مقالة: مهرجان المربد هذا العام.. ممنوع دخول النساء
08/05/2006بقلم :سعد صلاح خالص
لم يستح مربد هذا العام من نازك الملائكة، ولا من لميعة عباس عمارة، ولا من عاتكة الخزرجي وسعاد الصباح وسلمى الخضراء الجيوسي وفدوى طوقان. ولا من سكينة بنت الحسين وتماضر بنت عمرو وولادة بنت المستكفي وليلى الأخيلية ورابعة العدوية وعشرات غيرهن. ولم يستح من البصرة ذاتها، الشاعرة الساحرة أم اللغة والقريض، ليعلن بكل صراحة – ولنقل وقاحة- عدم دعوة أية شاعرة إلى المشاركة في المهرجان هذا العام ليحوله إلى ملتقى ذكوري شأنه شأن كل العراق الذي بدأ السواد يلفه تدريجيا، بعد أن انتقل من فاشية الحزب الواحد والقائد الأوحد إلى فاشية عصابات الشوارع السوداء المتشنجة التي تعتنق السواد زيا وفكرا..
وقد كنت أتمنى من كل هذه الأسماء التي شاركت في ذلك المربد، وبينها ما يوصف بالتقدمي، الاحتجاج الصريح على هذا التعسف المخجل بالمقاطعة على أقل تقدير والصراخ في الإعلام على أكثره، بدلا من التغني بمحاسن مهرجانهم الذي توجوا به المسلسل المبكي في البصرة الذي بدأ بالقتل والتهجير ونهب وتهريب الثروات. ولم ينته بانتهاك براءة الطلبة في الجامعة، وبالتأكيد لم ينته أيضا بالمربد "الذكري" الأخير، الذي أصبح أشبه بحانات الشواذ في الغرب التي ترفع يافطات تمنع دخول النساء..
أما الأسباب المعلنة، والتي أعترف بأنني لم أطلع عليها إلا من مقالات بعض الأخوة العراقيين المحتجين (وما أقلهم)، فهي أقبح من قرار الحرمان ذاته. بل وأنني لأخجل من ذكره هنا. ولكنه عموما يعكس ذلك الجزء الشمولي المتعسف من ثقافتنا الذي يعمم الخطأ الفردي على الجميع. فإن أخطأت شاعرة فكل الشاعرات خاطئات، وإن كنت شيعيا فأنك صفوي، وإن كنت سنيا فأنك زرقاوي، وإن ناقشت الفدرالية فأنك شوفيني، وإن اعترضت على ما يجري في عراق اليوم فأنك قطعا صدامي.. هكذا نحن مذ كنا، فلا مساحات رمادية ولا حوارات ولا خراف سوداء في القطيع. لا في عهد صدام، ولا في عهود سابقة ولاحقة. فالمستبد القابع في عقولنا التاريخية يتجسد يوميا عبر الأب وشيخ العشيرة ومدير المدرسة ومدير الدائرة والمسؤول الحزبي وأمام المسجد وصولا إلى أعلى الهرم المقرف للاستعباد الذي أعتدنا عليه فلم نعد نثور عليه منذ قرون، بل نثور لننتقل من استعباد إلى آخر، ونتوسل الآخرين ليقوموا بإزاحة المستبد نيابة عنا..
ما حصل في المربد له مقدمات واضحة للعيان منذ اليوم الأول لسقوط النظام السابق. فقد بسط "الحكام الجدد" سوادهم على الشارع جنوبا ووسطا وغربا (وإن بمسميات مذهبية تختلف هنا وهناك). وزحفوا أخيرا نحو بغداد العريقة وتمكنوا من أجزاء كبيرة منها، تحت أبصار الحكام الجدد وتشجيعهم. فهم وجوه لعملة واحدة.. ولن يستثنوا الشمال الكردي إذا تسنى لهم ذلك. فهم قادمون بمشروع سياسي يلبس الجبة والقفطان، ولا يحتاج المرء لكثير من البحث التاريخي القريب ليدرك بأن الوطن ذاته لا حضور لهم في أدبياتهم. وأقصد هنا الطائفتين الأكبر معا. فاختلافهم شكلي، وجذر مشروعهم واحد، ومفهوم الأمة يسود على مفهوم الدولة، والوطن الذي نبكيه يوميا لا يعدو في نظرهم ولاية في الأمة الأكبر التي يديرها الخليفة في كابول والإمام في طهران..
لا عزاء لشاعرات العراق ولا لنسائه، ولا موجب له. فما حصل في المربد الأخير لا يستحق دمعة تذرف. فهو نقطة في بحر المد الهائج الذي يهدف لتحويل نساء العراق إلى جواري وقيان، وآلات للإنجاب والاستمتاع، وأخيرا "الحجاب والتيزاب" كما تذكرّهن ملصقات تنتشر يوميا على جدران المبكى في العراق. كما يهدف الى تحويل رجال العراق إلى رهبان بالليل وفرسان بالنهار، يقاتلون كل يوم حتى آخر عراقي لإعلاء راية القائد الضرورة والفقيه والخليفة..
ومن مشروع قانون الأحوال الشخصية الذي اجهضه بريمر وليس "أحرار" العراق المزعومين، إلى الدستور الكسيح، إلى المدن العطشى التي باتت تنام وتصحو على القتل والإرهاب والتفخيخ، وإلى مساكين العراق الذين أختلطت عليهم الأزمان، وإلى المهزلة الحكومية الجارية اليوم على طريقة شيعي هنا.. سني هناك، وإلى التهجير الطائفي للسكان، وإلى مسلسل تصفية الكفاءات العلمية والأكاديمية وسط صمت حكومي مطبق. إلى الفساد الذي أصبح إلى جانب الإرهاب المؤسستين الوحيدتين اللتبن تعملان بكفاءة في بقايا هذا الوطن، وإلى كل ما يذكر ولا يذكر، يبقى الأمل قائما.. لأن الأوطان لا تموت، والعراق بالذات، ممنوع من الصرف مهما طال الزمن.