Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

القِمّة العربيّة: الرهان الصَعب

لماذا هذا الموضوع؟
بقدر ما تنتظر المنظومة العربية كلها كما تتحدد بين الخليج العربي حتى المحيط الأطلسي.. تنتظر أية حلول ومعالجات لواقع يزداد شرذمة وتهرؤا يوما بعد آخر.. وبقدر ما يحتاج قادة الدول العربية وحكامها إلى التزامات قوية لا إلى بروتوكولات واهية في مناقشة مفاهيم جديرة بالحوار في مثل هذا الوقت، خصوصا مع متغيرات الحياة وما تتطلبه الشعوب.. فان المسؤولين العرب طالما كانوا مختلفين لأسباب شخصية ربما لا تكون مقنعة، وربما كانت ولم تزل تافهة، فإنهم أول من يستوجب محاسبته من اجل تبنّي الإصلاحات والتجديد وتأسيس تقاليد جديدة، وبحث أمور غاية في الواقعية بدل البقاء في إطار الأوهام الساذجة والشعارات الفارغة.. وإنتاج كل ما يعيق الحياة العربية سواء في الدواخل أم في الإقليم، أم العلاقات مع العالم. إن أهم مسببات الإخفاق الذي تعيشه دولنا وكياناتنا السياسية، أنها لم تعد تحظى بقادة وحكام باستطاعتهم أن يفرضوا ثقتهم بالناس، حتى يبادلهم الناس المحبة والتأييد، ويصبحوا فعلا زعماء بحق وحقيق. فالزعامة نادرة هذه الأيام، خصوصا، إذا ما علمنا أن من هو زعيم حقيقي يمكنه أن يفرض إرادته الوطنية والعربية بتصرفاته، وحسن سلوكه، وأدبه، وجمال ما ينتقيه من كلمات وخطاب يعّبر عن هموم المجتمعات العربية.. كما وانه القادم إلى كرسي الحكم بأي وسيلة مشروعة في هذه المرحلة قبل تطور مرحلة متفوقة انتخابية حرة ديمقراطيا، فما عليه إلا أن يبذل الغالي والنفيس من اجل خدمة شعبه والدفاع عن مصالحه.



فحوى القمم العربية

علينا ان ندرك مفهوم مؤتمرات القمة.. لماذا تنعقد؟ وما الغاية من عقدها؟ ما الموضوعات التي يمكن أن تبحث؟ ما الأهداف التي يمكن رسمها؟ ما جدول الأعمال؟ إذ يبدو أن ثمة مبادئ أساسية يجهلها المؤتمرون في مؤتمرات قممهم التي بدأها العرب منذ قرابة ستين سنة.. ولم يدركوا مغازيها حتى اليوم. إن من أهم كل هذا وذاك، يتمثّل بانتفاء أية تقاليد عربية يمكنها أن يحترمها الجميع.. وعندما اقصد التقاليد، فهي ليست تقاليد العرب التي نعرفها من مكان إلى آخر كالتي يتمثلها التنافس بإظهار الترحاب المزيف، والكرم الفائق عن حدوده، والتنطع بالأبهة الفارغة التي لا تعرفها زعامات الشعوب الأخرى.. اقصد بتأسيس تقاليد عربية، أي: أساليب تحترم فيها الإرادة الاجتماعية العربية، وتحترم فيها خصوصيات المكان، وتراعى فيها آداب الجلسة، وتستهجن فيها الكلمات الخارجة عن المألوف وعن موضوعات جدول العمل.. تقاليد ينبغي أن يتعلمها الملوك والرؤساء من جدد ومخضرمين من زملاء المهنة الآخرين الموجودين في أوروبا، أو حتى من جنوب شرق آسيا.. بل قل حتى من زعماء دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية.. إن رؤسائنا وملوكنا العرب سرعان ما يزعلون وسرعان ما يتصالحون، وكأن شيئا لم يكن قد أضر بالمصالح كلها، وخصوصا مصالح مجتمعاتنا.. إذا كان من سبقهم يخشى العيب بحيث لم ينشر غسيله على الهواء مباشرة، بحيث يحجم ما كان يدور من مناوشات حادة بين الرئيس عبد الناصر والملك فيصل آل السعود، مثلا، أو ملاسنات شديدة بين حافظ الأسد وصدام حسين مثلا آخرا.. اليوم، لم يعد يتورع البعض ممن أخذ حريته في الكلام ضد زميله الآخر أمام ملايين الناس بلا أي رادع!



قمم جامعة عربية بلا أساليب متحضرة

عيب على هكذا قمم عربية أن تبقى عقودا طويلة من السنين، بلا أية تقاليد وآداب مجالسة وأساليب عمل حتى على جلسات غداءات العمل.. والانكى من ذلك أن يصفق الحاضرون لمثل هكذا تجاوزات! وإذا مررّنا نحن العرب ذلك بروح الألفة من اجل مبادئ سامية لمثل هذه القمم، فان علينا أن نحاسبها حسابا عسيرا، عمّا قدمته إلى المنظومة العربية التي تجتمع مجتمعاتنا تحت مظلتها؟ ما الذي تقرر على امتداد سنوات حياة منظمة اسمها ( جامعة الدول العربية ) وأين أصبحت تلك القرارات وخصوصا ما يسمى بـ " العمل العربي المشترك "؟ إننا قد شهدنا أكثر من عشرين مؤتمر قمة عربي على امتداد قرابة نصف قرن من الزمن الصعب.. فما الذي حققته تلك " المؤتمرات "؟ وما الذي أخفقت فيه؟ هنا أقول، بأن مؤرخينا القادمين سيفضحون كل ما جرى ويجري بتحديد مسؤوليات الحكام العرب في ازدياد الشقة والشرذمة وتجاهل القضايا الحيوية التي كنا ولم نزل ننادي بها.
لقد شهدت قبل ثلاث سنوات مناظرة تلفزيونية على الهواء بين وزير ثقافة سوري عربي وبين نائب برلماني سوداني عربي، وكل منهما متمسك بوجهة نظره التي لا تستقيم والواقع.. الحاضر والمستقبل. السوري المؤمن بالقومية العربية والمتنطّع بالرسالة الخالدة يدافع دفاعا مستميتا عن القمة كونها دمشقية، والسوداني لا يؤمن بالعروبة السياسية ولا بدور أي جامعة عربية.. بل يطالب بالغائها وتأسيس أممية إسلامية. لقد طالبنا منذ سنوات طوال بتجديد الجامعة العربية وتغيير نظامها الداخلي، كي يستقيم ومتغيرات العالم الجديدة.. ولكن الجامعة عزفت على أوتار أخرى أساءت لها ولكل العرب، كونها لم تزل ألعوبة بأيدي المسؤولين العرب بالرغم من أهميتها القصوى في معالجة واقعنا المرير.
إن حاضرنا كذلك رهين هذه المعادلة الصعبة التي يلتزمها طرفان، طرف يتمثل بملوك ورؤساء عرب يجتمعون تحت يافطة جامعة الدول العربية سياسيا، وليس باستطاعتهم فعل أي شيء عربي مشترك، فكل واحد منهم له أجندته وعلاقاته ومشكلاته البعيدة عن المصالح الكبرى.. وطرف مغّيب يتمثل بمنظومة اجتماعية عربية مسيطر عليها ليس من قبل أنظمة سياسية حاكمة فقط، بل من قبل أنظمة قوى اجتماعية مهيمنة.. الأولى تجتمع من دون جدوى تحت سقف جامعة الدول العربية، والثانية متشرذمة من دون جدوى تحت غطاء قوى حزبية، أو نقابية، أو تجمعات أصولية صرفة باسم الدين الإسلامي.



التجربة الاوربية وتقاليد القمة

عندما اقرأ فلسفة الاتحاد الأوربي من خلال انعقاد مؤتمراته.. أجد احتراما كبيرا من قبل المسؤولين الأوربيين في ما بينهم، حتى إن اختلفوا، فان خلافاتهم لا يمكنها أن تغدو شخصية تؤثر على نظامهم الداخلي، ولا حتى على أي جدول للإعمال سواء قبل مناقشته أو بعد اخذ أي قرار بصدده.. أجد اهتماما كبيرا من قبل دول الاتحاد الأوربي الأعضاء، بحيث تفتح كل دولة مواقعها للاستماع إلى الآراء والأفكار التي يشارك الناس بها، لمعرفة قياس الرأي العام في الأمور الكبيرة.. وتفتح صفحات وتنشر مقالات قوية من قبل مختصين وخبراء واستشاريين على الملأ ليقولوا كلمتهم في أدق التفاصيل.. لقد وجدت أن ثمة تقاليد قديمة وبروتوكولات أوربية لا يمكن تجاهلها في كل ما يدور في أية لقاءات، أو مؤتمرات وحتى على موائد الطعام البسيطة لا الفخمة.. وتتم اللقاءات من دون مناكفات، أو مشاغبات، أو ملاسنات، بل وحتى من دون استقبالات على بسط حمراء، وحرس شرف وطنين موسيقى.. علما بأنهم يمتلكون كيانات دول حقيقية لا كيانات كارتونية!
إن مؤتمراتنا سواء القمة أم ما دونها، لم تتعلم شيئا من تجارب غيرها، فملوكنا ورؤسائنا ـ كما يبدو ـ لا يقرأون ولا يتعلمون.. بل وليست لهم القدرة على سماع أية نصائح وأصول عمل.. إنهم يمثّلون أدوارا بروتوكولية مزيفة، ولكنهم لا يحسنون أداء واجباتهم عندما يجتمعون.. لا اقصدهم جميعا، بطبيعة الحال، فهناك قسم منهم قد ترّبى على تقاليد عالية في بيته، أو أسرته ولا يتنازل عنها.. ولكن هناك من وجد نفسه فجأة على كرسي الحكم بعد أن أتى من منظمة أمنية أو ثكنة عسكرية..

المصفقون: ازمة أخلاقية

إن قممنا العربية لم تجدد نفسها، وترسّخ تقاليد أساسية لها منذ خمسين سنة، ولم تفعّل دور الجامعة العربية وبأساليب نادينا بها منذ سنوات.. إنها تبقى تعيش أزمة أخلاقية قبل أن تساهم في تدهور تاريخنا.. وان على كل المسؤولين العرب أن لا تخدعهم كتابات تمجيدية ينشرها إعلاميون وسياسيون من حواشيهم، يصفقون لهذا يوما ولذاك في أيام أخرى.. فهؤلاء يعتاشون على هذا النظام أو ذاك.. إن علي المسؤولين العرب الاستماع إلى خبراء، وعليهم أن يكونوا متواضعين جدا لينزلوا ويلتقوا بالناس في الشوارع والمقاهي والحارات ليعرفوا ما الذي يريده الناس المحكومين أصلا. عليهم أن يتوقفوا عن المهاترات متفرقين، أو مجتمعين، فهم منقسمون حتى وان اجتمعوا في القمة.. وحتى إن دامت القمة أياما وشهورا وسنينا.. عليهم أن يتملكوا السلطة من خلال إرادة الناس ومحبة الناس لهم، لا من خلال امتلاكهم السلطة والناس وكل المصير.. لست ضد أي اسلوب لتبادل السلطة، ولكنني اريد ان ارى زعماء يعيشون في قلوب الناس، ويحققوا ما لم يحققه غيرهم، وان يتنافسوا في صناعة القرارات الخيرة، وان يساهموا في معالجة كل واقعنا المتهرئ.. عليهم أن يتعلموا من تجارب زعماء عرب حقيقيين سبقوهم في القرن العشرين، وكانوا برغم كل ما عرفوا به من هنات أو أخطاء أفضل بكثير مما نجده اليوم من مسؤولين.



مستلزمات الزعامة

إن الزعامة لا يمكن أن يتلبسها كل من حلّت السلطة بيديه. الزعامة: فن ومقدرة وكاريزما وحسن إدارة وسحر جماهيري.. الزعامة هدوء وتواضع وعلو همة وتحمّل للشدائد وترجمة إرادة الناس إلى عمل.. الزعامة مهارة وموهبة وتبادل ادوار سياسية مع الاحتفاظ بعمق كبير مع الآخرين.. الزعامة لا تنزل مستواها وتتدنى إلى الصغائر، فهي اكبر منها، ولكن عليها أن تراقب ما الذي يدور بين الصغار لتترجمه إلى قرار مع الكبار.. الزعامة خطاب وفعل لا فذلكة ومجرد كلام.. الزعامة حسن إدارة وتحقيق مقتضيات مصلحة عامة لا طغيان وقمع وخروج عن المألوف.. الزعامة تواضع وقوة ومشاركة للناس آمالهم وأحلامهم لا ترفّع وتجّبر وفخفخة ويبوسة أنف.. الزعامة قراءة ومتابعة وتعلم لا جهل أو غباء.. السؤال المهم: هل باستطاعة العرب ان ينجحوا في ان يؤسسوا مؤسسة قمة ناجحة؟ الجواب: نعم، بدليل نجاح مؤسسة قمة خليجية متمثلة بمجلس التعاون الخليجي الذي لم يزل له حيويته وخصوصيته مقارنة بجامعة الدول العربية التي لا يمكنها ان لا تعبّر اليوم عن هموم كل مجتمعاتنا كونه رهينة لكل التناقضات العربية!



وأخيرا: دعوني اقول شيئا


لست معلما، ولا مرشدا، ولا واعظا.. ولست مصفقا، ولا مطبلا، أو مزمرا.. ولكنها صيحة بوجه واقع سياسي متهرئ لا يدرك من هو مسؤول أو زعيم كيف يخطو خطواته الحقيقية، ليسجل تاريخا متوازنا بينه وبين الناس.. ليرسم نقطة حقيقية في الرمال من اجل الانطلاق.. فالقمة العربية، إما أن تصحح نفسها كي تعالج واقعنا الذي تفترسه التحديات، أو تتوقف تماما عن تبادل الردح والشتائم حينا، والتصفيق للمبادرات الساذجة أحيانا أخرى. فهل سنشهد خطوات حقيقية لزعامات عربية حقيقية.. هذا ما ستعلمنا به السنوات القادمة.



نشرت في ايلاف ، 4 ابريل 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل



www.sayyaraljamil.com



Opinions