Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

عَنِ الوَطَنِ والشَهادَةِ ودُمُوع الأُمَّهاتِ الغالِيات

 مِنْ مُذكَّرات إِنْسَانة                                                                                         

 مَدْرسِيَّات / 1  

عَنْ ذاكِرتي يَنْفلِقُ ذاك الظِلُّ المُؤْدِّي لِلطُفولةِ حَيْثُ أَيَّام الدِراسةِ الابْتِدائِيَّة ، وكُنّا حِيْنَها أَنا وأَتْرابي نَقْفِزُ السِنين مِنْ سِنِّ السابعةِ تَلاحُقاً حَتَّى سِنّ الحادِية عَشْر ورُبّما الثَانِية عَشْر ........ 

فَتْرة طَفَحَتْ فيها تَوجُهات بَثِّ حُبّ الشَهادَةِ " مِنْ أَجْلِ الوطنِ والقَضايا العَربِيَّة " لَدَى التلْميذات في المَدْرسَةِ ، فكانَتْ تَتطايرُ فَوْقَ رؤوسِنا شِعاراتُ التَضْحيةِ بِالنَفْسِ مِنْ أَجْلِ اسْتِعادةِ الأَحْواز المُغْتَصبة ( عَربُستان ) ، الشَهادة مِنْ أَجْلِ قَضِيَّةِ العَربِ الكُبْرى ( فلسطين ) ، التَضْحيةِ بِالغالي والنَفِيس لِلوَطن ........... وإلخ ، الاسْتِعدادِ التَامِّ الَّذي لايَقْبلُ المُناقشة لِلالْتِحاقِ بِجبهاتِ القِتال لِنَيْلِ النَصْرِ حَتَّى الشَهادة ، التَطوُّعِ في المُنظماتِ كفِدائياتٍ لِلاسْتِشْهادِ مِنْ أَجْلِ تِلك المرامي ، وأَفْكارٌ أُخْرَى تَنْضَوي كُلّها تَحْتَ هذهِ المَداخِلِ الرئيسِيَّة .......

أَيْ إِنَّنا كتلْميذاتٍ كُنَّا مشارِيع لِلشَهادةِ ، وكانَتِ الهَيْئة التَدْريسِيَّة تَحثُّ الخُطى نَحْوَ زِيادةِ هذهِ الرُوح وإِضْرامِها فَتِيلاً في نُفوسِنا الطُفولِيَّة تَحْتَ مُسَمَّى التَوْعية دُوْنَ انْتِباهٍ لِما في هذا التَوجُّه مِنْ أَخْطاءٍ فادِحةٍ لاتَخْدِم الوَطن ولا المُواطِن ولا المُسْتَقْبلِ وإِنَّما تَرُجَّهُ شَكاً وقَلقاً  ...... مايُثيرُ العَجب حَقَّاً إِنَّ المُعلِّمات كُنَّ يُشارِكنْ بِنشَاط ٍ مُثير في هذا التَوجُّه دُوْنَ أَنْ تَنْظُرَ ولَوْ واحِدَة مِنْهُنَّ إِلى خَطْوةٍ أَبْعَد فيما سيَحْمِلهُ المُسْتَقْبل مِنْ أَضْرارٍ إِثْر ذلِك .......  

وعلى سَبِيل المِثال في إِحْدَى مراحِل الدِراسةِ الابْتِدائيَّة كانَت تَحُثُّنا المُعلِّمة على كِتابةِ رِسالةٍ إِلى أَشِقائِنا في جَبهاتِ القِتال ، وأَذْكُرُ مِمَّا أَذْكُر العِبارة الَّتِي كانَتْ تُردِّدُها على مَسامِعِنا المُعلِّمة لِتَتَضمَّنَ رسائِلنا إِلى أَشِقائِنا : 

" وأَنا يا أَخي مُسْتَعِدة لِلتَضْحِيةِ بِنَفْسي مِنْ أَجْلِ فلسطين العزِيزَة ، ولكِنْ أَنْتَ تَعْلم إِنَّني فتاة ضَعِيفَة لا أَسْتَطيعُ حَمْلَ السِلاح والقِتال ، لكِنَّني سأُحارِبُ بِقلمي ودُموعي .... إلخ " . 

وجَازَتْ لنا أَنْ نَسْتَبْدِلَ كلِمة فلسطين بِكلِمةِ الوَطن ، الأَحْواز ...... إلخ ، وهكذا حَسَب وُجْهة الرِسالَة ........ 

رَغْمَ صِغرَ سِني عِبارَة ـ أَنا فتاة ضَعِيفَة ـ أَثارَتْ دواخِلي اسْتِنكاراً وغَضَباً وأَلَماً ، فسَأَلْتُ المُعلِّمةَ عِبارَةً بَدِيلَة ، غَيْرَ أَنَّ وقَاحتي أَزْعَجَتْها وأَوْصَدَتْ شَقَّ الاعْتِراضِ مِنْ بَابِ الطاعةِ والأَدبِ والخُلْق الحَسَن ، فنَحْنُ الصغِيرات غاشِمات لانَعْلَمُ شَيْئاً وبالتَالِي لاقِيمَة لِما نُبْدي ، وعَلَيْنا الطَاعَة لا الاعْتِراض ، والمُعلِّمةُ تَرَى أَنَّ العِبارَةَ رائِعةٌ وحَقِيقِيَّةٌ ، ويَجِبُ الإِيمان بِها وأَخْذِها مَأْخَذَ الجِدِّ ، وعَدَم مُحاكاةِ الرِجالِ في أَحْوالِهِم أَيْ عَدَمُ الاسْتِرْجال لأَنَّهُ أَمْرٌ كَرِيه ومَرْفوضٌ البَتَّة .  

  الفِدائيات ، وقَدْ سَمَطوا آذاننا تَشْبِيعاً بِذِكْرِهِنَّ في السنِينِ اللاحِقَة ، كُنَّ يَحْمِلْنَ الرَّشَاشات ، هكذا صَوَّروهُنَّ لَنا أَبَداً ، هُنَّ أَيْضاً مِنْ النِساء ، كَيْفَ لَمْ يَخْطر لِهذِهِ المُعلِّمة بَالاً مِثْله .  

الآن حِيْن أَتذكَّرُ عِبارة المُعلِّمة يَتَملَّكني 

" ولكِنْ أَنْتَ تَعْلَم إِنَّني فتاة لاأَسْتَطيعُ حَمْلَ السِلاح والقِتال ، لكِنَّني أَسْتَط شَيْطانُ الضَحِك وأَقولُ رُبَّما كانَ مِن اللائِق أَنْ تَخْتُمَ عِبارتها بِالنَهْجِ التَالي :     يعُ يا أَخي العزِيز التَضْحِية بِك عَنْ طِيبِ خاطِر ، أَمَّا أَنا فسأَنْعمُ بِحياتي لأَنَّني لَسْتُ مُضْطَّرَة لِلشَهادةِ وسأُواصِلُها دُوْنَك   " . 

هذه المُعلِّمة كانَتْ واحِدَةً مِنْ شُخُوصِ آوانِها الحافِلِ بِالصَفحات .........  

إِحْدَى الأَناشِيد الَّتِي تَعلَّمْناها في المَدْرسةِ بَيْنَ عِباراتِها دُسَّتْ : " نَموتُ وليَحْيا الوَطن " ، غَيْرَ أَنَّ لا أَحَد بادرَ لِلسُؤالِ : إِنْ فُنِي الكُلُّ وماتوا فداءً لَهُ ، فعَنْ أَيّ وَطنٍ نَحْكي ؟ 

كما لَمْ يَجْرُؤ أَحَدٌ مِنَّا السُؤالَ : لِماذا فلسطين قَضِيَّةَ العَرَبِ الكُبْرَى ، فيما كُلُّ بَلدٍ لَهُ قَضاياهُ الذاتِيَّة الَّتِي تَكْفِيهِ وتَحْتَاجُ جُهُودهُ ومَساعِيهِ ؟  

وفي السنِين الَّتِي تَلَتْها كانَتْ المواضيع المُفَضَّلَة الكِتابة عَنْ الفِدائِيَّة والفِدائيّ ، وكانَتْ جميلة بوحريد النَموذَج الَّذِي يَرْسِمونهُ لَنا مِثالاً في مُخيِّلتِنا ( رُبَّما لأَنَّ المُعلِّمات أَنْفُسهُنَّ  لَمْ يَكُنَّ يَعْرِفْنَ غَيْرَها ) دُوْنَ أَنْ نَعْرِفَ عَنْها الكثِير بِاسْتِثْناءِ إِسْمها ووَطنها والعَدُوّ الَّذِي قَاومَتْهُ ، تَماماً كما لَمْ نكُنْ نَعْرِفُ الكثِير عَنْ عربُسْتان غَيْرَ أَنَّها مُغْتَصبَة وأَهْلَها عَرب كما  قِيلَ لَنا ، وبَعْض المَعْلوماتِ الأُخْرَى الطفِيفَة عَنْها والَّتِي قَرأْناها في دَرْسِ الجُغرافية فيما بَعْد ، لكِنَّ الحَثّ على أَنْ نُصْبِحَ فِدائيات مِنْ أَجْلِها وازى بِأَضْعافِ آلافِ المَرَّاتِ مِنْ مَعْلوماتِنا الشَحِيحةِ عَنْها ، وتَمَّ شَحْنُ مخيِّلاتنا بِبَدْلاتِ الفِدائِيَّات ( السَتْرة والبِنْطال مَعَ قُبُعةِ الرَأْسِ ،  وكُلّها مِنْ قماشٍ عَلَيْهِ زَخارِف غَيمِيَّة الشَكْلِ ، والسِلاحُ الرَّشاش مُعلَّقٌ بِكتِفِ الفِدائِيَّة ) حَتَّى اسْتلذّيْنا فِكْرَةَ التَحوُّلِ إِلى فِدائِيَّات ، بَلْ صارَتْ أَماني مُعْظَم الطالِباتِ أَنْ يَلْبَسنَ بَدْلَة الفِدائِيَّة والقُبَعة ويَحْمِلنَ السِلاح ، وبَدَتْ الأَماني الأُخْرَى كأَنْ يُصْبِحَ الشَخْصُ طَبِيباً ، أَوْ مُهْندِساً ، أَوْ رساماً ، أَوْ فناناً .... إلخ كُلَّها أَماني سَاذِجَة عَقِيمة وغَبِيَّة وبَطراً ورفاهِية ، بَلْ إِنَّ الشُعورَ بِالذَنْبِ صارَ يُخالِجُنا فالوَطن بِحاجةٍ لِنَموتَ لأَجْلِهِ بَيْنَما نَحْنُ أَنانيون نُفكِّرُ في أَنْ نُصْبِحَ في المُسْتَقْبَلِ طَبِيبات ، أَوْ مُهْندِسات ، أَوْ ..... إلخ . 

الخَجل صارَ يُلازِمُ أَحْلامَنا بِالمُسْتَقْبَلِ الجَمِيل ، فالمَوْتُ هو المُسْتَقْبَل المَسْؤُول الواعِي الفائِق حُبَّاً لِلوَطنِ والأُمَّةِ العَربِيَّة ، حَتَّى وإِنْ لَمْ نكُنْ عَرباً . 

وبِما إِنَّ الطالِبات أَصابَهُن الهَوس مِنْ حُمَّى التَشْجيع على الفِداءِ ، صارَت الأَسْئلة السَاذَجَة والطُفولِيَّة تَتَناطَحُ في رُؤوسِهِنَّ جَمِيعِاً : هَلْ على الفِدائِيَّة أَنْ تَتْرُك أَهْلَها وتُسافِرُ إِلى عَربُستان مثلاً لِلنِضالِ ؟  

وكَيْفَ تُسافِرُ ، مَشْياً على الأَقْدامِ ، أَمْ بِالسيارةِ ، أَمْ عَلَيْها الاتِصال بِجَبْهةِ القِتالِ ، وكَيْفَ ذلِك وأَيْنَ العُنوان ؟

وأَسئِلَة أُخْرَى كثِيرَة .  

حَتَّى إِنَّ إِحْدَى الطالِبات وكانَتْ تُعاني بِسببِ ذلِك قالَتْ إِنَّ أَهْلَها يَمْنَعونَها مِنْ أَنْ تُصْبِحَ فدائِيَّة ولاتَدْري ماذا تَفْعل ، هَلْ تَهْربُ مِن البَيتِ ؟  

ولا أَدْري لِماذا أَصابني الرُعْب حِيْنَ سَمِعْتُ ماقالَتْهُ لنا فأَجَبْتُها بِخَوْفِ طِفْلَة : 

ــ أَرْجوكِ لاتَهْربي ، هذا خَطِير ؟ 

فسألَتْ :

ــ ما العَمَل ؟ 

وصَمَتْنا جمِيعاً صَمْتاً غامِراً حَتَّى بادرَتْ إِحْدَى الفتيات وقالَتْ : 

ــ لِنَسْألِ المُعلِّمة .

وحِيْنَ حَضَرَتْ المُعلِّمة الإِلَه ماتَتْ فَوْقَ الشِفاه كُلّ الأَسْئلَة . 

مَخاوِفُنا وهُمومُنا هذهِ جمِيعاً لَمْ تَجْرُؤ واحِدَةٌ مِنْ الطالِباتِ أَبَداً على البَوْحِ بِها لِلمُعلِّمة بَلْ بَقِيَتْ طيَّ طُفولتِنا والكِتْمان ، فالمُعلِّمة في نَظرِنا كانَتْ كالإِلَه المُتَوَّج على العرْشِ ، يَهابُها الجمِيع ويَخْشَى غَضَبَها . 

لَنا كتَلمِيذاتٍ في هذهِ الأَعْمار كانَتْ فِكْرَة الفِداء فِكْرَةً جذابَّة ، ولكِنَّها في نَفْسِ الوَقْتِ بقيَتْ لُعبَة كبقِيَّةِ أَلْعابِنا لَمْ تُدْرِك طُفولتنا السَاذِجَة وَجْه الجِدِّ والخُطورةِ فيها ، وكانَتْ أَسْئلتنا الحائرَة الساذِجة والمُضْحِكة أَحْياناً أَكْبَر دلِيل على ذلِك .

أَمَّا عَنْ فلسطين وواجِب الدِفاعِ عَنْها والشَهادة في سبِيلِ اسْتِردادِها ..... إلخ فحَدِّثْ ولا حَرَج . 

كَمْ مِنْ المُتناقِضات حاولوا صَبَّها في عُقولِنا كتَلمِيذاتٍ صَغِيراتٍ في تَفاصيلِ كُلِّ مايُعلِّمونَهُ لَنا ، ففي واحِدَة يُعلِّموننا أَنْ نكْتُبَ " أَنا فتاة ضَعِيفَة لا أَسْتَطيعُ حَمْلَ السِلاح "  ، وفي أُخْرَى يَحُثُّوننا على أَنْ نُصْبِحَ فدائيَّات  ، ومُتَناقِضات كثِيرَة لاتَصْلُحُ لِمُسْتَقْبَلٍ واثِق . 

ومِمَّا أَذْكُرهُ إِنَّهُ ذات مَرَّة نشَبَ خِلاف بَيْنَ جارتينِ في الشارِعِ الَّذِي نَسْكُنُ فيه فصَرَخَتْ إِحْداهُما في الأُخْرَى : 

 ـ أَنْتُم العراقيون كُلَّكُم خَونَة ، العرَب كُلَّهُم خَونَة .... أَنْتُم بعْتُم فلسطين وسلَّمْتُموها لِليهود  بِغَدْركُم ، ولِذَا فأَنْتُم مُجْبَرون ومُلْزَمون بِاسْتِعادتِها والمَوْت مِنْ أَجْلِها رُغْماً عَنْ أُنُوفكُم .   

فرَدَّتْ عَلَيْها الأُخْرَى وقَدْ انْتَفَخَتْ واشْتَعلَتْ ، والأَرْضُ ضاقَتْ بِغَضَبِها: 

ـ ولِماذا تَرْتَضين العيْش بَيْنَ الخَونَة وفي أَرْضِهم ، تَأْكلين مِنْ ثِمارِ أَراضيهم وتَشْربين مِنْ ماءِ أَنْهارِهِم ، وتَتَمتَّعين بِنُقودِهِم ، ألَسْتِ تَبيعين وَطنكِ مِنْ أَجْلِ الاسْتِمْتاعِ بِنُقودِ الخَونَة ؟

أَلَسْتِ أَنْتِ نَفْسكِ خائِنة ؟  

عُودي لِوطنكِ إِنْ كُنْتِ صادِقة وضَحِي بِنَفْسكِ لأَجْلِهِ ، فأَنْتُم مَنْ بعْتُم وَطنَكُم وأَراضِيكُم لِليهود . 

وتَصاعَدَتْ وَتِيرَة غَضَبِها حِدَةً فخَتَمَتْ جُمْلَها بِمَقولَةٍ مُتداولَةٍ شَائِعةٍ باللُغَة الدَارِجةِ :  

ــ هم نزل وهم يدبِّك على السطح . 

بِمَعْنَى : هو نَزِيلٌ ( ضَيفٌ ، غَرِيبٌ ، مُسْتَأْجِرٌ ، قادِمٌ جدِيد .... إلخ ) ، وفَوْقَ ذِلك فإِنَّهُ يُحْدِثُ ضَجَّة ، ويُثْقِلُ حَرَكتِهِ بِدكِّ أَرْضِ سَطْحِ المَنْزِلِ تَحْتَ أَقْدامِهِ دَكَّاً لِيُزْعِجَ أَهْلَ الدَارِ ، ولايَسْتَحي ، أَوْ يُراعي .  

تَعجَبْتُ جِدَّاً مِمَّا سمِعْتُ مِنْ الجارتين خُصوصاً وإِنَّنا في المَدْرسة نَقُومُ ونَقْعُد على ذَكْرِ فلسطين والفِداءِ والشَهادةِ  مِنْ أَجْلِها ..... إلخ .

هذهِ السيّدة تُكذِّبُ ما نَتعلَّمَهُ في المَدْرسة ، فأَيْنَ الحقِيقة ؟ 

هَلْ هذهِ السيّدة على حَقٍّ ، أَمْ ما نَسْمعَهُ في المَدْرسةِ ؟  

كُنْتُ أَتهادى في خُطواتي عائدَةً إِلى المَنْزِلِ مِنْ المَدْرسة ، ولكِنْ مانَطَقَتْ بِهِ هذهِ السيّدة جَعلني أَحُثُّ الخُطى مُتَمنِيَّةً الطَيران لأَصِلَ المَنْزِل وأَسْأَلُ والِديّ عَنْ الحقِيقة علَّني أَرْسو إِلَيْها ، وفي مُكابَدتي هذهِ وقَعَتِ الحقِيبةُ المَدْرسِيَّة أَرْضاً فحاولْتُ رَفْعَها لكِنَّني لِشِدَّةِ عجَالتي وَقَعْتُ فَوْقَها ، ولَمْ يَكُنْ هناكَ وَقْتٌ لإِهْدارِهِ في الأَلَم ، فنَهَضْتُ وسَحلْتُ الحقِيبة خَلْفي بِخُطىً واسِعة ، دَخلْتُ الدارَ مُسْرِعةً ، وإِذْ عَثَرْتُ عَلَيْهما وهُما يَتَعاونانِ في إِصْلاحِ بَعْضِ الأَضْرارِ الَّتِي لحِقَتْ  بِجِدارٍ ما في المَنْزِل،  سَأَلْتُهما على عَجَلٍ ودُوْنَ تَحِيَّة كما كانَ المُعْتاد كُلَّ مَرَّة فالأَمْرُ عاجِلٌ وخَطِير ولاوَقْتَ لتَضْييعِهِ في التَحِيَّة : 

ــ هَلْ صحِيح إِنَّ العِراقيين والعَرَب خَونَة وهُم مَنْ باعُوا فلسطين لِليهود ؟  

تَوقَّف والديّ عمَّا يُؤدِّيانهُ ، وسَألَني والدي مُنْدهِشاً : 

ــ ماذَا هُناكَ ياابْنَتي ؟ لِماذَا هذا السُؤَال ؟ 

قُلتُ لَهُ : 

ــ سَمِعْتُ الجارَة ( ع )  تَقُولُ ذلِك لِلجارَة الأُخْرَى ( س ) .  

فقالَ والدي :  

 ــ لاتَشْغلِي بالكِ ياابْنَتي بِهذِهِ الأُمُور ، المُهِمّ أَنْ تَعْتنِي بِدراستكِ وتَأْتين بِشَهادةٍ عالِيةٍ في المُسْتَقْبَل .  

خابَ أَمْلِي ، فوالديّ لَمْ يَكُنْ لَهُما أَيّ جَوابٍ عَنْ سُؤالي .  

قَضَيْتُ يَوْمي وليْلتِي مَهْمومةً حائرَةً أُفْكِرُ في الأَمْرِ وقَرَّرْتُ أَنْ أَسْأَلَ المُعلِّمة عَنْ ذلِك ، لكِنَّ شَجاعتي خَانَتْني بِمُجَردِ أَنْ دخَلْتُ الصَفَّ في اليَوْمِ التَالي  . 

حيْرَتي فيما بَعْد أَكلَتْها السنِين بِتَوالِيها وهضَمَتْها حِيْنَ كانَ في اسْتِضافةِ الوَطَن جمُوعاً مِنْ إِخْوتَنا وأَخواتَنا في الإِنْسَانِيَّة ، كانَتْ الجُمْلَة تَتواردُ مِنْ البَعْضِ حِيْناً قَصْداً ، أَوْ زَلة لِسانٍ غَيْر مَقْصودَة  وتَتوارَى بُرْهة ، تُساقُ إِلى آذانِ ماحَوْلَهُم ، أَوْ تَدورُ بَيْنَهُم :    

 "  العِراقيون والعَرَب خَونَة ، هُمْ مَنْ باعوا فلسطين لِليهودِ وعَلَيْهم شَرط تَحْرِيرِها "  . 

انْتهَتْ ضَجَّةُ التَحْرِيضِ هذهِ بانْتِهاءِ المَرْحلَةِ الابْتِدائِيَّة ولا أَعْلَم إِنْ كانَ ذلِك فَقَطْ في المَدْرسةِ الَّتِي كُنْتُ فيها ، أَمْ إِنَّ المَدارِسَ الأُخْرَى في تلِك المدِينةِ اللاودودَة كانَتْ على نَفْسِ الخُطى .

انْتهَتْ ضَجَّةُ التَحْرِيضِ هذهِ بانْتِهاءِ المَرْحلَةِ الابْتِدائِيَّة لِتَبْدأَ مَرْحلَة أُخْرَى مِنْ نَوْعٍ آخَر  : تَعْظيم التَارِيخ العربيّ والعِبارات المُؤثِّرَة الَّتِي تَجْرَحُ القُلوبَ عَن الشُهداءِ والتَضْحِيةِ والفِداءِ ، فأَيْنَما تَوجَّهْنا في المَدْرسةِ عُلِّقَتْ على الجُدْرانِ نَشَرات تَحْوي :  

( قُلْ لِوحيدي إِنِّي تَذَوقْتُ مَعْنَى العطاء ولذَّ لِقَلْبي جُرحَ الفِداءِ ) ، أَو مُرادِفة لَها ، أَوْ تُوازِيها .... إلخ .  

 عِبارات تَزْرَعُ الحُزْنَ المُبَطَّن المُحرِّض على الحقْدِ والانْتِقامِ مِمَّنْ يُعْتَبرونَ فاعِليها . عِبارات كُنّا نَقْرأُها في النَشَراتِ المَدْرسِيَّة المُعلَّقَةِ على الجُدْرانِ الداخِليَّة لِلمَدْرسةِ وفي قَاعاتِ الدِراسةِ الصَفِيَّة ..... إلخ .  

عِبارات كُنّا نَقْرأُها ، لكِنَّ الحدِيثَ عَنْها لَمْ يكُنْ دَيْدناً مُسْتَمِرَّاً إِذْ كانَ هُناك مَحطاتُ اسْتِراحةٍ مِنْها ، ففي مَرْحلَةِ الدِراسةِ المُتَوسِطةِ كانَ تَوَجُّه المَدْرسةِ عِلْمِيَّاً في جانِبهِ الأَكْبَر فعَبَرْنا بِطُفولتِنا إِلى ضِفَةٍ أُخْرَى تارِكين خَلْفَنا عَربُستان وملابِسَ الفِدائِيَّات والإِصْرار على الشَهادَةِ ، غَرِقَتْ أَذْيالُها في أَعْماقِنا واسْتَقرَتْ هادِئةً ساكِنةً وكأَنَّها غَفَتْ قيْلولَة ، لكِنَّ الراديو والتِلفزيون اسْتَمرَّ في دَيْدنِهِ لايَنْقَطِعُ عَن التَكْبِيرِ بإِسْمِ فلسطين المُغْتَصبة وضَرُورَةِ تَحْرِيرِها وتباً لِلعَدُوِّ الصهيونيّ ولِلمُؤامرَةِ ولِلامبِريالِيَّة العالَمِيَّة . 

وظَنَنْتُ لِفَتْرَةٍ أَنَّ الحيَاةَ قَدْ تَغيَّرَتْ فِعْلاً حَتَّى صادفْتُ ذاتَ مَرَّة فتاةً أَعْطَبَتْ ظَنِّي زَوالاً وهي تَقُول : 

ــ أَنا مُسْتَعِدَّة أَنْ أُضْحِي بِأَخي مِنْ أَجْلِ فلسطين ( أَيْ تَقْصد أَنْ يَمُوتَ أَخُوها مِنْ أَجْلِ تَحْرِيرِ فلسطين ودِفاعاً عَنْها ) .  

وأَشارَتْ إِلى أَخِيها الصَغِير مُحْتَضِناً كُرتَهُ إِلَيْهِ ، وعلى ما أَعْتَقِدُ كانَ في نَحْوِ العاشِرَةِ مِنْ العُمْرِ .......    

قَسْوَتها اسْتَفَزَّتْني كثِيراً وحَرَّضَتْني على سُؤالِها وأَنا أَرى الصَغِير لاهِياً بِكُرتِهِ بَرِيئاً في عالَمِ طُفُولَتِهِ  :

ــ  لِماذَا تُضَحِّين بِأَخِيكِ ولا تُضَحِّين بِحيَاتكِ أَنْتِ ؟  

بِالنِسْبَةِ لي قَسْوَتها تَمَثَّلَتْ في سُهُولَةِ التَضْحِيةِ بِحيَاةِ الآخَرِين مُقابِلَ الاحْتِفاظِ بِحيَاتِها دُوْنَ أَنْ تُكلِّفَ نَفْسَها عَناءَ سُؤالِ المُضَحَّى بِهِ المُوافَقة أَوْ الرَفْض ........  

ذلِك الكَرمُ المُزيَّف ، بِالضَبْط كسارِقٍ يَمُدُّ يَدَهُ في جَيْبِ مَنْ يُحاذِيهِ فيَنْهَبَهُ شَيْئاً ويُقَدِّمَهُ هدِيَّةً لِثالِثٍ بِاعْتِبارِهِ هو مالِك الشَيْءِ المَنْهوب ، فما البَالُ إِنْ كانَ المَسْروق حيَاةُ كائِن .

لكِنْ بَدَا واضِحاً إِنَّ الفتاةَ ضَحِيَّة اللَغْطِ المَدْرسيِّ بِدَلِيلِ جوابِها : 

ــ أَنا فتاة ضَعِيفة لاأَسْتَطِيعُ حَمْلَ السِلاحِ والذِهابِ إِلى جَبهاتِ القِتالِ . 

لِماذا يَجِبُ أَنْ يَموتَ الإِنْسَانُ مِنْ أَجْلِ الأَوْطان ؟ 

لِماذا لايَحْيَا مِنْ أَجْلِها ، والحَيَاةُ أَجْدَى ؟  

لِماذَا لايَتِمُّ زَرْعَ رُوح المَحَبَّةِ والتآخِي والتآلُفِ لا التَناحُرِ فلا يُعدُّ سيلان الدِماءِ هَدَفاً أَسْمَى ، بَلْ الحَيَاة ؟ 

لَوْ رَفَضَ كُلُّ إِنْسَانٍ على وَجْهِ الأَرْضِ حَمْلَ السِلاحِ والقِتالِ لاضْطرَّ السَاسةُ ومُنْتِجو صِناعةَ المَوْتِ والحُروبِ إِلى التَخلِّي عَنْ تِجارتِهِم العفِنَة هذهِ ، ومَالوا تَحْتَ ضَغْطِ الرَفْضِ الإِنْسانِيِّ إِلى البَحْثِ عَنْ سُبُلٍ أُخْرَى لِحلِّ الأَزماتِ . 

ولا أَلف وَطنٍ يُساوِي قِيمةَ دَمْعة واحِدَةٍ مِنْ عُيونِ الأُمهاتِ المُحْتَرِقاتِ القُلوبِ حُزْناً على فُقْدانِ أَبْنائهِنَّ في حُروبٍ لاطائِلةَ مِنْها ولافائِدَة لِلإِنْسَان ، حُروب تُغْنِي صُنَّاعَها ومُنْتِجيها فتَتَدلَّى كُرُوشهم أَكْثَر وأَكْثَر شَهْوَةٍ لِلدِماءِ حَتَّى تُلامِسَ الأَرْضَ القَانِية ، ويَعِيشونَ حَيَاتهم مُتْرفِينَ مُنْعمِينَ بَيْنَما يَذْهَبُ الآخَرونَ لِينامُوا في القُبورِ بِلاعَوْدَة . 

إِذْ يَذْهَبُ الآلافُ إِلى المَوْتِ تَحْتَ مُسَمَّى الشَهادَةِ لأَجْلِ الوَطَنِ والقَضايا الكُبْرَى ، إِنَّما الحقِيقَةُ غَيْر ذلِك ، هُمْ يَموتُونَ مِنْ أَجْلِ السَاسةِ وتَثْبِيتِ العُروشِ وتَرْسِيخِ سُلْطانِهم وزِيادَةِ ذوي الأَمْوالِ مالاً .  

أَيُّ مُبَرِّرٍ يَسْمَحُ بِقَتْلِ الآخَرِ ولَوْ بِمُسَمَّى عَدُوّ وتَحْتَ غِطاءِ الدِفاعِ عَن الوَطَنِ ؟ 

ولا حَتَّى الوَطَن أَثْمَن مِنْ حَيَاةِ الإِنْسَانِ ولَوْ بِمُسَمَّى عَدُوّ ..... 

ولَنْ يُغْفَرَ لِلأَوْطانِ أَبَداً دُمُوعَ الأُمَّهاتِ المُحْتَرِقاتِ القُلوبِ حُزْناً على فُقْدانِ أَبْنائهِنَّ في حُرُوبٍ لا طائِل مِنْها ..... 

لَنْ يَسْقُطَ عَنْ ذاكِرتي أَبَداً نَحِيبُ تِلك الأُمّ الثَكْلَى حِيْنَ بَدأَ الكاهِنُ يَتْلو أَسْماءَ المَوْتَى ( الشُهداء ) في صَلاةٍ أُقِيمَتْ على أَرْواحِهِم ، فخَرَجَ نَحِيبُها كعوِيلٍ طَغَى على صَوْتِ الكاهِنِ ، عوِيل غَصَّ بِاللَوْعةِ والحُرْقَةِ واللَظَى والحَشْرَجات ....... 

حُرْقَةَ قَلْبِها أَحْرَقَتِ المَكانَ بِما فيهِ ، حَتَّى أَنَّهُ تَأثُّراً واكْتِواءً اسْتَعْصَى على حُنْجُرَةِ الكاهِنِ التَوالِي بِالكلِماتِ فبَدَا صَوْتُهُ كحَشْرَجَةِ مُحْتَضِرٍ في أَنْفاسِهِ الأَخِيرَة ، مَذْبُوحاً في شَفَتيهِ ، مَصْلوباً على جِدارِ الحُنْجُرةِ ، رَغْمَ تَعْرِيفِ هذا الكاهِن لَدَى رَعِيَتِهِ بِلاإِنْسَانِيَّتِهِ ولاعَدالَتِهِ وغَلاظتِهِ وقَسْوَتِهِ ........  

أَيَّةُ قِيمَةٍ تَصْمِدُ لِتُضاهي دُمُوعَ الأُمَّهاتِ مَكانَةً وأَهَمِيَّةً ؟ 

أَيَّةُ قِيمَةٍ تَصْمُدُ ولاتَسْقُطُ أَمامَ هذهِ القُلُوب المُحْتَرِقةِ المُتَلظِيَّةِ نَاراً ولَهِيباً ؟ 

أَيَّةُ قِيمَةٍ تَصْمُدُ أَمامَ دُمُوعِ أُمٍّ لا يُطْفِئُ لَهِيبَ قَلْبِها المُحْتَرِق على ابْنِها المَذْبُوحِ في سَاحةِ القِتالِ وهي تَزورُ قَبْرَهُ كُلَّ يَوْمٍ لِتَنُوحَ فَوْقَهُ سَاعاتٍ طِوال ؟  

تَفْرَحُ الأُمَّهاتُ بِولادَةِ أَبْنائهِنَّ ، ويَبْذُلْنَ التَضْحِيات لِتَرْبِيَتِهِم لِيُصْبِحُوا بِعُمْرِ الزُهُورِ الفَوَّاحةِ يَنْبِضُونَ حَيَوِيَّةً ونَشَاطاً لِيَأْتي السَاسةُ ويَحْصِدونَ الزُهُورَ بِمَنَاجِلِهِم في وَمْضَةِ تَكَبُّرٍ وشُمُوخٍ  وأَنانِيَّةٍ  وتَطَلُّعٍ نَحْوَ المَزِيدِ مِنْ السُلْطَةِ والشُهْرَةِ والمَجْدِ .......  

أَيْنَ يَذْهَبُ السَاسةُ وصُنَّاعُ الحُرُوبِ بِوُجُوهِهِم مِنْ لَهِيبِ قُلُوبِ الأُمَّهاتِ الثَكالى ، وأَيّ جَحِيمٍ يَكُونُ أَخَفُّ عَلَيْهم وَطْأً ؟ 

سِوى المُغيبين والمَخْدوعين يَعْتَقِدون َ بِضَرُورَةِ إِراقَةِ الدِماءِ دِفاعاً عَنْ مَرْمى ما . 

لا قِيمَة على وَجْهِ الأَرْضِ تُضاهِي قِيمَةَ دَمْعَةٍ واحِدَةٍ مِنْ عَيْنِ أُمٍّ ثَكلَتْ ولِيدَها العزِيز ،  ولاحَتَّى إِنْ كانَتْ هذهِ القِيمَة بِحَجْمِ وَطَنٍ .........  

الدِماءُ لاتَبْني الأَوْطان بَلْ تَنْسِفها .  

هَلْ بِالمَوْتِ والحُرُوبِ والدِماءِ تُبْنَى الأَوْطان ، أَمْ بِالحُبِ والعِلْمِ والفُنُونِ والآدابِ والعَمَلِ ؟  

كُلُّ الحُرُوبِ الَّتِي خَاضَها الوَطن أَيُّ حيَاةٍ انْتَجَت ْ؟  

هَلْ أَمَّنَتْ اسْتِقْرارَهُ ؟ 

إِلى أَيْنَ سارَتْ بهِ ؟  

هَلْ بِهذِهِ الحُرُوب بُنِي الوَطن ، أَمْ جَرَّتْهُ إِلى الدَمارِ والخرابِ ؟ 

أَيُّ حاجَةٍ بِنا لِلإِجابةِ ودلِيلُ الحيَاةِ يَقولها عَنَّا :  

وحْدَهُ التَدَرُّب على الحُبِّ ، حُبّ الآخَرِ ، واحْتِرامِ الحيَاةِ يَبْني ويُقِيمُ الأَوْطان كما العِلْمُ والفُنُون والآداب والعَمَل ......... 

كَمْ أَعْطَى العِراقُ مِنْ الشُهداءِ ، أَنا لاأُسمِّيهم شُهداء ، بَلْ ضَحايا السِياسات العالمِيَّة والوَطنِيَّة وتَناحُرِ المصالِحِ بَيْنَ الأَطْرافِ المُتَسيِّدةِ ذات القُوَةِ ، والشَأْنِ ، والمالِ ، والقُدْرَةِ والدَهاءِ ، وأَذْيالِها الَّتِي تُروِّجُ لِسِياسةِ الحُرُوبِ والقَتْلِ لازْدِهارِ تِجارتِها .  

ضَحايا حَرْب الشمال ، حُروب العِراق على الجَبْهةِ الصَدِيقَة ، الحَرْبُ العِراقِيَّة ـ الايرانِيَّة ، حَرْبُ الكويت ........ إلخ . 

هَلْ كانَ مِنْ الضَرورِيّ أَنْ يَفْقِدوا حيَاتهم مِنْ أَجْلِ ماخَطَّط َ لَهُ الساسة ؟!!  

تَحْضَرني الأُمَّهات ( وأَيْضاً الآباء ) وهُنّ قَدْ صَنَعْنَ المُسْتَحِيل وتَحَمَّلْنَ الشَدائِد لأَجْلِ أَبْنائهِنَّ وتَرْبِيتِهِم حَتَّى صَاروا رِجالاً يَحِقُّ لِلأُمَّهاتِ التَباهي بِهم ........ 

لايُمْكِنني أَنْ أَغْفِرَ لِلحُرُوبِ ماهَدَمَتْ وخَرَّبَتْ حِيْنَ تَطالُ ذاكِرتي حُرْقَةَ قُلُوبِ الأُمَّهاتِ على أَبْنائهِنَّ الضَحايا . 

تَتَلاشَى قِيمَةُ الأَوْطانِ وتَزْدادُ الحُرُوبُ قُبْحاً أَمامَ مَنْظرِ أُمٍّ تَبْكي فَوْقَ ضَرِيحِ ابْنِها  . 

أَمامَ أَحْزانِ الأُمَّهاتِ تَنْفَضِحُ  قِيمَة الكثِيرِ مِنْ الخَطواتِ الاسْتِعْراضِيَّة ، وتَكْبُرُ قِيمَةَ الحيَاةِ أَضْعافاً وأَضْعاف ........ 

مَنْ يَتَنفَّسُ في هذا روائِحَ العاطِفَةِ فأَنا أُقِرُّ جهاراً بِأَنَّ لِلعاطِفَةِ مالِلعقْلِ مِنْ رؤْيةٍ وتَصْويبٍ وتَبصُّر ....... وإلخ ، قَدْ تَسْبِقهُ فتكون أَرْشَدُ مِنْه في مَرَّاتٍ ، وقَدْ يَسْبِقها فيكونُ أَرْشَدُ مِنْها في مَرَّاتٍ أُخر ، فالعاطِفَةُ تَتَحسَّسُ مايُهْمِلَهُ  العَقْل ويَدوسُ عَلَيْهِ تَعالِياً .   

وما أَعْنِيهِ بِكلامي هو العاطِفَة كحاسَةٍ ذكِيَّة تُحاكِي الأَمْرَ أَوْ الحَدَث أَوْ الواقِعةَ ..... وإلخ ،  وتُشِيرُ إِلَيْهِ بِصوابِ الوجْهَةِ ، وتُمَهِّدُ الدَرْبَ بِدلالاتٍ مِنْها إِلى التَفاعُلِ الصَحِيحِ مَعَ الأَمْرِ ، ولَيْسَ الصُورَةَ المُشَوَّهة المُشَاعة عن العاطِفَةِ بِالمَعْنَى الانْفِعالِيِّ السلْبِي . 

ماقِيمَةُ الأَوْطان حِيْنَ تَخْلُو مِنْ رِجالِها ، وتَتَرمَّلُ فيها النِساءُ ، ويَصِيرُ اليُتمُ نَصِيباً لِأَطْفالِها ، والثَّكَلُ حَوْزاً لأُمَّهاتِها ، والوَحْدَةُ لِشاباتِها ..........  

هَلْ هُناكَ مايُمْكِنُ تَسْمِيتَهُ وَطناً في حالٍ كهذا ......... 

كيْفَ لايُفكِّرُ صُنَّاع الحُرُوبِ في دُمُوعِ الأُمَّهاتِ وهُم يُخطِّطونَ لِجَرِيمةِ الحَرْبِ ........ 

لَوْ فَعلوا  !!! 

لَوْ فَعلوا لتَغيَّرَ مَسار حيَاتِهِم قَطْعاً فنَذَروها لأَجْلِ السَلامِ ولَيْسَ الحُرُوب ......... 

لكِنَّهُم لايَفْعلونَ ولَنْ يَفْعلوها ..........   

ولِكُلِّ الدَجَّالِين مِمَّنْ يُطبِّلونَ لِلمَوْتِ تَمْجِيداً يُعلِّقُ السُؤالُ قَرْنيهِ فَوْقَ تَصلُّباتِ قُلُوبِهم  القَاسيَة : 

 أَيُّ الوَجْهينِ أَبْلَغُ إِيجابِيَّة في نَفْس ِالإِنْسَانِ تَأْثِيراً : وَجْهُ إِنْسَانٍ يَنْبُضُ لِلحيَاةِ فَرَحاً ، أَمْ وَجْهُ إِنْسَانٍ لَفظَ الحيَاةَ وغابَ عَنْها ؟                                                                  

يَتَباهى الإِنْسَانُ ( والمُؤْمِنُ بِوَجْهٍ خاصّ ) بِأَنَّهُ الكائِنُ الوحِيد الَّذِي خُصَّ بِمزايا مُتَفرِّدة كالعَقْل واللُغَة وغَيْرها دُوْناً عَنْ الكائناتِ الأُخْرَى ، وهو بِذلِك أَفْضَلُ الكائِناتِ وأَحْسَنَها ويَتَربَّعُ قِمَّةَ الهَرَمِ عَرْشَاً ، لكِنَّهُ لايَمْلِكُ الجَواب عَنْ سُؤالٍ يَلْتَهِبُ حاجَةً لِلإِجابَة :              

لِماذَا لايَسْتَخْدِمُ هذا العَقْل في حَلِّ كُلِّ خِلافاتِهِ بِالحِوارِ والتَفاوُضِ مُسْتَفِيداً مِنْ أَداتِهِ النَاطِقَة   اللِسان ( وأَنا أُسمِّيه بِآلَةِ العَقْلِ إِنْ جَازَتِ التَسْمِية ، ولِلابْتِسامَة أُسمِّيهِ النَاطِق الرَسْمِيّ بإِسْمِ العَقْل ) بَدَلاً مِنْ أَنْ يَسْتَخْدِمَ السِلاح ، أَوْ يَديهِ وقَدَميهِ ، لِحَلِّ خِلافاتِهِ ومَشَاكِلِهِ ؟          

أَقُولُ " لُغتكَ تَدُلُّ عَلَيْك " ، ولُغَةُ الإِنْسَان في حَلِّ خِلافاتِهِ لاتَدُلُّ على إِنَّهُ الأَفْضَل والأَرْقَى ،  وهو لَمْ يُحقِّقْ وإِنْ نَزْراً  مِنْ إِنْسَانِيتِهِ المَزْعُومَة .                                                  

بَعْدَ أَنْ طافَتِ القَلْبَ نَاراً أَحْزانُ الأُمَّهات ، حاوَلْتُ أَنْ أَلْهُو بِإِخْمادِها وإِنْ وَقْتاً ، فكانَتْ إِلى يَديّ وَرقَةً رَسَمْتُ فيها خارِطَتين لِدَوْلتينِ ، وأَنا أَتَفرَّسُ خَرائِطَ البُلْدانِ حدَّ العجِّ ضَحِكاً على بَلَهِ الكائِنِ الَّذِي قَسَّمَ الأَرْضَ وهي وَحْدَةٌ واحِدَة إِلى دُولٍ ، ومُدنٍ ، ومُقاطعاتٍ ، ورَسَمَ الحُدودَ لَها بِقَلَمِ الدِماءِ،  فطَفَرَ الضَحِكُ مِنْ العَيْنَيْنِ دَمْعاً ........

رَسَمْتُ خَارِطَتين لِدَوْلتينِ مَجِيدتينِ في افْتِراعِ الحُرُوبِ ، قَادَ بلاءُ السِياسةِ إِحْدَاهُما إِلى افْتِراعِ الحُرُوبِ على أَرْضِها وفي عُقْرِ دارِها وعلى حُدُودِها ، والأُخْرَى رَكَضَتْ بِالحُرُوبِ إِلى ساحاتِ أَوْطانٍ أُخْرَى ونَأَتْ بِها عَنْ أَراضِيها ومُواطنِيها . 

رَسَمْتُ خَارِطَتين لِدَوْلتينِ مَجِيدتينِ في الوَلَعِ ارْتِواءً بِالدِماءِ تَسْكُبُ مِنْها وتَفِيضُ بِها ، إحْدَاهُما تُفْضِّلُ الحُرُوبَ على أَرْضِها وفي عُقْرِ دارِها وعلى حُدُودِها ، والأُخْرَى تَرْكُضُ بِالحُرُوبِ إِلى ساحاتِ أَوْطانٍ أُخْرَى وتَنْأَى بِها عَنْ أَراضِيها ومُواطنِيها .  

هَلْ عَرِفْتُماهما ؟ 

لايَطْرَقُني شَكٌّ في ذلِك . 

قَلْبُ مَحَبَّة ارْسُمهُ في وَرَقتي إِلَيْكُنَّ / م ، عزِيزاتي ، أَعِزَّائي مِنْ القَارِئاتِ والقُرَّاء . 

سَلامٌ ومَحَبَّة لِكُلِّ المُتابِعاتِ والمُتابِعين .  

هامِش : 

افْتِراع : امْتِهان ، مُزاولة . 

المَعْنَى الشَائع المُتداول لِكلِمَةِ ـ شَهِيد ـ في بَلَدي هو المَقْتول في سبِيلِ الوَطَن ودِفاعاً عَنْهُ ،  أَوْ في سبِيلِ الله ، وعلى نِطاقٍ أَضْيق وفي أَحْوالٍ مُعيَّنة  شَمَلَتْ المَقْتُول غَدْراً أَيْضاً .

لِمَنْ يُريدُ الاسْتِفاضَة أَكْثَر عَنْ كلِمة شَهِيد ، أدْناه الشَرْح عَنْها في مِعْجم لِسان العرب :  


عن معجم / لسان العرب

والشَّهِيدُ المقْتول في سبيل الله، والجمع شُهَداء. 

وفي الحديث: أَرواحُ الشهَداءِ قي حَواصِل طَيْرٍ خُضْرٍ تَعْلُقُ من وَرَق (* قوله «تعلق من ورق إلخ» في المصباح علقت الإبل من الشجر علقاً من باب قتل وعلوقاً: أكلت منها بأفواهها.

وعلقت في الوادي من باب تعب: سرحت.

وقوله، عليه السلام: أرواح الشهداء تعلق من ورق الجنة، قيل: يروى من الأَول، وهو الوجه اذ لو كان من الثاني لقيل تعلق في ورق ، وقيل من الثاني، قال القرطبي وهو الأكثر.) الجنة، والإسم الشهادة.

واسْتُشْهِدَ: قُتِلَ شهِيداً.  

وتَشَهَّدَ: طلب الشهادة. 

والشَّهِيدُ الحيُّ؛ عن النصر بن شميل في تفسير الشهيد الذي يُسْتَشْهَدُ: الحيّ أَي هو عند ربه حيّ. ذكره أَبو داود (* قوله «ذكره أبو داود إلى قوله قال أبو منصور» كذا بالأصل المعول عليه ولا يخفى ما فيه من غموض.

وقوله «كأن أرواحهم» كذا به أيضاً ولعله محذوف عن لان أرواحهم.) أَنه سأَل النضر عن الشهيد فلان شَهِيد يُقال: فلان حيّ أَي هو عند ربه حيّ؛ قال أَبو منصور: أُراه تأَول قول الله عز وجل: ولا تحسبن الذين قُتِلوا في سبيل الله أَمواتاً بل أَحياءٌ عند ربهم؛ كأَنَّ أَرواحهم أُحْضِرَتْ دارَ السلام أَحياءً، وأَرواح غَيْرِهِم أُخِّرَتْ إِلى البعث؛ قال: وهذا قول حسن. 

وقال ابن الأَنباري: سمي الشهيد شهيداً لأَن اللهَ وملائكته شُهودٌ له بالجنة؛ وقيل: سُمُّوا شهداء لأَنهم ممن يُسْتَشْهَدُ يوم القيامة مع النبي، صلى الله عليه وسلم، على الأُمم الخالية. قال الله عز وجل: لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً؛ وقال أَبو إِسحق الزجاج: جاءَ في التفسير أَن أُمم الأَنبياء تكَذِّبُ في الآخرة من أُرْسِلَ إِليهم فيجحدون أَنبياءَهم، هذا فيمن جَحَدَ في الدنيا منهم أَمْرَ الرسل، فتشهَدُ أُمة محمد، صلى الله عليه وسلم، بصدق الأَنبياء وتشهد عليهم بتكذيبهم، ويَشْهَدُ النبيُّ، صلى الله عليه وسلم، لهذه بصدقهم. قال أَبو منصور: والشهادة تكون للأَفضل فالأَفضل من الأُمة، فأَفضلهم من قُتِلَ في سبيل الله، مُيِّزوا عن الخَلْقِ بالفَضْلِ وبيَّن الله أَنهم أَحياءٌ عند ربهم يُرْزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله؛ ثم يتلوهم في الفضل من عدّه النبي، صلى الله عليه وسلم، شهيداً فإِنه قال: المَبْطُونُ شَهيد، والمَطْعُون شَهِيد. قال: ومنهم أَن تَمُوتَ المرأَةُ بِجُمَع.

الأحد 3 / 2 / 2013 ــ الأحد  19 / 2 / 2013

 

Opinions