Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

التأويل المُضاعَف والعكسيّ للنص الأدبي ..3/3- القسم الثاني


هذه المادة بثلاثة أجزاء تحت سقف العنوان أعلاه وسترد تباعا، وهي:
1. حول النقد ومظلته السايكولوجية.
2. حول الشعر والتأويل، وثنائية الشكل والمضمون.
3. توطئة حول نقد النقد، ومثالين عن مادتين نقديتين.

توطئة حول نقد النقد، ومثالين عن مادتين نقديتين - القسم الثاني:

ما سنتناوله هنا ليس معنيا بما ورد عن اشكالية الترادف الاصطلاحي التي تطرقنا لها هامشيا ضمن التوطئة العامة في القسم الأول. وفي هذا القسم، لسنا بصدد نقد النص الشعري فهذا خارج اهتمامنا، إنما بصدد قراءة الناقد للنص وأبعادها. وما نجده مناسبا للوقوف عنده.

المادة الأولى: قراءة الأستاذ سلام كاظم فرج لقصيدة "من الناعور، من سِوار النهر" للشاعر سامي العامري. / الرابط مدرج أسفل الصفحة
وقد جاءت قراءته تحت عنوان " النقد الأدبي: جدلية الشكل والمضمون في الشعر المعاصر، قصيدة العامري (من الناعور..من سوار النهر) نموذجاً "./ نفس الشيء

يبدو العنوان مثيرا، فثنائية "الشكل والمضمون" استحوذت على إهتمام ملفت في الأوساط الأدبية، وباتت "جدلية" إذ تعددت حولها الأراء والمفاهيم وتباينت. وقد اختار الناقد قصيدة العامري نموذجا ليسلط الضوء من خلال قراءتها على هذه "الجدلية". أو ليتخذ من الجدلية مدخلا لتسليط الضوء على القصيدة بقراءتها قراءة تحليلية على المستويين الشكل والمضمون، وحسب فهمنا للعنوان.
بعد توطئة الناقد حول موضوعة "الشكل والمضمون" وبصفتها إحدى أهم الأسس المسببة للاختلاف بين المدارس الشعرية وحسب تعبيره، استهل قراءته بالقول:
"ولامية الشاعر العامري (من الناعور.. من سوار النهر..) اعتمدت الشكل الكلاسيكي للقصيدة العربية. في إخلاصها للعمود الشعري من وزن وقافية.. متخذة من بحر الكامل القالب الذي صبت فيه. فكانت موسيقاها تستمد منه حيويتها وعذوبتها. مزدانة بقافية محببة.. وقد قطعت الطريق على كل محاولات التنظير المعاصرة وما تحمله من مصطلحات. (الجملة الشعرية. )أو(المفردة الشعرية.). أو موسيقى النص الداخلية. فالقصيدة شكلا قد حسمت أمرها بانتمائها إلى مدرسة العروض الفراهيدية." (كل المقتطفات قص ولصق من القراءة)

نستنتج من المقتطف ما يلي:

- إذا كانت مدرسة العروض الفراهيدية خارج دائرة الاختلاف وغير معنية بجدلية "الشكل والمضمون"، وهذا ما يشي به قول الناقد وسنفترضه صحيحا لوهلة، فلا جدوى من اختياره لقصيدة تنتمي لهذه المدرسة كـ "نموذج"، فهي لا تحقق أية قيمة في هذا الإتجاه. نترك سؤالا ونمضي: لماذا أختار الناقد قصيدة محسومة الشكل برأيه، نموذجا لجدلية خلافية أحد أقطابها الشكل؟

- يحيلنا الناقد الى تعميم خطير، وهو أن كل قصائد هذه المدرسة محسومة الشكل، وكل الشعر العربي القديم محسوم الشكل، مع أن علم العروض هو علم الوزن، أي علم مبنى القصيدة وهيكلها. أو بمعنى آخر هو علم يعنى بالشكل، وما يخضع لعلم من العلوم يُدرس ويُفحص بموجب خصائصه ومعاييره ويقيم بها ويقاس. وكان الأجدى قراءة الشكل "عروضيا" وليس حسمه، لتعريف المتلقي بخصائصه ومزاياه، فليس كل ما يُصب في قوالب البحور يتخذ "أتوماتيكيا" شكلا شعريا متوهجا بالجمال والألق. ومن ادبيات النقد بشكل عام، والمعاصر بشكل خاص، عدم إطلاق الأحكام البيانية في النص الشعريّ شكلا ومضمونا.
وهذا يعود بنا الى ما ذكرناه في الجزء الثاني حول رأي الأصمعي ومعلمه العلاء بن عمرو في شعر لبيد بن ربيعة، الذي لم يرق لهما رغم حبكة صياغته ومضمونه الجيد وحسب رأيهما، فقد افتقدا فيه الحلاوة والعذوبة الشعرية. يبدو أن قصائد لبيد لم تحسم أمرها شكلا، ولم تحسم اشعار العرب أمرها شكلا، واختلف حولها النقاد والنحاة والبلاغييون وبرروا وعللوا وفصلوا كل وحسب رؤيته.
لا يحسم الشكل بقالب، أو لا يمكن اختزاله بوزن وقافية، ولابد من قراءة وحدة النص بشكله ومضمونه. فحتى الماء الذي من خواصه آخذ شكل القالب الذي يُصب فيه تلقائيا، لا يخرج بنفس الشكل إلا بظاهر أبعاده الفيزيائية، أما ميزات شكله كاللون والشفافية والصقولة فتعتمد على مصدر الماء نفسه، وخواصه بما يحتويه من شوائب وعوالق وذوائب وأملاح وسموم ومشعات. مثلما يعتمد على إرتفاع صبه في القالب ودرجة ميل القالب ونظافته وغيرها، وهذه عوامل تؤثر في أبعاد الشكل.
والمتذوق للقصيدة التقليدية وإن لم يكن مطلعا على علم العروض بخصائصه وفروضه، فأنه يتحسس الشكل بمستوى صوره الشعرية، وبصياغات ألفاظه ويفرق بين شكل وآخر. ولا نريد الخوض في هذا العلم هاهنا، إنما سنعرج على مثال بسيط لتعريف المتذوق غير الملم بالعروض، بأن الشكل يُفكك ويُعاين بدقة على أكثر من مستوى، منها مستوى القالب العروضي أو الوزن.
ففي قول الأعشى وحسب ما نقله الرواة: وكن لها جملا ذلولا ظهره / احمل وكنت معاودا تحاملها.
تحولت متفاعلن برأس البيت الى مفاعلن، أي إلغاء الثاني المتحرك من أصل التفعيلة السباعية، وهذا نوع من الزحافات المفردة يسمى"الوقص"، وهو غير سائغ ويعده البعض من المُعيبات. وليس كل الزحافات مُعابة فمثلا تسكين الثاني المتحرك في متفاعلن سيحيلها الى مستفعلن، والفرق بين هاتين التفعيلتين هو الحرف الثاني فقط، ففي الأولى متحرك، أما في الثانية فساكن. وهذا نوع آخر من الزحافات المفردة يسمى الإضمار، وله حضور جميل لم يكسر وزن بحر الكامل أو يخل بالشكل الشعري في مطلع معلقة عنترة بن شداد الشهيرة ( ولقد ذكرتـك والرمـاح نواهلٌ منـّي وبيض الهند تقطر من دمي). أما الزحافات المركبة وهي الجمع بين أثنتين من الزحافات المفردة فتعد عيوبا إنما قد يُختلف في أمرها، منها "الخزل" وهو الجمع بين الإضمار والطي.
ثمة مقدمة طويلة وغزيرة الفائدة وردت في ديوان "لزوم ما يلزم" أو ما يسمى باللزوميات، خصصها المعري للحديث عن الشكل الشعري لأهميته، بينما ذكر فيها نتفا بسيطة عن المضمون. وذهب القرطاجني في كتابه "منهاج البلغاء وسر الأدباء" شارحا ملكات الشاعر وقواه الشعرية المؤثرة في الشكل. وذخيرة التراث الشعري والنقديّ تضج بالكثير، ولا ندري كيف أمسى شكل القصيدة الفراهيدية في يومنا الحاضر محسوما ويعد شكلا شعريا كيفا جاء ودونما دراسة فاحصة لميزاته الجمالية والصوتية وتعرج على زحافاته وعلله وتأثيرها في السياق إن وجدت.

- وحيث صار للقصيدة الفراهيدية شكلا شعريا محسوما لا يخضع للتنظيرات المعاصرة وحسب رؤية الناقد، ولا لتنظيرات النقد العروضي وحسب السائد المؤسف، فسنخلص استنتاجا الى تعميم أخطر، وهو أن كل ما يـُنظم هو شعر بالضرورة، بينما لا يرى الأقدمون أهل هذا الشعر ما يراه نقاد هذا الزمن، فقد فرقوا بين النظم والشعر، فالنظم كلام موزون ومقفى له معنى، يستطيعه كل إنسان بالتعلم، خلاف الشعر الذي لا يستطيعه مهما أتقن تعلمه وصناعته. وأشهر ما كتبه العرب في الشعر كان قبل ولادة الفراهيدي واضع علم العروض، وهي السموط السبع أو العشر أو ما يسمى بالمعلقات. وسبقها شعر الجاهليين الأوائل الذين أبدعوا مثل غيرهم ودون معرفة بوزن وقافية أو عروض، وأجادوا بما جادت به قرائحهم وملكاتهم البلاغية والشعرية. ومن المفيد الإشارة هنا الى أن عمر الشعر الجاهلي وعن كتاب - الجاهليون الأوائل للدكتور عادل فريجات- يمتد رجوعا الى القرن الثالث الميلادي الذي شهد تأسيس دولة المناذرة في الحيرة وليس القرن الخامس الميلادي كما هو متداول وشائع حتى في العصور الغابرة، فقد جاء الجاحظ - مثالا- على ذكر أمرئ القيس الذي عاش في القرن السادس الميلادي ولم يذكر أسلافه الشعراء في حديثه عن بواكير الشعر الجاهلي.
لسنا بحاجة الى سند في موضوعة الفرق بين النظم والشعر فهذا الأمر هو المحسوم فعلا بتصورنا. إنما سنورد بعض الأراء للفائدة ولمن لم يقف عليها في بطون الكتب. وكنا قد تطرقنا في الجزء الثاني من هذه المقالة لما ورد عن لسان قدامة بن جعفر في توصيفه للشعر بأنه الكلام الموزون والمقفى، وذكرنا كيف تراجع عنه، وهنا سننقل ما قاله في تعريف الشاعر / كتاب نقد النثر: " إنما سمي شاعرا لأنه يشعر من معاني القول وإصابة الوصف بما لا يشعر به غيره. وإذا كان، إنما يستحق أسم شاعر بما ذكرناه، فكل من كان خارجا عن هذا الوصف فليس بشاعر وإن أتى بكلام موزون ومقفى."
فالكلام الموزن المقفى برأي قدامة ليس بالضرورة أن يكون شعرا. أو بمعنى آخر، ليس بالضرورة أن يكون له شكلا شعريا. وأوردنا كذلك من شعر إيليا أبو ماضي ما قاله في هذا الصدد. وسنذكر هنا ماقاله احمد شوقي: والشعرُ ما لَمْ يكنْ ذكرى وعاطفةً / أو حكمةً فهْوَ تقطيعٌ وأوزانُ
وننقل ما ورد عن حسن الشيرازي في كتابه الأدب الموجه: " اذا كان الشعر ترجمان الانسان في التعبير عن واقعه فعلى الشاعر ان يكتب شعوره لا كلامه فالكلام الموزون ليس شعرا وان انسجمت فيه التفعيلات وانتظمت قوافيه..الخ ."
وقد تجاوز أبن سلام الجمحي في كتابه "طبقات الشعراء" موضوعة "الوزن والقافية" ولم يعدها خصائص مطلقة فهي غير كافية لإبداع الشعر وفنيات التشكيل الشعري إذ قد يكون الكلام مووزنا معقودا بقوافٍ إلاّ انه ليس بشعر، وما هو ليس بشعر لا يكون له شكلا شعريا. وقد رأى الجمحي ما كتبه محمد بن إسحاق بن يسار كلاما مؤلفا وليس شعرا
تبدو الهوة سحقية بين نظرة اليوم حول النظم فكله يُعدّ شعرا، وبين نظرة الأمس البعيد، فالقدامى من علماء الشعر واللغة، عدوا كل شعر نظما، والعكس غير صحيح لديهم، واستبصروا فيما وراء القالب للوقوف على الشكل الشعري. كما فرق غيرهم من دون العلماء، فهذا الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان- كما ورد في كتاب الأغاني- قد علّق على شعر الراعي النميري المدرج أدناه، بقوله: هذا ليس شعرا، هذا شرح إسلام أو قرآن وقراءة آية.
( أخليفـةَ الرحمن ِ إنـَّا معشـرٌ / حُنفـاءُ نسجدُ بكرةً وأصيـلا..
عَـرَبٌ نرى للهِ فـي أموالنـا / حـقَّ الزكاةِ مُنـزّلاً تنـزيـلا )
ربما جاء تعليقه قاسيا فالنميري كان قادحا في قوله لا مادحا، إنما بأي حال، ما كان للخليفة أن يعيبه، لو كان المفهوم السائد عن النظم والراسخ في الأذهان لا يختلف عن مفهوم الشعر، ومعيار الشكل الشعري لديهم هو النظم فقط.
وما قيل في هذا الصدد كثير ولا يفوت على مطلع. إنما الناقد بقراءته خرج عما أكد عليه النقاد والنحاة وعلماء الشعر واللغة والشعراء أنفسهم. لا سيما وقد انطوت قراءته على تعميم يشمل مدرسة تراثية تدقق في أدق تفاصيل الشكل وتقلب فيه الصوائت والصوامت وتتحرى عما يعتري التفعيلة من قطع وبتر وحذف وقطف وكسف وعلل وتفاصيل كثيرة ومطولة.

- يحيلنا الناقد الى "المفردة الشعرية" / " الجملة الشعرية" ويعدها من المصطلحات المعاصرة. وكل مصطلح - في أي حقل كان- عبارة عن مفهوم أو مجموعة مفاهيم، وقد يتغير اللفظ بالتعرية الزمنية، فاللغة كائن حي متحرك ويصيبها ما يصيبها من فقد وكسب أو إنزياح في التعابير. وقد يظهر للفظ أو المصطلح مرادفات جديدة في كل عصر أو جيل. علي سبيل المثال مفردة " قران" والتي شاع استخدامها في الحقل الأدبي وبنفس المعنى التراثي القديم ولكن بمرادف أو مثيل وهو مفردة "سياق"، والتي قد تبدو مصطلحا معاصرا للبعض لا يعرفه السلف بظنهم. والمصطلحات التي أوردها الناقد تقع تحت سقف أشمل أو مصطلح وهو "اللغة الشعرية" وعمرها من عمر الشعر وبواكيره الموغلة في عتيق الزمن. وكل شعر تقليديا كان أم حداثيا لابد أن تكون لغته لغة شعرية فلا شعر ولا شاعر بدونها. وفي حالة القصيدة العروضية، لابد أن يزخر النظم بالمفردة الشعرية، والجملة الشعرية. فهما من لدن اللغة الشعرية.
وهذه المصطلحات – وحسب تسمية الناقد لها- شاع استخدامها مع ظهور قصيدة النثر واحتدام التنظيرات حولها ومنها التنظير حول" شعريتها" أو شكلها الشعري، وكأن الأوزان العروضية تتمتع بشعرية ضمنية ذات حيوية وعذوبة تسقط تلقائيا على اللغة المصبوبة في قوالبها ولا يحققها الشاعر نفسه. مع أن اللغة الشعرية متقدمة على الوزن لكونها لغة الشاعر وخاصيته التي يتميز بها عن الآخر، أما الوزن فمتاح للجميع وهو قالب نغميّ جامد، أو خامل رتيب لا يحركه ويبث فيه الحياة إلاّ الشاعر بأسلوبه الخاص، ومهارته في الخلق والإبتكار، والربط بين الظواهر الصرفية والبلاغية وبين التفعيلات والقوافي، وما إليه من فنيات وملكات يتمتع بها وخبرات.
قراءة الناقد تعكس وبشكل عام "شعرية النظم"، وليس "شعرية الشاعر"، ونجد في هذا تسقيطا لدور الشاعر في خلق اللغة الشعرية والشكل الشعري مخبوءا في ثنايا قراءته، لا يقصده - بتصورنا- ولا يريده لشعراء هذ المدرسة.. ولا نريده قطعا.

- فصل الناقد بين قصيدة العروض الفراهيدية وموسيقى النص الداخلية بصفتها من المصطلحات المعاصرة أيضا. مكتفيا بالموسيقى الخارجية للأوزان العروضية، والموسيقى الخارجية هذه لا تتحقق - كما أسلفنا- بالنظم بمعزل عن اللغة الشعرية. فالنظم بمفرده لا يحقق موسيقى الوزن ولا يصيبه بالرونق والعذوبة. كما أن الموسيقى الداخلية لا ترتبط بجنس أدبي بعينه أو بنمط من انماط الكتابة أو بمدرسة، فهي موسيقى مغايرة تتبع الإيقاع النفسي والذهني، وتخلقها الدلالات وأجراسها المعنوية في السياق النصي وأيا كان شكله أو مبناه. وتحقق توازنا - أو لابد أن تحقق- مع النغم الخارجي في قصيدة العروض الفراهيدية. وهذا الأخير يتجسد بإنفعال الشاعر بتجربته وتأثيره المباشر في علو النغمة وإنخفاضها أو ما يكسبها من ترخيم وترقيق أو شدة ولين أو همس وإنفجار، بإنتقاءه للمفردة والحرف، ولكل حرف من حروف اللغة صوت ومخرج من الحلق أو اللسان أو الشفتين، ومعنى اللفظ يأخذ شيئا من صفات صوت الحرف كما حدثنا الفراهيدي في معجم العين وغيره. فالموسيقى الداخلية أو موسيقى التعبير بمعنى آخر، لابد أن تنسجم مع الموسيقى الخارجية أو موسيقى الوزن، وتتسق لتشيع وحدة موسيقية متناغمة تبث في الشكل روحا شعرية متألقة ونابضة. وهذه أمور ينبغي للناقد دراستها وتتبعها في سياق النص قبل حسم شكله، فحسمه دون معاينة يعني إعفاءه من النقد في معرض نقده وبكفالة القالب العروضي.
وفي هذا المقام نود الإشارة الى ألفية بن مالك على سبيل المثال لا الحصر، وهي متن ضخم جامع لقواعد اللغة من نحو وصرف وخلافه، جاءت على وزن بحر الرجز ومشطوره، وقد تضمنت 1002 بيتا موزونا ومقفى وله معنى، مع هذا لم يمدها الوزن ولا القافية بعذوبة وحيوية، أو بــأي " شعرية" تذكر. لذا فهي تندرج غالبا ضمن أراجيز النظم التعليمية أو العلمية، وإن عدها البعض شعرا فمن منطلق الفهم الخاطئ للشعر وحصره بالأوزان والقوافي قسرا. فبتصورهم يستمد منها الكلم عذوبته وحيويته وشعريته ومثلما ذهب إليه الناقد.
.

- ثمة سؤال جدلي تجرنا إليه رؤية الناقد وهي رؤية سائدة تضرب أسماعنا كل يوم: إذا كان الشكل محسوما في قصيدة العروض الفراهيدية أو القصيدة التقليدية وفي غنى عن القراءة أو النقد، فهل المفاضلة بين الشعراء قديما وحديثا كانت أو تكون على أساس مضامين قصائدهم فقط؟. أو بتعبير آخر، ما الفرق بين قصائد فحول الشعراء، وبين قصائد الصغار من شعراء اليوم، وكيف سنفهم السؤال "أيهم اشعر" الذي يتكرر في كل عصر وعلى أي مستوى؟
وإذا كان الشكل محسوما ولا جدال فيه، فالأفضل أن يكون السؤال "أيهم أفضل مضمونا". وسيبدو سؤالا عبثيا لا طائل منه لوقوعه في المطبات الأيديولوجية والعقائدية والتاريخية وخلافها. لا سيما أن المضامين متغيرات على مدار الساعة والحدث وليست بثوابت أو خصائص فنية وجمالية يمكن تحديدها .
وسنقترب من بحر الكامل ونسأل، هل كل ما كُتب على وزن هذا البحر قديما وحتى قصيدة العامري، ومنه معلقة عنترة بن شداد، ومعلقة لبيد بن ربيعة العامري، يعد بنفس القيمة الشعرية والجودة الشكلية وليس من فارق بين قصيدة واخرى سوى المضمون؟
نرى أن الجواب لابد أن يكون نفيا بـ " لا "، والأفضل بـ " كلا"، وهذا يقودنا طوعا الى الشكل المتغير في الشعر بما وراء قوالب الأوزان وبما فيها من تصرف، والذي يتخذ موضعا بين طرفيّ الرداءة والجودة أو يقف على أحد الطرفين. ولا يمكن بأي حال حسمه بمدرسة أو تفعيلة بحر. فالمدرسة الفراهيدية ذاتها تحتمل الطرفين وما بينهما برحابة وسعة، مثلما تحتمل النظم الذي ليس له شكلا شعريا. وتحتمل بالمقابل أروع الأشعار التي رسخت في الذاكرة العربية، وليس بالضرورة كلها ذات مضامين جيدة أو مقبولة.

إنتقل الناقد بعد حسمه للشكل الى المضمون ذاهبا الى تفسيره، أو" تأويله عكسيا" بالمفهوم الذي أوردناه في الجزء الثاني.أي تـأويل النص انطلاقا من شخصية المؤلف وخصائصها حتى بدت خصال المؤلف مرجعا أو مصدرا لأغلب ما ذهب إليه من تفاسير. ونرى أن معالجة النص الأدبي بمعزل عن شخص المؤلف هي الأجدى أدبيا والأكثر نفعا للمتلقي الذي قد لا يعرف حتى جنسية المؤلف. إلاّ أن التأويل العكسي بأي حال ليس سيئا فيما لو كان للمؤلف سيرة موثقة وموثوقة يـُهتدى بها. إذ لا يمكن التعويل على قراءة نقدية ترتكز على رؤية خاصة في شخص المؤلف. والخاص من العلاقات الأنسانية خارج فضاء الأدب ولا يجوز استنزافه في قراءة المنجزات الأدبية، فكل منجز ينطق بما فيه أو يُستنطق بمعزل عن المؤثرات الخارجية المُربـِكة للحيادية والموضوعية.

حول الأبيات الثلاث أدناه يقول الناقد في قراءته:
" فالشاعر داعية من دعاة السلام والمحبة. ولكنه يستدرك. انه لايعني سلام الاستكانة والخنوع والخمول. بل لأنه معجون بحب الناس والطيبة والسلام.فكل طموحه أن يرى السلام يزين بلده والعالم برايات محبة. فهو أصل الفضائل رغم أن كثر من الناس قد مسخوا... في بلده وفي العالم حتى استحاولوا غيلانا مرعبة.. وهؤلاء الممسوخون تغلفهم السطحية.. فهم ينظرون إلى الأشياء على العموم نظرة البداهة فلا يعملون الفكر في أصل ظواهر الأشياء وجدلية الوجود كما يفعل الشاعر.."
إني خُلِقتُ ولا طُموحَ يلفُّني / غير السلامِ وليس ذاك خمولا
لكنه أصلُ الفضائلِ بينما / كثرٌ من البشر استحالوا غُولا.
همْ ينظرون لِما يرون بداهةً / وأنا أقلِّبُ ناظريَّ سَؤولا
وحول البيت الثالث يقول الناقد: " فالشاعر حمال أسئلة من الطراز الأول.. يستعمل صيغة المبالغة في اسم الفاعل سؤول."

تعقيبنا حول المقتطف:
- بشكل عام، الحديث بضمير المتكلم لا يعني بالضرورة حديث الشاعر عن نفسه، فالشاعر يتقمص ويتحدث بإسم من يريد، فقد يتحدث بإسم جنسه أو قومه أو بأسم مجتمع. ومثله في ضمير المخاطبة.
- للشاعر- أي شاعر- ولغيره، أن يصور نفسه وصفاته كما يشاء ويحلو له، أن يمتدحها أو يذمها أو يستعرضها وما إليه، وليس بالضرورة أن يكون حقيقيا وغالبا لا يكون، فالشعر حمال أوجه يختلط الصدق فيه بالكذب، والواقع بالخيال، والحقيقة بالزيف، واليقظة بالحلم، والوعي باللاوعي وهلم جرا.
- من هو الداعية؟.. بتصورنا هو من يدعو الناس الى شيء ما بشكلٍ سلميّ، أو قد تجره دعوته وملابسات ظروفها الى النضال، وقد يكون نضالا مسلحا. ودعاة السلام ليسوا بمعزل عن هذا المفهوم. ولا نجد في الأبيات آنفة الذكر ما يعلل الخروج بفكرة "الشاعر الداعية للسلام" إن كان متحدثا عن نفسه. فحب السلام شيء والدعوة إليه شيء آخر. والإنسان المسالم شيء، والمسالم الداعية شيء آخر. كما أن "المسالم" ليس بالضرورة أن يكون طيبا محبا للناس. فوراء "المسالمة" قد يقف الفضيل أوالرذيل، كالشجاعة أو الجبن مثالا ليس إلا.

- يخرج الناقد من مفردة "سؤولا" بفكرة أن الشاعر حمال أسئلة من الطراز الأول ولا نجد لها من تبرير سوى جعله لمفردة وردت بصيغة المبالغة حجة أو بينة على قوله.
الأبيات الثلاث تقترب - بتصورنا- من البداهة الوصفية لخيبة الأمل في العالم. اما "جدلية الوجود" الذي ذهب إليها الناقد فهي لصيقة بالفكر والفلسفة. والجدير بالذكر أن مسألة " الوجود وجدلياته" أمست تقليعة حداثية لها حضور واسع في النقود الأدبية وذلك لسهولة التقول بها، كون كل ما يُقال من الكلام الدارج في الحياة اليومية ممكن جرجرته الى أسئلة وجودية، أو سحبه الى جدليات. إنما النقود الرصينة تنأى عن تمريرٍ كهذا، مالم يحمل مضمون النص قلقا وجوديا متفردا وبعمق فلسفي أو خيال أو تحرش. فمثلا قصيدة طلاسم من ديوان الخمائل للشاعر إيليا أبو ماضي، دخلت في صميم موضوعة الشك، وبحثت في الوجود وطرحت أسئلة متوترة، فإن أصابها النقد بهذا الإتجاه ففي مكانه المناسب المرموق.

وحول هذا البيت: ويجيءُ كُثْرٌ باطلاً بجَراءةٍ / وأجيءُ حقي مُحْرَجاً وخجولا.. يقول الناقد:
" ثم ينتقل إلى جوهر مأساته كشاعر حيي.. والحياء عنده لا يأتي عن ضعف أو جهل بمتطلبات الصراع الإنساني.. بل لأن طبيعته كشاعر مجبولة على الرقة والزهد والاستهانة بالأمجاد العارضة الزائلة.. وغيره يقتتل بصلافة على الجاه بالباطل وهو دون الشاعر مكانة وموهبة وشعرية.. وهنا تكمن بلاغة المفارقة."

هنا وجد الناقد ضرروة- لربما ملحة- للتعريف ببواعث حياء الشاعر وفصلِها عن الضعف والجهل. كما وجد ضرورة لتبرير فصلِها، فأولّ البيت تأويلا عكسيا مأخوذا بطباع الشاعر وصفاته التي لا يدريها المتلقي، ولا تفيدنه في شيء بل قد تشوش عليه لأنها رؤية خاصة لا يعرف مصدرها أو مرجعيتها وغير ملزمٍ بها.
ولو ذهبنا مع رؤية الناقد في شخص الشاعر وأخذنا بتأويله، سنجد ثمة تعارض موضوعي بين الطبيعة المجبولة على الزهد وبين التحرج والخجل من الحق. فلو قال الناقد "رهبنة" لكان أصوب. فشتان ما بين الزهد والرهبنة وإن تقاربا من حيث الرغبة عن الحياة الدنيا والتقرب من الأخرة. فالرهبنة تفيد ترك العمل في الدنيا وتجنب تحمل مسؤولياتها باللجوء الى الصوامع والجبال، أي العزلة عن المجتمع. بينما الزاهد لا يترك من الدنيا سوى التنعم بلذائذها والإنغماس بكمالياتها. ولا يعتزل الحياة الإجتماعية وروابطها الإنسانية وقضاياها، إنما يعيش في صميمها ويتحمل مسؤوليته كفرد فاعل في المجتمع، وقول الحق دون تحرج أو خجل يبدو لنا عنصرا مهما وضروريا من عناصر تحمل المسؤولية الإجتماعية بجدية.
أما مفردة "الرقة" حسب موقعها في الجملة فتبدو لنا ناشزة ولا تخدم الغرض التبريري، فالرقة ليست شعبة من الحياء أو خلقا لصيقا به، فقد يجتمعان في إنسان أو يفترقان.

أهتم الناقد- بتصورنا- بقراءة الشاعر وتحديد خصائصه الشخصية ومميزاتها وتبرير بعضها ببعضها حتى بدت مادته وكأنها سيرة شخصية أو محفل للتعريف بالشاعر وليس قراءة نقدية لنص شعريّ. ولا يحتمل النص - اي نص- الخروج منه بهذا الكم الهائل من خصال مؤلفه وتوظيفها إيابا لقراءة النص. إنما رؤية الناقد الخاصة في شخص الشاعر ألقت بظلالها على قراءته كما يبدو لنا، ولعلنا لا نبالغ فقد كانت ظلالا وثيرة حجبت شمس النقد فركزت على المضمون بعيدا عن دراسة شكله وقريبا من صفات مؤلفه وأولته تأويلا عكسيا. وما استحضره الناقد وبذخه من تعابير عن شخص الشاعر اكتظت بها قراءته، لا تبدو لنا مدروسة بدقة وعناية لما فيها من تهويل أو مبالغة .

عودة الى بدء، بما ذكرناه في هذا القسم بات السؤال الذي تركناه في الجزء الثاني عن ماهية "الشكل" التي تكسب النظم رونقا شعريا وحلاوة مجابا. وتذكيرا، جاء سؤالنا على أثر مرورنا بالأصمعي ورأيه في شعر لبيد بن ربيعة. ونقول اختصارا ونضيف:
الشكل يبدأ بالشاعر نفسه وينتهي به. فبقدرته على الشعور المختلف والتعبير المختلف، وبمهارته في التخيل والإبتكار، والإستطراد والإفتنان، والإدماج والتسهيم، والطباق والمقابلة وخلافه، وبما يمتلكه من أدوات لغوية وبلاغية للتورية والمناورة. وبحسه الموسيقي المتفرد- عندما نقترب من قصيدة العروض- وتوزيعه للتشكيل الصوتي للألفاظ الجزلة المنتقاة وربطها بالدلالة الشعرية بتجانس وتنغيم مع العروض والضروب والحشو، وبغيرها من مهارات وملكات، وبفيوض مشاعره وإنفعالاته يكتسب النص شكلا شعريا ورونقا وحلاوة. فالمدرسة لا تصنع الشكل الشعريّ أيا كانت. بل تصقل وتهذب، وترفد أناسها بالمعرفة لفهم نظامها أو قوالبها، لممارسة القالب نظما بالفرجال والمسطرة والتقطيع العروضي. إنما من يمارسه شعرا ويكسبه هويته الشعرية، هو الشاعر.


ونختم هذا القسم بما يُثار حول القصيدة الحداثية وما يُطرح من تنظيرات أو يُستثار، ابتداءً من السؤال عن أغراضها والاستفهام عن فحواها ورسالتها، الى التنقيب على قدمٍ وساق عن الجملة الشعرية والمفردة، والدواخل الموسيقية وما إليه من غث أو سمين، ونسقطه بالمقابل- وبكل ثقة- على قصيدة العروض الفراهيدية. فأوزان هذه المدرسة وقوافيها، لا تحول معدن الكلام الدارج بخواطره وشوارده وأحاجيه الى معدن نفيس، وإلأّ لصارت كل قصائدها معلقات، وصار كل شعراءها فحولا.. إنما للأدب وتنظيراته المعاصرة شؤون ازدواجية.. وهذا مخيب.. ولا يدفع بشعرٍ حداثيّ أو تقليديّ الى زهو و رُقيّ .. أو أصالةٍ وتأصيل.
.. يتبع...

رابط قصيدة "من الناعور، من سِوار النهر":
http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=48053:2011-05-02-13-41-21&catid=35:2009-05-21-01-46-04&Itemid=0


ربط القراءة النقدية
http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=48775:2011-05-18-19-54-43&catid=34:2009-05-21-01-45-56&Itemid=53



فاتن نور
July, 26, 2011


Opinions