شارع المتنبي يزخر بالحياة الفتية والثقافة ويزيده رفعة الجادرجي بهاءً
حين اقتربت من شارع المتنبي ببغداد شعرت بإحساس عجيب, إحساس العاشق المتيم الذي حرم من حبيبته وأجبر على الابتعاد عنها ردحاً طويلاً من الزمن, ثم عاد إليها فوجدها في حلة جديدة غير تلك التي كانت ترتديها قبل ذاك ولون شعر جديد ومساحيق وجه جديدة ورائحة عطر فواح تغلبت على رائحة الكتب القديمة, رغم أنها لم تتغير من حيث المضمون, ولكنها اغتنت بالجديد من الناس والكتب والمثقفات والمثقفين, شارع جديد بتاريخ مديد وحياة جديدة زاخرة بالأمل وتطلعات متفائلة وسط خرائب مريعة تسببت بها قنبلة سقطت على بغداد فأحالتها خراباً وغبارا, كما عبر عن ذلك الأستاذ رفعة الجادرجي في مؤتمره الصحفي الأخير ببغداد.ورغم أن النسوة في هذا الشارع قليلات وكثرة كاثرة من الذكور القراء والمتفرجين.. فقد بدا فرحاً ينتظر المزيد من الناس وخاصة النسوة العراقيات اللواتي حرمن من الحرية التي يتمتع بها الذكور في مجتمع ذكوري لا غير.
فقد الشارع الكثير من الأحبة, الكثير من الوجوه الصبوحة المشرقة من مختلف الأعمار, من أصحاب الذكر الطيب, من المثقفين من باعة الكتب والطباعين وغيرهم, فقدناهم مبكراً على أيدي حثالة وحفنة من المتوحشين الذين أرادوا الغوص في دم العراقيات والعراقيين أكثر فأكثر ليذكرونا بهولاكو وما فعله ببغداد في العام 1258, وتأجيج الحرب الطائفية. خسئوا, فقد رفض الشعب هذه الفتنة والحرب الطائفية وراح يلملم أوضاعه ويداوي جراحه ويعيد تدريجاً بناء ما هدم بمعاول الإرهابيين.
لقد دمعت عيناي حين اقتربت من ذلك الرجل الشهم بجسمه المتين المتماسك, الذي اقترب من الستين ربيعاً, وهو يقف أمام كشك كتبه المتواضع وينادي بأعلى صوته:
سلام على جاعلين الحتوف جسراً إلى الموكب العابر
سـلام على مثقل بالحـديد ويشمخ كالقـائد الظافـر
فوجدت نفسي أردد معه تلك الأبيات الثورية للجواهري العملاق. صافحته بحرارة وشعرت بالمرارة التي عاشها لفترة غير قصيرة رغم البسمة الحلوة على شفتيه, وهو الآن يعبر عن فرحته بعودة شارع المتنبي إلى الحياة ثانية ليتنفس من خلاله الناس ويشعروا بطعم الحياة والثقافة الحرة, بعد التفجير العدواني الغادر الذي تعرض له وما عانته مقهى الشاببندر من تدمير كامل وما وقع من وفيات في عائلة الإنسان الصابر والصامد على الألم, السيد الشابندر.
شارع المتنبي يعج بالمارة القراء ومشتري الكتب والباعة الظرفاء ويصعب على الإنسان أن يمر دون أن يلتقي بهذا الصديق أو ذاك أو بتجمعات صغيرة التقت في هذا الشارع المقدام بأهله ومريديه لتتبادل الأحاديث والهموم والذكريات أو لتتناقش حول هذا الكتاب أو ذاك.
التقيت بعشرات الأصدقاء والأحبة وأنا في طريقي إلى قاعة المدى في شارع المتنبي لحضور احتفائية المدى بعودة الفنان المعماري المبدع والكاتب الأستاذ رفعة الجادرجي, الذي غادر العراق مع زوجته الكاتبة الشفافة بلقيس شرارة بعد معاناة لا إنسانية في ظل نظام استبدادي وشخص متوحش, نظام وشخص صدام حسين, يجد الإنسان وجعها الإنساني في الكتاب المشترك لهما والموسوم "بين ظلمتين", الذي تسنى لي الكتابة عنه ونشر في جريدة وملحق المدى.
كان مكان الحتفالية صغيراً, رغم كبره بالنسبة إلى مواقع شارع المتنبي, وكان الحضور كثيفاً جداً. وكانت الوجوه فرحة بلقاء الفنان وزوجته بلقيس شرارة والاستماع لما سيقدمه لنا من فكر نير ومعرفة كبيرة وتجربة غنية وخبرة متراكمة. وكم كنت أتمنى أن تشاركه الندوة أو أن تقام لها ندوات حول كتاباتها الأدبية الإبداعية من قبل اتحاد الأدباء العراقي.
استمعنا إلى الصديق العزيز الأستاذ الناقد الأدبي والكاتب ياسين النصير وهو يقدم لنا بكلمات مختارة وصادقة رفعة الجادرجي, أحد فلاسفة ومنظري فن العمارة الحديثة في العراق والعالم العربي والمستلهم للتراث العربي والعالمي والحائز على الكثير من الجوائز العربية والدولية والمصمم لنصبي الحرية والجندي المجهول والكاتب المبدع في "الأخيضر والقصر البلوري" وغيره من الكتب وألأبحاث والتصاميم, هذا الإنسان النحيف واللين العود والرقيق بمظهره والمتين والمتماسك بفكره ومعارفه وحزمه العلمي وصرامته الفكرية وخبرته ومواقفه والمرهف بحسه والحرفي البارع في أسلوب إدائه والشحيح المقل في كلامه, الذي بلغ الثمانين ونيف من عمره, ونتمنى له طول العمر مع حبيبة ورفيقة عمره المديد, حيث تركت الأعوام العجاف وهموم النظام وآلام الاغتراب القسري الكثير من الأخاديد والجروح العميقة الظاهرة على وجهه الباسم الحزين.
ثم استمعنا إلى مداخلته القصيرة والمكثفة جداً والغنية بمضامينها والتي عبر فيها عما يختلج في داخله بعد غياب طويل بسبب طبيعة وممارسات النظام الشمولي الذي ساد العراق وعن مفهومه للعمارة وعن العلاقة العضوية بين مستوى تطور العمارة ومستوى تطور معارف وثقافة الإنسان والمجتمع والتي تتجلى في جمالية أو قبح العمارة المنجزة والمنفذة. وكانت رغبته, كما بدا لي, أن يجيب عن الأسئلة التي تدور في بال مدير الندوة والحضور أكثر من إلقاء محاضرة في موضوع واحد محدد.
استمعنا له بعناية فائقة رغم الضجيج غير المعقول وغير المقبول الذي ساد القاعة الخلفية حيث كانت عملية بيع الكتب تجري على قدم وساق دون الانتباه إلى المحاضر والمحاضرة القيمة التي كان يقدمها لنا رفعة الجادرحي والأحاديث الجانبية التي أفسدت على المحاضر المرهف وعلى الحضور المتلهف التركيز والاستمتاع الدائم والكامل بمضامين تلك الأفكار والمعارف والخبر التي قدمها لنا ببساطة ويسر كبيرين.
كان رفع الجادرجي مختصراً ومكثفاً, ولكنه كان واضحاً ودقيقاً في إجاباته وفي رؤيته للعمارة وفلسفته في فن العمارة. كان ناقداً جرئياً لقبح العمارة الراهنة وجمودها الطويل في عالمنا العربي والإسلامي, وعن العوامل التي تسببت في هذا الجمود الفكري الذي لم يقتصر على العمارة وحدها, بل شمل جميع جوانب الحياة. لقد عبر عن تلك العلاقة الجدلية بين مستوى حرية وفكر ومعارف وذوق ووعي الإنسان والمجتمع وثقافتهما ودورهما وبين مستوى فن العمارة وبقية الفنون الإبداعية , أي الحديث عن العلاقة التفاعلية بين المجتمع والمعماري والفنان.
لقد طرح الكثير من الأفكار القيمة والنيرة التي تستوجب مقالة خاصة, ولكن أحاول تلخيص عدة أفكار مهمة وأساسية منها, وهي:
1 . عاش ولا زال الفكر العربي والعمارة العربية والفن في العالم العربي عموماً في حالة من الجمود والتجميد منذ أكثر من 1300 سنة, في حين عرف الفكر والعمارة والفنون الغربية التطور وقطعت أشواطاً بعيدة, والفجوة بينهما اتسعت كثيرا بمرور الزمنً.
2 .ليس للوقت في العالم العربي والإسلامي من معنى أو من أهمية, في حين يعتبر الوقت اقتصاداً. ولا بد من أن أشير هنا إلى "قانون اقتصاد الوقت", وهو قانون موضوعي, الذي يتجلى في إنتاجية العمل أو في تقليص الوقت المبذول في إنتاج وحدة واجدة سواء أكانت سلعة مادية أم روحية. إذ كلما تقلص الوقت المبذول لإنتاجها, كلما ازدادت الإنتاجية واتسع المردود مع العناية بالنوعية.
3 . إن الجهل والوعي المتخلف ينتج عمارة متخلفة وفناً متخلفاً, في حين ينتج العلم والوعي المتقدم عمارة جميلة وقناً جميلاً.
4 .العلاقة الجدلية بين المجتمع والمعماري الفنان والمبدع. فحين يكون المجتمع واعياً وناقداً مرهفاً وفعالاً للأعمال الفنية, أمكن تطوير الفن المعماري والفنون بشكل عام, والعكس صحيح أيضاً حين يكون المجتمع متخلفاً ووعيه ضعيفاً وقدراته النقدية واطئة من النواحي الثقافية التخصصية والتراكم الثقافي, يستحيل عليه المشاركة في تطوير الفن والفنان وفن العمارة, كما يكون من المستحيل على المعماري لفنان تحقيق طموحاته ىوالتعبير عن منجزاته أو تغيير المجتمع وحسه الفني.
5 . العلاقة العضوية بين الحرفة والمادة التي يستخدمها المعماري في المجتمع والتفاعل بينهما, إضافة إلى العلاقة والتفاعل الضرورين بين الفن والمجتمع في العراق وبين الفنون العالمية في عالم معولم.
وإذ تحتاج محاضرته إلى مقالة خاصة, فأني بهذه المقالة القصيرة وددت أن أشير إلى الظاهرة الثقافية الجديدة المتجددة التي بدأت تنمو ببطء شديد في العراق ليس بسبب المثقفات والمثقفين الذين يعج بهم العراق وخارجه, بل بسبب قلة العناية بهم وبالثقافة في مجالاتها المختلفة وبالحياة الثقافية التي هي العماد الروحي للإنسان والتي تساهم في إنقاذه من الفكر الشمولي والعنف والقسوة وضيق الأفق والغيبيات والفكر الطائفي المقيت والفكر المحافظ والرجعي الذي جمد الحياة العربية والعراقية قروناً طويلة.
وخلال ذات الفترة ودع شارع الثقافة العراقية والمجتمع العراقي بحزن بالغ ودموع غزيرة الفنان المسرحي والمخرج المبدع وأحد أعمدة المسرح العراقي الأستاذ الفنان قاسم محمد إلى مثواه الأخير, حيث رحل عنا في وقت نحن أحوج ما نكون له ولأمثاله من المبدعين والمثقفين الديمقراطيين, بعد أن عانى الكثير من الغربة والمرض. ودع الراحل الطيب بحشد من المثقفات والمثقفين, ولكن ستبقى أعماله وكتاباته ودوره وإنسانيته في حياة المسرح العراقي شامخة في ذاكرة الشعب العراقي باعتباره أحد بناة المسرح البارزين والمساهمين في تطويره وإغنائه وتقدمه. فالتعازي الحارة لعائلته ولكل المسرحيين ومشاهدي المسرح العراقي ورواد الثقافة العراقية, والذكر الطيب للراحل العزيز.
وددت بهذا المقال أن أعبر عن فرحتي بعودة شارع المتنبي إلى محبيه بحلته الجديدة وأن أجدد شكري لمن ساهم بعودة الحياة إليه بسرعة فائقة وإلى كل العاملات والعاملين فيه وإلى كل مريديه والمرتوين بما فيه من كتب وثقافة متنوعة, وإلى مؤسسة المدى التي وفرت لنا فرصة اللقاء بالاستاذ رفعة الجادرجي.
لتنتصر الحياة الزاهية والمزدهرة لشارع المتنبي ومن فيها وليبقى الذكر الطيب لمن رحل عنا بالرغم منه ومنا.