حوار مع إنسان جديد على العالم
سألني "أنليل": من هذا الذي ترسمه يا بابا؟
ابتسمت وقلت: إسمه "جيفارا" .. ألا تعرفه؟
هز رأسه بالنفي..
ألم تر صورته على قمصان بعض الأولاد؟
"آه نعم .. تذكرته.. هل هو حقيقي"؟
نعم بالتأكيد حقيقي!
تصورت أنه ممثل أو شخص خيالي... ما قصته؟
ترددت قليلاً.. ماذا أخبره.. "إنه ثائر... كان يقول - حيثما يكون الظلم في العالم سأكون"
- لماذا؟
- لكي يدافع عن المظلوم..!
- حتى لو لم يكن هو المظلوم؟
- حتى لو لم يكن هو المظلوم..!
تأمل جوابي بضعة ثوان ثم همس...
- ولماذا يفعل ذلك؟
شعرت أنه يعرف الجواب تماما، لكنه يتخذ من السؤال حجة لكي أروي له المزيد عن هذا "الجيفارا" العجيب..
- لأنه يشعر بالغضب، ويخجل أن يكون موجوداً في العالم وهناك مظلوم ولا يدافع عنه احد
تردد لحظة ثم قال
- ولماذا يخجل وهو ليس الظالم؟
- لأن وجود الظلم يعني أن كل الموجودين الساكتين جبناء أو منافقين.. وهو لا يقبل ذلك على نفسه.
صمت مفكراً ثم همس وكأنه يحدث نفسه:
- وأين هو الآن؟
(هل أخبره؟ أم أن قلبه ما زال صغيراً على أحزان العالم والآمه؟ ألن تفقده مرارة الحقيقة الثقة بالعالم وبنفسه؟ قررت أن أخبره.. فأمامهم حياة صعبة ، ولا مفر من أن يفهموا العالم بسرعة اكبر منا بكثير...حتى لو على حساب طفولتهم وسعادتهم....)
- لقد قتل.
- من قتله؟
.....
- الـ "سي آي أي"
صمت هو...وأنا لم أشرح المزيد... كان أنليل وهو في العاشرة يعرفها ، هذه الـ "سي آي أي"...!
بعد بضعة أسابيع، إتصل بي ليسألني:
"بابا .. هل استطيع أن استعير منك لوحة جيفارا"؟ ..
"طبعاً بابا تستطيع!" قلت سعيداً بالمفاجأة.. "لكن ماذا ستفعل بها؟"
- أريد عرضها في محاضرتي أمام الصف.. لقد طلبوا من كل طالب أن يختار شخصية ليتكلم عنها، وأنا اخترت جيفارا...
دهشت فرحاً: "ولماذا اخترت جيفارا؟ ماذا تعرف عنه؟"
- لأني اكتشفت أنني أنا أيضاً أغضب مثله إذا رأيت صغيراً يظلم وأخجل أن لا أدافع عنه...
دار هذا الحوار قبل بضعة شهور، وتذكرته وأنا أسمع مجازر العدوان الإسرائيلي الجديد على غزة ، ولا يدافع عنها أحد، ولا يخجل من نفسه أحد!
أرسلت هذه السطور لصديقي، فأجابني: "بعد ان صرت ابا صار حجم الوجع كبير علي يا صديقي العزيز. في هذا الصباح كنت اتابع في الاخبار فكانت قصة رجل فقد زوجته في هذا الاجتياح ثم ولده ثم ابنته العروس والتي سوف تزف قريبا, ولم يبق من العائلة الا طفلته المصابة بشظية ايضا. لا اجد ما يصف شعوري. بكاء مخنوق في عالم ظالم... بل ظالم جدا".
"البكاء المخنوق" ضريبة الإنسان الذي ترك إنسانيته تحت الظلم بلا احتجاج أو غضب. بل رأينا البعض هذه الأيام يرقص وهو يرفع علم المعتدي ويسجد له!
ما يزيد الألم أن هؤلاء الراقصون، ليسوا من وحوش المجرمين والقتلة الذين يستمرئون الدم، وتجدهم في كل زمان، وإنما أناس عاديين من عامة البشر، بل ونالوا نصيبهم بزيادة من الظلم ذاته وخبروا مرارته واشتكوا طويلاً من آلامه!... لكن لا بأس...مادام الإعتداء يتم على الغير....فـ "لماذا نكره إسرائيل"؟
آه كم هبط الإنسان يا “أنليل” خلال خمسين عام من حياتنا، ليسأل تلك الأسئلة البلهاء أخلاقيا! لا ندري أين سيصل الهبوط في حياتكم، وهل سيقضمكم وحش الظلم فتصابون بالكَلَب وتتحولون وحوشاً تهتفون للوحشية، أم سيلهمكم جيفارا وأمثاله من النماذج الإنسانية الناصعة، المناعة من الداء؟
هل سيتمكن صوتهم القادم من وراء الأجيال ان يستثير الكرامة الكامنة في الإنسان وينفخ فيكم قوته، فتقفون مع إنسانيتكم بأشجع مما فعلنا، فلا يذوق احدكم مرارة الخجل الذي نتجرعه اليوم بصمت؟ ذلك هو التحدي بين جراثيم الوباء من جهة، والإنسان وتراث مناعته من الجهة الأخرى، وعلى نتيجة ذلك التحدي قد يتقرر مصيره!
16 تموز 2014