء ، وتعمل لتحقيق رغبة زبائنها باللقاء مع كاتب ما ، ويحدث ذلك عادة بمعدل معين شهري او فصلي ، حسب امكانيات وميزانية المكتبة المعنية .

هامش____________________________

* نشرت في المسار تصدر عن جامعة السلطان قابوس في مسقط العدد 72 شباط 2006

* * طائر الدهشة . يوسف ابو الفوز . دار المدى 1999 دمشق . مجموعة قصصية عن المنفى واللجوء العراقي . صدرت مترجمة الى اللغة الفنلندية في العاصمة الفنلندية ، هلسنكي ، عن دار النشر Like ، وترجم المجموعة المستشرق Opinions