خلوة مع النفس ... القطط السمان المتنفذة وحديث الناس ...!!
التفكير بالعراق وما يجري فيه هو الشغل الشاغل لكل عراقي مغترب لا يزال يمتلك أأكثر الوشائج الإنسانية والاجتماعية مع الوطن وأبناء وبنات هذا الوطن.. وتدور في باله الكثير من أحلام وآمال الصبى حيث كان يعمل ويحلم بتحقيقها لصالح هذا الشعب والأرض المعطاءة.وحين يكون في زيارة إلى الوطن يعيش يومه بشكل مكثف ويسمع أشياء لم يسمعها من قبل .. أسماء ومفردات جديدة مثل ورقة (100 دولار) ودفتر (10 ألاف دولار) وبلوك (مائة ألف دولار) وقاموس (مليون دولار), وربما سيكون هناك مصطلح جديد هو موسوعة ليعبر عن مليار دولار, خاصة وأن النهب كان أو لا يزال في بعض الحالات يصل إلى المليارات من الدولارات الأمريكية وفق حديث الناس الذي يقرأ الواقع والغيب في آن.
وزيارتي الأخيرة للعراق عرفتني على مصطلح جديد يجري تداوله بين الناس وكبار الموظفين في البلد, إنه مصطلح الچايچية (صانعي وبائعي الشاي).
كلنا يعرف معنى الچايچية, إنهم القهواتية الذين يمارسون مهنة اقتصادية واجتماعية شريفة وضرورية في مجتمعاتنا, كما أنها مفيدة ومحترمة في آن. ولكن لِمَ هذا التداول لهذه الكلمة على لسان الكثير من الناس أثناء لقاءاتهم وأحاديثهم عن أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية والمعيشية. فكرت بالأمر ثم استفسرت عن أسباب تداول هذه الكلمة خلال في أعقاب سقوط النظام الدكتاتوري المشين. وكان الجواب مفاجئاً لي, إذ تبين أنها ترتبط بظاهرة أمية القراءة والكتابة أو نقص الثقافة العامة لدى البعض من الچايچية, أي أولئك الذين لم يتسن لهم دخول المدرسة والتعلم لأسباب اقتصادية أو اجتماعية أو كونه كان بعيداً في ريف الجنوب أو في قرى أعالي جبال كردستان, أو أنه ممن يمتلك مستوى واطئاً من التعليم أو موظفاً ومستخدماً صغيراً يؤدي مهمات معينة لـ "سيده" في دوائر الدولة. أي أنه مصطلح عمم ليشمل الكثير ممن يعملون لدى جمهرة من المسؤولين في الدولة أو الأحزاب السياسية المتنفذة.
يستخدم هذا المصطلح للتعبير عن أشخاص كانوا يعملون چايچية لدى هذا الوزير أو ذاك, أو لدى أحد كبار المسؤولين في هذا الحزب المتنفذ أو ذاك, أو لدى أحد كبار رؤساء المؤسسات أو أحد كبار مداراء الدوائر العامة الذين بيدهم مصالح الناس وقضاياهم. أصبح هؤلاء الچايچية الطريق المباشر غير "الرسمي" إلى الوزير أو المسؤول الحزبي أو رئيس المؤسسة أو المدير العام. ويبدو أن هذا الطريق معبد بالكثير من المسائل المهمة التي يمكن من خلالها الوصول إلى وظيفة مهمة أو زمالة دراسية أو بعثة حكومية أو على عقد من العقود المهمة أو على قطعة أرض أو على قرض وتسهيلات ائتمانية أو على تأسيس شركة بمشاركة أولئك المسؤولين بنسب معينة كبيرة نسبياً دون وضع رؤوس أموال فيها ... الخ, من خلال دفع ثمن يتناسب مع طبيعة المهمة التي يراد إنجازها عبر الچايچي. إن إنجاز المسؤول لهذه المهمات عبر الچايچية تنتهي بحصول المسؤول على الثمن المحدد, وولن تكون حصة الچايچية سوى فتات الموائد.
ثم تطور الحال فإذا بهؤلاء الچايچية يتحولون بين ليلة وضحاها إلى أصحاب عقارات وعمارات ومطاعم ومحلات ومشاركات في شركات ثم أصبح هؤلاء يركبون سيارات الهامر ومعهم شلة من الحماية التي تفرض بالقوة هيبتها على الناس. ليس كل تلك الأملاك والمشاركات ...الخ هي ملك لهؤلاء الچايچية, بل أغلبها ملك لأسيادهم ومسجلة بأسماء هؤلاء الچايچية وصغار الموظفين من أجل أن يُبعد اسم هذا الوزير أو هذا المدير لهذا الديوان أو هذا المسؤول الحزبي أو ذاك عن الشبهات. ولكن العراقي مفتح باللبن ويقرأ الممحي وما بين السطور. لذلك يقول سائق التاكسي لزبونه بأن هذه البناية باسم فلان ولكنها لفلان, وهذا المطعم المرفه الذي يحتظن الجالغي البغدادي أو المغني الفلاني أو الفلانية والمليء بالزوار هو باسم فلان ولكنه مملوك لفلان, وهذا الفندق باسم فلان الچايچي أو الموظف الصغير الذي يعمل في دائرة ما, ولكنه للمسؤول الفلاني في حقيقة الأمر. وأصبح ثوار الأمس من القطط السمان, كما أصبح چايچييهم أو صغار موظفيهم وأفراد حماياتهم وأمنهم من القطط السمان أيضاً بفضل الفساد المالي والوظيفي.
إنها ظاهرة الچايچي الأمية الجديدة. فهو يستطيع الوصول إلى أعلى المقامات ويحل أعقد مشكلات المواطنين بطريقته الخاصة المقترنة بالفساد المالي وغياب الشفافية وانعدام ثقة المجتمع بالمسؤولين, حتى أصبح بعضهم يحتل موقعاً في أجهزة الدولة لا يصل إليها حملة الشهادات العالية وأصحاب الكفاءات والقدرات الفعلية. كما أنه قادر على عرقلة اية قضية عادلة لأي من المواطنات والمواطنين. فحملة الشهادات العالية وأصحاب الكفاءات لا يملكون ما يملكه البعض من هؤلاء الچايچية من إمكانيات خاصة تجلب الأرباح لأسيادهم ولهم أيضاً!
إنها المحنة الجديدة في العراق, وهي جزء من محن كثيرة. لا يمكنك الوصول إلى الوزير الذي تريد إنجاز معاملتك إلا عبر هذا الچايچي أو أفراد الحماية أو الموظف الصغير أو كاتب العرائض الجالس قرب هذه الوزارة أو تلك. إنها فئة جديدة خطرة على المجتمع وعلى مصالح الناس كأسيادها المرتشين.
لقد حز في نفسي أن أعيش هذه التجربة الجديدة, كما اجزم أنه يحز في نفوس الكثير والكثير جداً من بنات وأبناء الشعب أن يعيشوا هذه المحن. لقد ناضل الشعب العراقي طوال عقود ليتخلص من ظاهرة الواشر, اي من تلك الرشوة (خمسون فلساً) التي كانت تعطى لشرطي المرور أو لأي شرطي ليحل له قضية بسيطة في العهد الملكي, أن يتخلص من نظام لم يفهم الشعب ولم يرع مصالحه كما يفترض أن يكون. ولكنه لم يتوقع أنه سيقع بعد سقوط نظام جائر وقمعي مرير تحت وطأة البعض ممن يستفيد اليوم من الوضع الجديد بسبب ظواهر هذا الوضع السلبية الحادة ومنها ظاهرة الچايچية, إذ أصبح هؤلاء يحتلون مواقع مهمة في أجهزة الأمن والدولة وفي التأثير على معاملات الناس وفي امتلاك الكثير من قطع الأراضي وامتلاك العمارات والقصور الكبيرة المرفهة والتي يشار إليها بالبنان والحاشية المتسعة والحماية التي يصعب معرفة عدد أفرادها. فهل من العدل بمكان أن يصبح وقود الثورة الشعبية والنضال الطويل, أبناء وبنات الشعب, رهائن بيد الچايچية ومن يشمله هذا المصطلح الجديد وأسيادهم الذين لم يعد لهم سوى ملء الجيوب التي تسأل دوماً : هل من مزيد؟ الجواب يفترض أن يكون عند كبار المسؤولين الذين يعرفون وجود هذه الظواهر ولا يتخذون الإجراءات المناسبة لمكافحتها ووضع حد لها!!! إنها واحدة من محن العراق الجديدة, والناس يتحدثون عن علاقات متشابكة أيضاً !
إن الخشية لا تكمن في هؤلاء فقط, بل المشكلة تكمن في السؤال التالي: إلى أين يمكن أن تقود مثل هذه الأوضاع العراق أو الأحزاب التي تحمي أو تسكت عن مثل هذه الأوضاع أو حتى يشارك فيها بعض أو الكثير من أعضائها أو بعض قادتها؟ إنها المحنة ... ثوريون تحولهم الكراسي الدافئة والعيش الرغيد إلى فاسدين يعيشون في قصور مرفهة ويمتلكون مساحات واسعة من الراضي والأطيان وأموال طائلة, ولكن ليس هناك من يهتم بأمور وقود النضال السابقين, بأمور الشعب, بالإنسان العراقي .. فهل يمكن السكوت عن كل ذلك وغيره؟ لا وألف لا... وعلى الباغي تدور الدوائر!
7/4/2010 كاظم حبيب