إلا كوردستان.. !! لماذا ؟
habeebtomi@yahoo.noالعالم العربي اكتنفه سبات شتوي طويل استمر لعقود وقرون الى ان اضرم المواطن التونسي البوعزيزي النار بنفسه فوصلت تلك الشرارة الى اوصال الشعوب العربية لتستفيق وتجد نفسها مكبلة بقيود الأنظمة الديكتاتورية ، وكانت البداية في تونس لتنساب بسهولة نسبية نحو مصر وتتلكأ في ليبيا واليمن والبحرين وسورية ... ما يشترك به هذه البلدان مجتمعة هو تعشعش انظمة في قمة الهرم السياسي لعقود مستخدمين ديمقراطية مشكوك في نزاهتها ، مما دفع تلك الشعوب الى الحراك والنهوض بغية وضع نهاية لتلك الأنظمة التي دأبت على وضع الخطط لنظام وراثي لكي تبقى تلك البلاد ملك صرف لتلك الأسر الحاكمة .
إن تعاطفنا ومباركتنا لتلك الثورات لا يعني السكوت عن الممارسات الخاطئة وما قد تؤول اليه تلك الثورات من نتائج سلبية ، فما هو معروف ان المد الأسلامي في تونس بعد الثورة قد شهد انتعاشاً ويمكن ان يلاحظة كل ذي نظر ، وفي مصر فإن الأخوان المسلمون والسلفيون استطاعوا من تمرير التعديلات الأرتجالية على الدستور ، رغم إرادة الشباب اصحاب الثورة الحقيقيين ورغم إرادة المكون المسيحي في هذا البلد ، كما ان الضغوطات الأجتماعية بعد ثورة الشباب في مصر طفقت تفرض القيود الدينية الأسلامية في نواحي الفنون والموسيقى والملابس ونحوها وباتت واضحة ومقلقة للمجتمع المصري المتحرر والمنفتح اجتماعياً ، وبعد ذلك كان ضمور الواردات الناجمة عن السياحة .
في اليمن لا يمكن التكهن بالنتائج لو رحل النظام دون وضع اسس مدروسة لهذا الرحيل ، فالبلاد مقسمة اصلاً ، فكيف يكون الحال حينما تتباين بوصلة الأهداف بعد رحيل علي عبدالله صالح ؟
لا نريد الأسهاب مع الأقطار العربية الأخرى التي تغلي مراجل ثوراتها .
اجل نتعاطف مع ثورات الشعوب ، لكن دائماً ينبغي العودة الى العقل والبراغماتية للحكم على الأحداث بمنأى عن الغرائز والعواطف ، فما هو معروف ان الدولة هي حاضنة الأستقرار والتعايش المدني والتنمية ، وإن الأنقضاض على هيكل الدولة وتقويض مؤسساتها ، لخلق حالة اللادولة التي ستؤول في نهاية حتمية نحو مستنقع الفوضى وحينها سيكون من المستحيل تحقيق النمو الأقتصادي والقضاء على البطالة وتحقيق البنية التحتية وترسيخ الأستقرار السياسي والتعايش المجتمعي .
من نافلة القول انه لا توجد دولة نقية ( طاهرة) خالية من الذنوب والشوائب ، انها المدينة الفاضلة كالتي ارادها افلاطون فهذه الدولة افتراضية وهي مكنونة في الخيال فحسب ، وحتى الدول الديمقراطية الأوروبية التي يضرب بها المثل في تحقيق مستوى رفيع من معايير العدالة والمساواة نجد فيها ليس قليل من الشرائح الأجتماعية المتذمرة والناقمة على الأوضاع ، فكيف تكون عليه الأحوال في العالم المتخلف الذي يطلق عليه ، مجاملة ، العالم الثالث وفي الدول العربية بشكل خاص ، التي يتربع فيها الحاكم على سرير الحكم لعقود طويلة ويسعى لتوريث الحكم لأبنه من بعده .
بعد هذه المقدمة الطويلة المملة ننتقل الى الوضع في اقليم كوردستان ، الذي تسعى فيه بعض القوى نسخ وتقليد ما يحدث في العالم العربي ، فما هو معروف ان الأقليم انتقل بغير قليل من النجاح ، مع الصعوبات التي اعترت سبيله ، من دائرة وعقلية الثورة الى دائرة البناء والأستقرار في ظل الدولة ، لقد تميز المشهد العام في اقليم كوردستان باحتوائه على مساحة من الحرية والأعتدال فنشطت الحركة الثقافية وانبثقت صحافة حرة تستطيع تشخيص النواقص ، وانبثق من رحم هذا الواقع معارضة سياسية غير مقموعة ولها حرية العمل وفازت في الانتخابات بحوالي ربع المقاعد في برلمان اقليم كوردستان وكان لها شأن كبير في الحياة السياسية على مستوى الأقليم ، وجرى التداول السلمي للسلطة بموجب ما افرزته صناديق الأقتراع .
لقد وضعت قواعد اللعبة الديمقراطية في ألأقليم عام 1991 وهي تترسخ وتتطور بشكل ايجابي مع مرور الزمن وكانت نتائجها على الأرض متجسدة في مظاهر الأمن والأستقرار المقترنة بفضيلة التعايش المدني بين المكونات الكوردستانية الأثنية والدينية والمذهبية .
في معادلة تقييمنا لتجربة اقليم كوردستان ، علينا الأعتماد على مبدأ النسبية ليتسم حكمنا بالحيادية والموضوعية ، فالمقارنة بالدول الأوروبية العريقة في تطبيق مبادي حقوق الأنسان والديمقراطية سوف نجد ان اقليم كوردستان لا يضاهي سويسرا او انكلترا .. لكن يمكن القول ان نهج الأقليم الديمقراطي يسير في الطريق الصحيح ، اما قياساً مع دول المنطقة وعموم العراق ، سنجد ان الأقليم قد قطع اشواطاً مهمة في عملية النمو الأقتصادي والتعايش المجتمعي ، ومن المؤكد ان هذه المسيرة اعترت سبيلها عثرات ومطبات ، وكانت هنالك ممارسات خاطئة وفساد إداري ومالي لا احد ينفي وجوده في جسد الدولة ، وإن كان حجم هذا الفساد اقل مما هو متفشي في مفاصل هيكل الدولة العراقية المركزية ، سيكون التبرير غير مقبول فأقليم كوردستان ينبغي ان يكون مثالياً لكي يجري الأقتداء بتجربة الشعب الكوردي إن كان في عملية البناء او في عملية التعايش المدني التي تشكل واحدة من النتائج الأيجابية للممارسة القويمة في لعبة الديمقراطية الوليدة في الأقليم وعلى هذا الأساس يتعين ان يكون الأقليم نموذجاً حياً في قلة الفساد او انعدامه .
علينا ان نعترف بأن القيادة الكوردية التي افرزتها اللعبة الديمقراطية لا تملك العصا السحرية لحلحلة كل المعضلات الأقتصادية والأجتماعية في ليلة وضحاها ، لكن الظاهر للراصد المحايد ان عجلة الأصلاح ومحاولات معالجة الأمور بمنطق الحكمة والتشاور والعقلانية تجري على قدم وساق ، ومع ذلك يتجلى امامنا مشهد فيه استمرارية المظاهرات او محاولة جعلها مستمرة ، ومن ثم تجددها تحت شعارات وعناوين جديدة ، مع امتداد سقف المطالب في كل يوم مع زخم اهداف وأجندات متفاوتة ، لا نجافي الحقيقة حينما نزعم بأن هنالك من يتسربل بعباءة ثورة الشباب لتحقيق اهدافهم ومثالنا في مصر خير دليل على ذلك .
مهما كان تعاطفنا مع الثورة ومع الحشود المنتفضة لا يمكن ان نقر بأن يغدو الشارع مصدر الشرعية لانه ببساطة يمثل الحشود الصاخبة فحسب ، فلا يمكن إلغاء الدولة المدنية الدستورية إرضاءً لهم . فإسقاط الحكومة ممكن إذا كان عبر القنوات الشرعية التي تنضوي تحت سقف البرلمان الكوردستاني المنتخب بشكل ديمقراطي حر ونزيه ، والدليل الساطع كان ما طرح قبل ايام في جلسة البرلمان الكوردستاني من مقترح سحب الثقة من حكومة الدكتور برهم صالح حيث جرى التصويت بحضوره على مقترح طرح لأول مرة في تاريخ البرلمان الكوردستاني بسحب الثقة من حكومته ، وبعد التصويت نالت حكومته ثقة البرلمان مجددا بأغلبية 67 صوتا مقابل 28 صوتا يمثل كتلة التغيير وثلاثة آخرين من أعضاء الكتل المعارضة، علما بأن البرلمان الكوردستاني يتشكل من 111 عضوا حضر جلسة الثقة 98 عضوا.
إن المطالبة بحل البرلمان المنتخب ديمقراطياً او طلب استقالة الرئيس مسعود البارزاني الذي انتخبه الشعب الكوردي في انتخابات حرة نزيهة ، كل ذلك يدفع الى الأعتقاد ان المتظاهرين ليس هدفهم اصلاح النظام بل هنالك اجندات للإجهاز على النظام والعملية الديمقراطية برمتها . بنظري ان الرئيس مسعود البارزاني يمثل صمام الأمان لديمومة العملية الديمقراطية ، ولترسيخ مبادئ الوحدة القومية في كوردستان ، وذلك نظراً لكارزميته الشخصية ومكانته الأجتماعية والسياسية وتاريخه النضالي .
حينما اقول (إلا كوردستان .. ) فأنا كشخص كلداني ، وتشرفني صداقة الشعب الكوردي ومهتم بالكتابة عنه ، فقد كان هذا الشعب في طور الثورات والأنتفاضات لعقود طويلة وكانت مظاهر الأعمار والديمقراطية والتعايش المدني وغيرها من مقومات بناء الدولة ، كانت غائبة في حسابات تلك الظروف الأستثنائية ، التي كانت اولاً تتطلب بناء منظومة المقاومة بأشكالها ومن ثم تأجيل مفاهيم مؤسسات الدولة . لكن اليوم تغيرت الأمور واصبح بناء الدولة في المقام الأول ، فمعايير المواطنة والأخلاص تكمن في منظومات البناء والتعمير والأصلاح .
في اقليم كوردستان نموذج فريد لدولة كوردية مؤسساتية كانت الوليدة الشرعية لممارسة اللعبة الديمقراطية ، وإن محاولة اجهاض تلك التجربة تحت زخم الشعارات والمطالب عمل ليس في صالح الشعب الكردي . ينبغي الإقرار ان الأصلاح ليس ترفاً بل حالة ضرورية مطلوبة تصب في مصلحة القيادة والحكومة والمعارضة على حد سواء ، إن الأصلاح وتحسين الأوضاع والقضاء على الفساد هي خطوات مهمة تصب في مصلحة الشعب الكوردي عموماً .
لا ريب ان الشعب الكوردي وجميع المكونات الكوردستانية حريصة بديمومة الأمن والأستقرار في اقليم كوردستان والقيادة الكوردية تشعر وتقدر جسامة المسؤولية ، وبعد ان استطاعت هذه القيادة من تحقيق هذا القدر من المنجزات على الأرض بكل تأكيد تستطيع التركيز على مبدأ الشفافية ، والقضاء على الفساد والمفسدين ، ويكون ذلك بنشر الوعي بين المواطنين ، إضافة الى الأستعانة بقوى الأمن وبالتعاون مع قطاعات الشعب بهذا الخصوص . إن نشر ثقافة التعاون وترسيخ الثقة بين القيادة وشعبها هو السبيل القويم لقطع الطريق امام القوى المتربصة ، إن هذا التفاهم قائم ولهذا اقول إن الثورة قد تعصف بكثير من الأقطار ، إلا كوردستان . فقد حدثت الثورة وانتهت وحانت لحظة البناء في مختلف مناحي الحياة .
حبيب تومي \ عنكاوا في 15 \ 04 \ 11