8 شباط، مـا أشـبه اليوم بالأمس ـ 1
للـمرة الأولـى ، أكتـب عـن 8 شـباط 1963 ، لأنـني أرى أن الأمـور تسـير فـي العـراق فـي الطريـق المؤلـم الـذي شـهدته تلـك الأيـام . . قـد يكـون مـا أتـناوله معروفـا فـي غالبيـته لمـن هـم في عمـري مـن القـراء وأكبـر ، ولكـنني أرى أنـه سـيفيد أولئـك الـذين لـم يعـاصروا تلـك الفتـرة . . ولأنـني أيضـا لسـت مـن هـواة تدبيـج العبـارات الإنشـائية فـي مـدح مـا أقبـله وذم مـا أخالفـه فـي الأمـور ومنـها السـياسية ، أو الدخـول في تحليـلها وأنـا واثـق بـأنني لسـت متـمكنا مـن إعطـاء الشـؤون حقـها . .ولأن القضـايا لا لاتعـالج بالأقـوال الإنشـائية وفضـائل الثـناء الجوفـاء ، وصـب الـذم إنطلاقـا مـن الإكـراه ، والتحليـلات المزاجيـة . . وإنـما مـن خـلال إيـراد حقيقـتها ونتـائجها والإتعـاظ بعبـرها ، وبـذلـك أرى أن الموضـوع الـذي يسـتعرض حقبـة تأريخية ينبـغي أن يكون موثـوقا بكـل الجوانـب التـي يتـناولها . .
وأود أن أشـير إلـى أنـني أكتـب الآن للتـأريخ فـي الأمـور التـي أتنـاولها ، ولـذا لسـت بصـدد تبـرئة الشـيوعيين مـن أخطـاء وأفعـال ارتكبـوها ، متـنوعة منـها : مـا جـاء عـن قصـد ، أو فـرض عليـهم ، أو حصلـت بسـبب ضغـوط سـوفيتية ، أو أحقـاد ومنافسـات سـياسية أو حتـمتها الظـروف عليـهم ، أو تصـرفات شـخصية وانعكاسـات للتسـيب . . وقـد شـخصوا هـم الكثيـر منـها واعتـرفوا وانتـقدوا غـالبيـتها فـي مؤتـمراتهم وبيـاناتهم ، ويبـدو أنـهم تجاهلـوا قسـما منـها لأسـباب تخصـهم هـم .
ولكـي أحـقق الـربط الضـروري ، سـأقـدم فـي القسـم الأول لمحـات للفتـرات التـي عشـتها مـدركا أمـورها قبـل 8 شـباط 1963 ، ثـم أخصـص القسـم الثـاني لمـا قاسـيته ورأيتـه وسـمعتـه وقـرأته موثـوقا لمـا نتـج وأعقـب مأسـاة 8 شـباط ، وللتـأريخ أقـول ، وأنـا الـذي عشـت الفتـوة والعتـبة الأولى مـن شـبابي مـع الأيـام الأخيـرة للعهـد الملكـي ، حيـث كنـت معـاديا وحاقـدا على ذلـك العهـد منـذ بـدأت مرحلـة الدراسـة المتوسـطة واشـتركت فـي تظاهـرات عنيـفة ضـده ومـزقت بالإشـتراك مـع أصدقائـي في تللسـقف صـور الملـك فيصـل الثـاني كلمـا دخلـنا بيتـا ووجـدنا صـورته فيـه ، لأنـني كنـت أنظـر إلـى عهـده مـن زاويتـه السـياسية المسـايرة لرغبـات الإنكلـيز مـن دون جوانبـه الأخـرى . .
لكـن ، اكتـشـفـت مـع الأيـام ، أن سـبب حقـدي على ذلـك العهـد كــان " لاتعـرفني إلاّ بعـدما تجـرب غيـري " فقـد أقنعتـني الأيـام أنـه كـان ، بصورته العموميـة ، مـن أفضـل العهـود ( كعهـود ، وليس فتـرات قصـيرة منـها ) التـي جـاءت بعـده حتـى اليـوم ، أمنـا وعـدالة إجتماعيـة وقضائيـة وقانونيـة وبعـدا عـن الطائفيـة واحتـراما للمواطنـة ( كـان للمسـيحيين دائمـا سـتة نـواب بيـن مئـة عضـو يتكون منـهم مجلس النـواب في ذلـك الوقـت ، وعضـو أو عضـوان في مجلس الأعيـان المتكـون مـن أربعيـن عضـوا ، وعضـو أو عضـوان فـي كـل وزارة ) وضـآلة فـي الرشـوة وسـرقة أمـوال الدولـة . .
نعـم ، كانـت هنـاك أحزاب يقـول النـاس عنـها ( للسـنة ، لأن رئيسـها سـني ) كالإتحـاد الدسـتوري لنـوري السـعيد ولكـن بالحقيـقة ربـما كـان عـدد الشـيعة فيـه أكثـر مـن السـنة وفيـه مـن المسـيحيين والإيزيـدية وغيـرهم عـدد ليس قليـلا ، و ( للشـيعة ، لأن رئيسـها شـيعي ) كحـزب الأمـة الإشـتراكي لصـالح جبـر ولكـن في حقيـقته كـان يضـم مـن السـنة أكثـر مـن الشـيعة وكـان فيـه أيضـا مسـيحيون ( أعـرف منـهم الصحافـي التلكيـفي اسـكندر المعـروف ) وأيزيـدية وغيـرهم ، وكانـت هنـاك عشـرات الأحـزاب العلمـانية العـلنـية والسـرية . .
ولكـي لا أطيـل وأتشـعب والجَـعبـة تختـزن الكثيـر ، ، أذكـر أن الكاتـب اليسـاري علـي الشـوك كتـب في أحـد أعـداد جريـدة ( الحيـاة ) أدلـة مؤكـدة علـى طيـبة نـوري السـعيد ونـزاهتـه ومقـته للرشـوة والمحسـوبية وبسـاطته واحتـرامه لملكيـة الآخـرين ، وأتـذكر أن النـاس كانـوا يشـتمون الأميـر عبـدالإلـه لأنـه كـان يملـك معمـلا ( لنسـيج الخـام الأبيـض ) لتـدبير أمـوره ، ولكـن بعـد الإطاحـة بالملكيـة لـم يسـتطع أحـد أن يثـبت أن فيصـل الثـاني أو عبدالإلـه أو نـوري السـعيد كـان يملـك أكثـر ممّـا يـوفـر مـن رواتبـه ومخصصـاته . .
ونشـر أخيـرا طبيـب عـراقي ( نسـيت اسـمه ) كـان شـارك فـي معالجـة عبدالكريـم قاسـم مـن جـروحـه إثـر محاولـة إغتـياله ( شـارك فيـها صدام ) فـي تشـرين الأول 1959 يعيش حالـيا فـي الأردن ، كتابـا يتـناول ذكرياتـه ويقـول فـي إحـدى فقـراته : حضـرت إفتـتاح فيصـل الثـاني وبعـده عبدالكريـم قاسـم معـارض فنيـة . . هـذا العـراق لايعرفـه سـوى أصحابـه ، فالجيـل الحـالي لـم يسـمع مـن العراق إلاّ أخبـار الحـروب والقتـل والجثـث بـلا رؤوس . . أيـن ذلـك العـراق ملـك وبعـده زعيـم يحضـران حتـى افتـتاح معـارض فنيـة ؟ عليـنا أن نبكـي أنفسـنا في عـراق اليـوم وننـتظر عراق الغـد ، لنـرى ! .
وأنتـقل إلـى العهـد الجمهـوري ، وأقـول بثـقة أن عبـدالكريم قاسـم بشـخصه كـان نزيـها عفيـفا إلـى أبعـد الحـدود ، وأنـه جـاء بقـوانيـن وطنـية تأريخيـة إقتصـادية وعمـرانية ووطنيـة واجتماعيـة ( للمـرأة ) وغيـرها ، لكنـه بالتقديـر الـذي تكـوّن لـديّ عـنه ، أن قاسـم كـان عسـكريا فـذا صالحـا لكـل مناصـب القـوات المسـلحة ، ولكـن لـم يكـن أهـلا لتـولي السـلطتين السـياسة والإدارية ، ولـذا فـإن فتـرة الريـادة الوطنيـة والشـعبية عـنده لـم تتـجاوز السـنة الأولـى مـن حكمـه . .
لأنـه ( وسـأقدم أمثلـة لكـل مـا أذكـره ) كـان عنـيدا إلى حـد التخبـط المزاجـي يقـرر مـن دون التحقـيق فـي حيثـيات الأمـور ، وعاطفيـا ينخـدع بسـرعة حتـى فـي القـرارات الخطيـرة ، ويعتـمد على المنـافقين ويتجنـب الأوفيـاء ، ويـرى في بـث الإنقسـام بيـن الآخـرين قـوة لـه ، وهمـه مسـك العصـا بمنتـصفها وتغمـيض عينـيه لكـي لايـرى الذبـاب الـذي يسـقط والأوسـاخ التـي تـتجمع عليـها ، لاتهمـه الفوضـى داخـل القـطار وهـو يواصـل سـيره على السـكة والزعيـم ( هـو ) ملتـزم بمقولتـه " عفـا اللـه عمّـا سـلف " ، ومغـرور بنفسـه راغبـا الإطـراء وتشـبثات السـلطة إلى حـد الإعتـقاد بفـشـل ذريـع لكـل مـن يتحـرك ضـده . .
وبذلـك ، فهـو واقعيـا يشـكل السـبب الرئيسـي فـي فسـح المجـال لكـل الفوضـى التـي حصـلت فـي عهـده الـذي امتـد لأقـل مـن خمس سـنوات ، ومهـد لمأسـاة 8 شـباط . . وأقـدم أمثلـة أراهـا تـدعم الصـورة المتـكونة عـندي على قاسـم وممارسـاته فـي السـلطة ( والحقيـقة ، أنـا لـم أكـن قريـبا منـه ، وإنـما لـديّ أفكـار مـمّا تابعـته عـن بعـد فـي وقـت قاسـم وبعـده ، سـماعا وقـراءة وصحافـة وإذاعـة ولقـاء مـع معـارف فـي بغـداد لهـم نـوع مـن الإطـلاع الواقعـي . . ) .
إنـه كـان عنيـدا . . ، مثـلا ، بعـد حـوادث كركوك في تموز 1959 ، جاءتـه امـرأة تركمانيـة مـن كركوك تشـرح لـه وتبكـي وتمثـل ( جرائـم الشـيوعيين ) وفـورا زمجـر وغـضب ، وعلـى رغـم كـل التوضيحـات وطلبـات التأكـد مـن الحقيقـة قبـل الإسـراع في إجـراءات قـد تكـون لهـا نتائـج وخيـمة ، التـي تحـدث بـها كـل مـن فاضل عباس المهـداوي ووصفـي طاهـر وطـه الشـيخ أحمـد مـع قـاسم ، فقـد ظـلّ متمسـكا بعنـاده بشـكل بـدا لهـم وكأنـه كـان ينتـظر ذريعـة وأصـدر أوامـر متـتالية بأقـالة كبـار العسـكريين الشـيوعيين والوطنيـين الأوفيـاء فـي الجيش ( منهـم داود الجنـابي قائـد الفرقة الثالثـة التـي مقـرها ـ فـي حينه ـ كركوك ) والشـرطة ، وأطلـق أيـادي غـلاة الرجعيـين والمتآمـرين عليـه بالـذات في الشـرطة والأمـن ، الذيـن كانـوا يتلهـفون لمثـل هـذه الفرصـة ، فـي كركوك والموصـل باعتـقال مـن يشـاؤون بذرائـع إرتكـاب جرائـم في كركوك وخلال تمـرد الشـواف 1959 في الموصل . .
وتمـادى فـي عنـاده ، إلـى حـد أنـه لـم يكتـف بـأوامر الإقـالات والإعتـقالات ، وإنـما ذهـب لافتـتاح كنيسـة مـار يوسـف الكلدانيـة في بغداد وألقـى خطـابا إرتجاليـا تـم نقلـه مباشـرة بأمـر منـه مـن محطـات الإذاعة والتلفـزيون العراقية ، مـلأه بعبـارات الإتـهام والوعيـد والعـقاب والتحـذير للشـيوعيين نـادرا مـا يمكـن أن يصـدر مثلـه علنـا مـن رئيس دولـة مهمـا كـان عـدوا للشـيوعية ، وإطـلاقه في مناسـبة دينـية لا عـلاقة لـها بهـذه القضـية وبمثـل هـذه الأمـور .
وعلمـت فيمـا بعـد أن الذيـن حرضـوا علـى عمليـات السـحل التـي حصلـت أثنـاء تمـرد الشـواف في الموصل لـم يكونـوا شـيوعيين وأن مـن كان يلقـب نفسـه رئيس السـحالة إسـمه عبدالسلام وتـأكد فيـما بعـد أنـه كـان يعمـل للإستخبـارات البريطانيـة . . كمـا علمـت مـن مصـادر عـدة بيـنها تركمانيـة أن عمـلاء الإنكليـز فـي شـركة نفـط كركوك هـم الذيـن رتبـوا لكـل مـا حصـل فـي كركـوك ومـا تبعـه ، وهـذا يؤكـد مـا قرأتـه فـي مذكـرات البطـل الراحـل تـوما تومـاس ، وكـان قيـاديا شـيوعيا في كركوك أثنـاء حوادثـها ، بـأن الشـيوعيين كانـوا ضـد كـل مـاحصـل وأن الذيـن أثـاروها هـم مـن الرجعيـين والمندسـين مـن فصـائل الحاقـدين التـركمان وغيـرهم .
وعـاطفيا كـان قـاسم ينـخدع ويتـأثر ويتصـرف بسـرعة . . ، فهـو مثـلا ، فـي خريـف 1958 حصـل تجمـع لمئـات عـدة مـن الطلبـة الراسـبين أمـام مقـره فـي وزارة الدفـاع وهـم يهتـفون لـه ، فـأطل عليـهم مـن نافـذة مقـره وطلبـوا مسـاعدته ، فـأبلغـهم حـالا بأنـه سـيصدر قـرارا بزحـف كـل الطلاب الذيـن لـم يجتـازوا صـفهم واعتـبارهم ناجحيـن إلـى الصـف التـالي ، وهـذا مـا حصـل مجـردا مـن التـفكير بالعـواقب الأخلاقيـة والنفسـية والعلميـة ، حيـث انـتقـل كـل طـلاب العـراق الراسـبين وغيـر المـداوميـن والمشـاركيـن فـي أي دراسـة أو إمتحـانات في صـفهم إلـى الصـف التـالي ، وأنـهى الدراسـة آلاف الطلبـة الـذين لـم يداومـوا يـوما في الخامس الأعـدادي مـن خـلال بكـالوريا لـم يشـاركوا فيـها ، وأصـبح حالـهم محسـوبا دراسـيا مثـل غيـرهم الذيـن واظبـوا على الدراسـة وكـل متطلباتـها .
ويعتـمد على المنافقـين . . ، فقـد حدثـني الملحـق العسـكري في بلغـراد عـام 1983 ( وهـو بعثـي منـذ كان طالبـا في الثانوية ) أنـه ، هـو وعـدد مـن الضـباط ( كان هـو في عام 1959 برتبـة ملازم أول ) الذيـن طـردوا مـن الجيش إثـر تمـرد الشـواف ، كـانوا قـدموا في صـيف 1959 وثيقـة بالـولاء لعبدالكريم قاسـم طالبـين مقابلتـه ، فاستـدعاهم إلى وزارة الدفـاع ، وعـندما دخـل القاعة التي كانـوا ينتظـرونه فيـها ، فأخـذوا له التحيـة وتقدمـوا واحـدا بعـد آخـر لتـقديم قسـم الولاء لـه مرفوقـا بعبـارات سـيدي وقائـدي وزعيـمي . . فقـال لهـم : مـاهـي مطالبـكم ؟ فأجـابوه : سـيدي عـودتنا إلى الجيش لخدمتـكم والدفاع عـن أوامـركم ، فقـال لهـم : أنتـم مـن اليـوم تعـودون إلى وحـداتكم مـع احتسـاب مـدة بقـائكم خارج الجيش خـدمة لكـم ، فصـفقوا وهتـفوا ( نحـن فـداء لزعيـم العراق والأمـة العربية الأوحـد ) ، وأضـاف قاسـم : وهـل مـن مطالب أخـرى لكـم ؟ أجـابوا : سـيدي أكيـد يوجـد شـيوعيون في وحداتـنا وسـيعادونـنا ويثـيرون لنـا المشـاكل ، فقـال لهـم : إعتـبارا مـن الغـد أكتبـوا مباشـرة تـقارير لـي عـن كـل مـن يسـئ إليـكم وسأنـقله ، ( فصفقوا له وهتـفوا . . ) وهكـذا لكـل مـا طالبـوا بـه . .
وأضـاف الملحـق العسـكري في بلغـراد شـارحا لـي مـا تبـع ذلـك وقـال : فـي اليـوم التـالي التـحقنا بوحـداتنا ومعـنا أوامـر موقعـة مـن قاسـم ، وبـدأنا بكتابة التـقارير على كـل مـن نشـك فيـه ، وبعـد أيـام أصـبحت عشـرات الوحـدات العسـكرية تحـت سـيطرة البعثيـين والقوميـين .
وحـدثني سـامرائي ( وكان أثنـاء الحديث عام 1972 متـقاعدا ) عمـل معـاونا لمدير الشـرطة العـام ومحافظـا للكـوت وكـان قبـل ذلـك في وقـت عبدالكريم قاسـم مديـرا لشـرطة البـلدة ( مدينـة الموصـل ) في محافظة الموصل ، واشتـرك في إحـدى محـاولات اغتـيال قاسـم عـندما كـان في زيـارة لمنطقـة بمحافظـة الكـوت ( لـم يكن بعثـيا وإنـما محسـوبا على القوميـين ) أنـه ( مـن أجـل إيقـاع قاسـم في المشـاكل واسـقاطه ) فقـد كـان القوميـون والبـعثيون ومنـهم وزير داخليـته أحمد محمد يحيـى ومحـافظ الموصل عبداللطيف الدراجي ومدير شـرطة محافظة الموصـل اسـماعيل عبـاوي وقـادة في الجيش والأمـن ورجـال ديـن . . حركـوه للقيـام بعمليات ضـد الأكراد ورفض التـفاهم معهـم ، وكذلـك أثـاره قادة يكرهونـه في الحكومة والجيش والأمـن للمطالبـة بالكويـت .
وكـان يـرى في بـث الإنقسـام . . ، قـوة لـه ، أي كلمـا زاد العـداء بيـن الأحـزاب العراقيـة يضـعفها كلهـا مـا يجعلـها خاضعـة لنـفوذه ، حتـى الحـزب ( الوطنـي الديمقـراطي ) بقيـادة كامـل الجادرجـي ، الذي كـان يعتـبره أقـرب الأحزاب إليه ، عمـل على تقسـيمه بتحريـض وزيـره المفضـل ( للمالية ) محمـد حـديد وجماعـته للإنسـحاب منـه وتشـكيل حزب آخـر حظـي بدعـم قاسـم الواسع ، كمـا أقنـع داود الصائغ ( شـقيق المطران داود الصائغ وعـم يوسف الصائغ ) وكـان قيـاديا شـيوعيا قديـما لكنـه توقـف عـن العمـل الحزبـي قبـل 14 تمـوز 1958 ، بتشـكيل حـزب بأسـم ( الحزب الشـيوعي العراقي ) وأعطـاه رخصة جريدة لحزبـه باسـم ( المبـدأ ) ومسـاعدات مالية ضخمـة ، ورفض إعطـاء إجـازة للحزب الشيوعي الأصـيل وألغـى بذرائع واهيـة صـدور صحيفتـه ( إتحـاد الشـعب ) . . وحتـى الذريعـة السـخيفة بعثـور رجـال الأمـن على قنبلـة في حديقـة مقـر صحيفـة ( البـلاد ) لورثـة روفائيـل بطـي استـغلها مـن أجـل تعطيـل هـذه الجريـدة التأريخيـة لأنـها كانـت ذات نهـج يسـاري ، وصـارت هـذه القضـية ضـد البـلاد متداولة بسـخرية بيـن الصحافيـين والسياسـيين في ذلـك الوقت .
كمـا سـمح لمرجـع الطائفة الشـيعية عبدالمحسـن الحكيم ( والـد عبدالعزيز الحكيـم ) بـإصدار فتـوى تحريـم الشـيوعية ، وكذلـك أتـاح المجـال لعـدد مـن رؤسـاء الكنائس المسيحية بدخـول المعمـعة واستـغلال مجالاتـهم الدينـية ( لـي أمثلـة كثيرة على ذلـك ) لمحاربة الشـيوعيين . .
ومـن الأمـور التي تداولهـا العراقيون في ذلـك الوقـت ، أن صـالح زكـي توفـيق ( كان برتبـة لـواء في الجيش في العهـد الملكي ، فنقلـه قـاسم إلى وظيفة مدنيـة عاليـة أسـوة بكـل الضباط الذيـن كانوا يحملـون رتـب أعلى مـن زعيـم التي كان يحملهـا قاسـم حيـن قيـامه بثورة 14 تمـوز ) وكـان مديرا عـاما للسـكك الحديدية ويكتـب مواضـيع في الصحف ( قيـل أنـه كان يطلـب مـن شـيوعيين في السكك كي يكتبـوها لـه ويضـع هـو فقـط اسـمه عليها ) تعطـي إرشـادات وطنيـة تـقدمية لصيانة ثـورة 14 تموز ، وبعـد حـوادث كركوك أحالـه عبدالكريم قاسم على التـقاعد ، فذهـب صالح زكي توفيـق إليـه مستـفسـرا عـن السـبب ، فقـال لـه قاسـم : لأنـك تكتب على النهـج الشيوعي ، فأجابـه صـالح : أنـا أكتب هكذا لأنـه نهجـك ، فقـال قاسـم : أنـا بـدلت الكـيـر ( مغيـر سـرعة دفـع السـيارة ) ، فأجابـه صالـح : وأنـا مـن الآن بـدلت عشـر كيـرات ، فقـال قاسم : غـدا عـد إلى وظيفـتك ، فعـاد صالح زكي توفيق إلى وظيفتـه مديرا عـاما للسـكك وأول إجـراء إتخـذه فصـل كـل الذيـن كان يطلب منـهم كتابة المقالات لـه ( لأنـهم فوضويـون ) وبـدأ بكتابـة مقالات ( قيـل أنه طلب مـن أعـداء الشيوعيين كتابتها لـه ) تـناقض كـل مـا كـان ينشـره باسـمه سـابقا .
وكـان عبدالكريم قاسـم يدعـي أنه يمسـك العصا مـن منتصفها . . لأنـه ( إبـن الشـعب البـار وفـوق الأحزاب والميـول والإتجـاهات ) وهـذا مـا جعل الأشـكال والألوان يتجمعون حوله ويحصلون على المناصـب الرفيعـة في الحكومة والجيش والأمـن والإدارة على أسـاس أنـهم ( قاسـميون ) وكـان كثيرا مـا يؤثرون عليه لتغيـير وعـوده وقراراتـه ، ومنـها ، في مؤتمـر عـام 1959 لأتحاد الأدبـاء العراقيين وكـان يرأسه الشاعـر محمد مهـدي الجواهري ، ألقـى كلمـة منقولة مباشـرة مـن محطات الإذاعة والتلفزيون العراقية ، ومـما قاله فيـها : ( سـنأخذ منكـم رئيسـكم ـ الجواهري ـ لنعينـه وزيرا للثقـافة والإعلام ) وكـان المتوقـع أن يصدر في مسـاء اليوم نفسـه مرسـوم بتعييـن الجواهري وزيـرا ، لكـن ( القاسـميين ) تجمعـوا حولـه كالذبـاب مـرددين : إن الجواهري أخطـر مـن الشـيوعيين . . وأقنـعوه بالتخلي عـن وعـده الذي انتشـر في العـالم كلـه ، وخضـع للقاسميين متـناسـبا عنـاده .
وكـان عبدالكريم قاسـم يجـاوب ( المهـم أن قطـار العراق يواصـل مسـيره . . ويعني بقيـادته ) عـندما ينقـل له أحـد ، مثـلا ، أخبـار جرائـم القـتل والإعتـداءات والفوضـى وتجاوزات موظفـي الإدارة والشرطة . . ألخ ، التي ترتكبها عصـابات البعثيـين والقوميـين والأخوان المسـلمين وغيرهم مـن السـاعين لإسـقاط قاسم في مناطـق مختلفـة مـن العراق ، وكثيـرا مـاكان للبـعيدين عـن مكتبـه يخـرج قميصـه الذي كان لابسـه أثنـاء محاولة إغتيـاله ( 1959 ) وعليـه دمـه ، والذي كـان يحفظـه في خـزانة فـي مكتبـه ليقـول : وانـا حـاولوا قتـلي .
وأمـا بالنسـبة للبعثـيين الذيـن اشـتركوا بمحاولة إغـتـياله وحكـمت عليـهم ( محكمـة الشـعب ) التي كان يرأسـها فاضـل عبـاس المهداوي ويتـولى الإدعـاء العـام فيـها مـاجد محمد أميـن ، بالإعـدام والسـجن بفتـرات متباينـة بحسـب مقـدار مشـاركتهم في الإغتـيال ، فقـد عفـا عـنهم قاسـم ( إنطلاقا مـن شـعاره عفـا اللـه عمـا سـلف ) وذلـك عنـدما جـاءه ( عام 1960 ) ملـك المغـرب محمـد الخامس ( جـد محمـد السـادس ملـك المغـرب الحالـي ) وطلـب مـنه العـفو عنـهم ، فاسـتجاب حالا لطلب الملـك الذي لقبـه قاسـم ( بالملـك الشعبي ) واحتـراما لمجيـئه أهـدى قاسـم للجيش المغربي سـربا مـن الطائرات العسـكرية .
وكـان قاسـم مغـرورا . . ، ويشـجع الإطلاق عليـه ألقـاب الزعيم الأوحـد وابـن الشـعب البـار . . وغيـرها ويطـري على مـن يؤلـف الأغـاني التي تمجـده مـثـل ( مرحى يا قـائدنا . . ) التـي كتبـها معلـم مصلاوي ( نسـيت اسـمه ) كـان يدعـي القوميـة عـام 1959 . . وظـل قاسـم يتماطـل بذرائع ووعود طيلـة عهـده فـي إجراء الإنتخابات النيابيـة لكـي يبقـى الأوحـد . . وكـان يعتـقد بفشـل كـل مـن يتحـرك ضـده ، ولهـذا رفض القيـام بـأي إجـراء وقائـي رادع على رغـم أن مؤشـرات كثيـرة كانـت تـدل على قـرب قيـام حركـة رجعيـة ضـده قـبل أكثـر مـن شـهر مـن 8 شـباط ، إذ كـان المتـآمرون قـد نظمـوا إضـرابات للطلبـة وسـائقي سـيارات الإجرة وغيـرها تهيئـة لتحركـهم ، كمـا أن الإنضـباط العسـكري الذي كـان آمـره عبدالكريم الجـدة اعتـقل نائـب رئيس قيـادة البـعث علي صـالح السـعدي وغيـره مـن زعمـاء التـآمر قبـل فتـرة مـن 8 شباط ، وقدمـوا معلـومات عـن قـرب موعـد التحـرك لإسـقاط الحكم ، ولكـن قاسـم رفض إتخـاذ إجـراء رادع مهـم ضـد المتآمـرين ، وكـان يجـاوب دائمـا : دعهـم يتحركون مثـل الشـواف ليلقـوا مصـيره . . وحتـى عـندما تجمـع مئـات الآلاف مـن المواطنيـن أمـام وزارة الدفـاع طالبيـن السـلاح للدفـاع عـن الثـورة ، والتـقاهم وهـو في طريقـه إلى مقـره بالوزارة فـي السـاعة الأولى مـن التمـرد ، كـان جـوابه لهـم : المتآمـرون أطفـال قلائـل سـينتهون فـي أقـل مـن سـاعة . .
وحـال بـدء مأسـاة يـوم الجمعـة 8 شـباط 1963 اغـتال المتـآمرون قـائـد القـوة الجويـة ( وكـان القـائد العسـكري التـقدمي الوحيـد الـذي لـم يحيـله قاسـم على التـقاعد ، لكنـه أبقـاه مـن دون صـلاحيات حيث جعـل قاسـم صلاحيات القـوة الجوية بيـده مباشـرة ) جـلال الأوقـاتي ، فـي منـزله على رغـم وحـدة الجنـود التـي كانـت تحرسـه ، وأخـذ ( قاسـميو قاسـم ) الـذين كانـوا فـي وزارة الدفـاع للدفـاع عـنها ، يتركـون الوزارة مـع حلـول ظهـر ذلـك اليـوم المشـؤوم ، حتـى أحمـد صالح العبـدي ( رئيس أركان الجيش والحاكـم العسـكري العـام ، الذي كـان معروفا بمعاداته للتـقدميين ) و كـان يذكره قاسـم في مجالسـه بقولـه ( إنـه عبـدي الوفـي ) غـادر وزارة الدفـاع ، وعـندما لاحظـه قاسم وهو يغـادر قـال لـه ( حتـى أنـت يـاعبـدي تغـادر ) فـرد مـرافـق العبـدي على قاسـم ( أسـكت وسـد حلقـك ) . .
ووجـد قـاسـم نفسـه وحيـدا في وزارة الدفـاع مـع عـدد مـن الشـيوعيين والتـقدمييـن ، بيـنهم : وصـفي طاهـر والمهـداوي وطـه الشـيخ أحـمد والجـدة ومـرافقه قاسـم الجنابـي . . وبحسـب مـا توافـر مـن معلومات فـإن قاسـم ظـل يحـدق في السـماء ، فقـال لـه المـهداوي ( لات سـاعة منـدم ) فاتصـل قاسـم في اليـوم الثاني السـبت للإنقـلاب بالتلـفون بعبدالسلام عارف الذي كـان فـي مبنـى الإذاعة والتلفـزيون فـي الصالحيـة حيـث المقـر المؤقـت لقـيادة المتـآمرين عارضـا الإستسـلام ، ورفـض ذلـك وصفي طاهـر والجـدة وانتـحرا مـع آخـرين رفضـوا الإستسـلام . .
وجـاءت دبـابات إلـى وزارة الدفـاع يـوم السبت ، ونقلـت قاسـم ومـن معـه إلى مبنى الإذاعة والتلفـزيون ( وهـذا مـا حدثـني بـه أيضـا الملحق العسكري نفسـه في بلغـراد الـذي كـان ضمـن الذيـن قابـلوا قاسم عام 1959 وقدمـوا لـه الولاء وأعـادهم إلى الجيش ، والذي كـان في مبنـى الإذاعة ضمـن مجموعـة مـن العسكريين البعثيـين القياديـين المشـاركين في الإنقلاب وحاضـرا محاكمة قاسـم ) وحاكمـهم بسـرعة شمس الدين عبداللـه ( رئيس المجلس العرفي العسكري الأول طيلـة عهـد قاسـم ، والمشـهور بـإصدار أحكـام الإعدام ضـد التـقدميين الذيـن يحيلهم الحاكم العسكري العام العبـدي إلى مجلسـه لمحاكمتـهم ، وكان المتـداول عـن شـمس الدين عبداللـه أنـه عنـدما يذكر المهداوي ووصفي طاهر لقاسم خلال حكمـه عـدم عدالة شـمس الدين في أحكامه ، كان قاسـم يجـاوب : أنـا واثـق مـن عـدالته وإخلاصـه ) وقـال قاسـم في مبنـى الإذاعة لعبدالسلام : أنـا عفـوت عـنك وينبـغي أن تـرد بالمثـل ، فـرد عبدالسلام الكل هـنا يرفضون العـفو عـنك . .
فتـم إعـدامهم جميعـا حـالا ( باستـثناء قاسم الجنابي ، لأن حردان التكريتي الذي تذكر فضـل الجنابي عليـه اخـذه وأخرجه قائلا إنـه مرافق لاغيـر ، ونقـل الجنابي إلى أحـد المعتـقلات ثـم أطلق سراحه بجهـود حردان ) وقيـل ـ الملحق العسكري لـم يؤكـد لـي هـذا رغـم استـفساري منـه عنـه ـ بحسـب مـا تداول النـاس ، أنـه تـم وضـع جثـث الذيـن أعدمـوا ( وأيضا وصفي والجـدة ) في أكيـاس مـع أثـقال ورميـت في نهـر دجـلة . . أمـا ماجـد محمد أمين فقـد كان مختـبئا ( وكان متزوجا مـن شـقيقة محمد سـعيد الصحاف ، ولماجـد الكثير من الفضل على الصحاف ، وعـندما علم الصحاف بمحل إختـباء مـاجد ذهب ليـبلغ المتآمرين بمكانـه ، فعلمت أختـه بذلـك وأسرعت إلى زوجها ماجد لإعلامه ) فأسـرع ماجـد إلى كـراج نقليـات النهضـة مرتديا الملابس العربية لإخفـاء شـخصه وركب باصـا أهليـا متجهـا إلى منطقة العمارة حيـث أخـواله ، لكـن في الطريق تـم التعـرف عليه فانتحـر . . وبالنسـبة لصـدام فقـد كـان في ذلـك الوقـت لاجئـا في مصـر وسـاكنا في شـقة بالقاهرة مـع عبدالكريم الشـيخلي ( المشـترك معه في محاولة اغتـيال قاسم عام 1959 ) وكـان عبدالكريم في ذلـك الصباح ( الجمعة 8 شباط ) ناهضا يستمع الأخبار مـن الراديو وعلم بالأحداث ، فأسـرع إلى صـدام الذي كان لايزال غـارقا في نـوم عميق وأخـذ يصـيح بـه ( صـدام ثورة صدام ثورة ) . .
ونتـرك تنـاول بقيـة مـا جـرى وأي أضـافات أو تصحيحـات أو ملاحظـات واعتـراضات للذيـن لهـم معلـومات . . وأمـا أنـا ، فسـاواصـل مـا عشـته ورأيتـه وسـمعتـه فـي حلقـة مقبلـة . . فقـد كنـت فـي حيـنه فـي قـرية للأيزيديـة في قضـاء سـنجار قـرب الحـدود السـورية . . ولكـن في ختـام هـذه الحلقـة لابـد أن أقـول قناعـتي بصـراحـة : إن عبدالكريـم قاسـم لـم يكـن أكثـر مـن شـهيد تـهاونه وممارسـاته وأخطـائه . . فـي حيـن أن كـل الآخـريـن ( وعـددهم بالآلاف ) مـن التـقدميين والأوفيـاء الذيـن قتـلوا أو أعـدموا إعتـبارا مـن فجـر يـوم 8 شـباط 1963 وتبعـاته في الأيـام والأشـهر التالية هـم شـهداء الوطنيـة والإخـلاص لثـورة 14 تمـوز 1958 .