التاريخ يتكلم الحلقة 108 معهد جونا
الملفت للنظر بساطة غرفة العلاج ومساحتها الصغيرة وتجهيزاتها التي لا تتعدى ثلاث مقاعد خشبية يقف امام كل منها طبيب بالصدرية البيضاء، يعمل في الغرفة ستة اطباء يتناوبون صباحا ومساء (ثلاثة لكل فترة) سعر كل جلسة للاجنبي (50 دولاراً امريكياً) وللمواطن الروسي (50 روبلا)، لكنني عولجت مجانا، ولا يسعني الا تقديم شكري للمجهود الذي بذلوه من اجلي، يتعالج في تلك الغرفة شخصيات على مستوى رفيع من جميع انحاء العالم، ويدعم ذلك الصورة التي تزين حائط الغرفة تمثل – البابا – الاب الروحي للمذهب الكاثوليكي في العالم قاطبة وهو يقدم شهادة تقديرية لها لانها عالجته هو ايضا، ومثلها من الرئيس الروسي يلتسن (الذي يعتبرها طبيبة العصر المعجزة). المعهد الصغير هذا لا يبعد عن بيت جونا كثيرا، وتعلو بابه يافطة صغيرة سوداء مكتوب عليها (معهد جونا) باللغة الروسية . وحينما تغادره يتقدمها حارسها الشخصي وبعده الحامي الثاني، يتلفتان بحذر، يمينا وشمالا، خوفا من ان يقع مكروه لها او ان تتعرض لحالة اختطاف.كانت جونا تلقي محاضراتها على الطلبة صباحا، والكل ينصت اليها بانتباه للتعرف على ما هو جديد في مجال الطب، وهي، عادة، تختار طلبتها وفق مواصفات معينة. حيث تدعي بان لها فراسة في اكتشاف الناس الذين لديهم طاقة خارقة في اجسامهم. نظرية جونا لا تخلو من الواقعية حيث ان العلم ما زال عاجزا عن تفسير كثير من الظواهر الطبيعية والكونية، وكذلك اكتشاف مسببات امراض كثيرة، زد على ذلك اننا نسمع بان الانسان لم يستغل مساحة واسعة من قابليته الفكرية وذكائه وطاقاته البدنية.
كنا مرة جالسين معها في غرفة السكرتيرة، حين دخل شاب وسيم في العشرين من عمره، قدمته لي بانه ابنها الوحيد ولا يجيد التكلم بغير الروسية. كان احترام جونا لي واضحا من خلال اطلاعي على كثير من خصوصياتها، وهي تتحسس ما اعانيه في اعماقي من انفعالات مكتومة بالرغم من انها لم تتعرف على ماضي السياسي، وتحترم تحملي مسؤولية اولئك العراقيين الذين يبحثون عن القشة التي ينقذون بها انفسهم، في بحر متلاطم لا قرار له، وبالمثل شعرت انها تجاهد مخلصة لمساعدتنا في هذا الاتجاه.
كنت مشغولة بامري وامر العراقيين الباحثين عن اللجوء عندما اتصل بي العم (حبيب كادو) صديق والدي وطلب مني زيارتهم في البيت. كان قد قدم من العراق قبل عدة اشهر بصحبة ولده وابنته المتزوجان ولهم نفس الهدف: الهجرة، يطرقون ابواب العالم الموصدة امامهم. انها مأساة العراقيين الذين تنطبق عليهم مقولة طارق بن زياد ولكن بصورة معكوسة (البحر من امامكم والعدو من ورائكم). ومن خلال الهاتف حدثني عن مدى احترامه لوالدي وعائلتي، مقدرا التضحيات التي قدمتها، متذكرا باسى الجور الذي لاقته في ظل انظمة متعددة. كما استعجلني للقاء بهم، وتطرق الحديث الى والدتي التي يحترمها لتضحياتها المستمرة ، وكذلك عن اخوتي الذين قال عنهم انهم بخير. كنت تواقة الى اللقاء بهم وسماع اخبار اهلي التي انقطعت منذ فترة طويلة، وعدته بزيارة عائلته في البيت ولكن بعد يومين اتصل بي (الاخ سمير شيخو) يخبرني بان عمي حبيب يرغب في زيارتي، فسررت لذلك وفكرت باعداد وجبة عراقية قديمة لاذكره بشمال العراق وهي (المضيرا) (كبة مع اللبن) وابرهن له، في نفس الوقت، بانني لم انس العراق واهله وخصوصا مدينتي الحبيبة القوش .
كنت وحدي عندما اطل العم (الحبيب) وهو يرتكز على عكازته الخشبية مع احد اقاربي سمير بيوس شيخو، رجل متقدم في السن، صافحني وقبل رأسي. قال الآن تذكرت والدك الذي توفي متشوقاً للقاء بك" واضاف: انا فخور بك،" اعتذرت منه خجلة لانني لم ابادر بالزيارة. ثم بدأ الحديث عن اخوتي فامتدح دماثة اخلاقهم، فقد كان دائم الاحتكاك بهم في المعمل الذي خلفه والدي لهم، وذكر طيبة والدتي وصبرها الجميل وصمودها في كل تلك الظروف الصعبة، وعن جدتي شوشي التي وضعها بمصاف القديسين حيث زارت القدس ولها مواقف اجتماعية في مساعدة الناس لا زال الناس يتذكرونها كانت تدواي الناس بالاعشاب وتفتهم بالطب الشعبي .
جلسنا اكثر من ساعتين واستمتعنا بالاكلة التقليدية، ومن بعدها الشاي. وبعد ان نال قسطا من الراحة قال انني قصدتك بمهمة وارجو ان لا تخيبي ظني بك، قلت كما هو شائع في مثل هذه الحالات (غالي ويطلب رخيص) واسترسل باسلوب هاديء محبب رزين قال: هناك شخص قادم من السويد (مهرب) يطلب منك ان تحضري للترجمة حيث لا يجيد اللغة الروسية. ولقد استطاع التنسيق مع ضابط على الحدود الفنلندية، سيساعد في عبور جماعتنا العراقيين، اما بشكل جماعي، في سيارة كبيرة، او بسيارته الخاصة على شكل دفعات وما عليك سوى الترجمة له ولقد اتفق ان يقوم بتلك العملية لقاء 1000 دولار للفرد الواحد وسيخصص لك نسبة منها!" ابتسمت بينما الالم والمرارة يستعران في داخلي. قلت له ايها العم العزيز لو طلبت عيوني فسافديها لك لانك صديق والدي وهذا يكفي، لكني لم ولن افكر يوما ما في ان اسيء الى والدي والى تاريخي السياسي. لم يكن هدفي في الحياة جمع المال بالطرق المشروعة، فكيف يكون الامر لو تم عن طريق استغلال الناس الذين كرست حياتي، ومن قبلي والدي، لمحاربة ذلك السلوك؟ لم اتواني، وحتى هذه اللحظة، عن مرافقة العراقيين والترجمة لهم منذ الصباح الباكر وحتى اوقات متأخرة من النهار، بكل طيبة خاطر، ولقاء لا شيء، بالرغم من ظروفي المادية المتردية، لكن يكفيني ان هذا يحقق لي قيمتي الذاتية." استمع الي واقتنع تماما، بوجهة نظري وندم على تصرفه وزاد اعجابه واحترامه لي، ثم وجه لي دعوة لزيارتهم في البيت. قبلت الدعوة وبدا مسرورا لذلك قدم معي ايضا المرحوم ساطع ميخا شوشاني وكترينة شيخو واخوها سمير شيخو ، وفعلا كانوا قد هيأوا وليمة عراقية دسمة، مع الفودكا وبقية المشروبات الكحولية، تخللتها فعاليات موسيقية عربية. تحدثنا عن روسيا وعن الوضع السياسي الراهن ولم يتطرقوا الى موضوع الترجمة ثانية. كانوا متذمرين من السكن في تلك الشقة الصغيرة، حالها حال معظم الشقق في موسكو اضافة الى صعوبة الحصول على المواد الغذائية، كما ان الطقس شديد البرودة، الذي يرافقه هطول الثلوج والامطار، يجعلهم في عزلة عن العالم الخارجي، ولا عزاء لهم غير جهاز الهاتف الذي هو نافذتهم على اصحابهم وذويهم. يضاف الى ذلك صعوبة التأقلم في جو اجتماعي اوروبي لم يألفوه من قبل.
اتصل بي، في تلك الفترة، اخي ازاد من بلغاريا ليطمئن علي، فانفجرت بالبكاء، خاصة ليس لدي ما استطيع عمله هنا، ولا املك ما يمكنني من الرجوع الى بلغاريا، اضافة الى الازمة التي نشبت بيني وبين اقاربي في موسكو اثر اعتقال سيروان الكردي القجخجي، ومطالبته بالجواز، وما نجم عن ذلك من ملابسات كثيرة ومؤلمة لا مجال لذكرها، وحين سماع اخي ازاد تلك الانباء طلب مني الرجوع اليه فورا، واخبرني، في الوقت نفسه، بانه سيتزوج من فتاة بلغارية تعرف عليها قبل مدة .
ذهبت الى السفارة البلغارية للحصول على تأشيرة للسفر، فطلبوا مني دعوة من بلغاريا. الوقت يمر بسرعة ومدة التأشيرة الروسية ستنتهي وليس بامكاني تجديدها، لذا اتصلت بأخي ازاد ليرسل الدعوة بالبريد المستعجل (DHL) حيث استلمتها بعد ثلاث ايام وكان هذا هو الحل الامثل لتلك المعضلة.
بدأت ترتيبات السفر بسرية تامة، ولم اخبر بذلك غير صديقتي المفضلة (اولا) وقد اقترحت عليها بان ترافقني هي واطفالها الى فارنا للراحة والاستجمام، فقد كانت تعيش بعيدة عن زوجها اللاجيء في الدانمارك. فبدأت هي ايضا، تتهيأ للسفر. اتفقنا ان اسافر انا اولا، لاحضر السكن، ثم تتبعني هي بعد اسبوعين، كما انني كنت اقترضت منها النقود اللازمة، لهذه الاستعدادات فسوف يتكفل شقيقي ازاد بدفعها لها في فارنا.
واجهتنا معضلة اخرى وهي صعوبة الحصول على تذاكر السفر، فترتب علينا ان ننهض، منذ الخامسة صباحا، لنقف في طابور بيع التذاكر التي يصطف امامه المئات بانتظار دورهم. وقفنا حتى الثالثة بعد الظهر، حتى حجزنا تذكرة بالقطار كلفتني (70) دولاراً. اتصلت بالبيت فوجدت لينا وابنتها سوزان قد عادتا من اوكرانيا حيث امضتا بعض الوقت عند شقيقها عامل الذي يعيش هناك. وكانت سعادتي لا توصف بان التقي بالطفلة سوزان التي استحوذت على كل احاسيسي وعواطفي وتعلقت بها الى حد لا معقول. رجعت الى البيت بسيارة اجرة وانا متلهفة الى سوزان الطفلة الحبيبة والتي سوف افارقها عما قريب، وهذا ما كان يحز في نفسي. بعد لقاء قصير، حشرت في حقيبة صغيرة ملابسي وحاجياتي البسيطة دون ان اخبر احدا.