أولويات مقارعة الفقر.. تحديات ومعالجات في ضوء افكار السيد مرتضى الشيرازي
علي حسين/
مع تطور الانسان، ومع ازدياد قدراته العقلية والعملية في التعامل مع موارد الكوكب الوحيد الذي يسكنه، تزداد مشكلة كأداء أسمها (الفقر)، هذه المشكلة التي لم تفارق رحلة البشرية منذ نشوئها، وعبر جميع مراحلها، حتى عندما أخذت الآلة محل الجهد العضلي للإنسان، وبرعت فيه، وأعطت نتائج خيالية من حيث سعة الانتاج وجودته، إلا أن الفقر لا يزال يعيث فسادا في حياة الافراد والمجتمعات والامم، والسبب دائما مفردة اسمها (الجشع).
نعم الجشع والظلم وضعف الانسان في التحكم برغائبه وأهوائه النفسية، أساس الفقر، لأن هذه النزعات البشرية الشريرة، تؤدي بالنتيجة الى سوء استعمال خطير لموارد الارض، وتقود الى عمليات احتكار دولية وجماعية وفردية لثروات العالم، حيث تنحصر غالبية ثروات وموارد المعمورة بأيدي دول، وشركات، وأفراد، يمثلون أقلية قليلة، قياسا لسكان العالم أجمع.
ولم تفلح طروحات المصلحين وافكار الفلاسفة، ولا بحوث ودراسات المعنيين بمعالجة الخرق الخطير للفقر، حيث يعاني الأكثرية لسكان العالم من هذا الوباء، او التحدي الكبير.
يقول سماحة آية الله، السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، في كتابه المهم والقيّم عن الفقر، والموسوم بـ (استراتيجيات مكافحة الفقر في منهج وتعاليم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام)، حول هذا الموضوع:
(الفقر يُعد من أهم التحديات التي واجهت البشرية على مر التاريخ، ويشكل هو والجهل والمرض وانعدام الأمن بأبعاده المختلفة، الأضلاع الأربعة للتخلف والشقاء البشري.. ولايزال الفقر يشكل الظاهرة الأخطر، والهاجس الأكبر للبشرية، رغم كل التطور العلمي وكل البرامج والمناهج الاقتصادية على الصعيد المحلي والدولي).
الفقر العالمي المزمن
عندما بدأ الانسان رحلته في الارض، كان يحصل على غذائه بالقوة والمطاردة والصراع مع الكائنات الاخرى التي تقتسم معه المعمورة، فكان حاله حال الضواري والكائنات الضعيفة على حد سواء، ومع تصاعد النضوج والوعي العقلي، بدأ يجد البدائل والحلول الافضل لحياة أفضل، واستمر هذا التصاعد في الاختيار والسعي مع استمرار رحلة الانسان في الوجود، ومع ظهور التجمعات البشرية، بدأ الصراع ينتقل من الانسان مع الحيوان، الى الانسان مع الانسان، وظهر التحدي الاكبر في حياة البشرية، ألا وهو مشكلة الفقر التي أخذت بالتصاعد منذ أوائل نشوء البشرية، ولا تزال تشكل التحدي الاكبر حتى الآن.
وقد جاء في دراسة لإحدى المنظمات الاقتصادية الدولية المستقلة: (إن المشكلة الاقتصادية الأساسية التي عانى الإنسان منها منذ فجر التاريخ وحتّى يومنا هذا تتمثل بمشكلة الفقر، ويتحدث رجال الاقتصاد الوضعي عن ذلك من خلال بيان طرفي المشكلة الاقتصادية المتمثلين بندرة الموارد الطبيعية وتزايد الحاجات الإنسانية أكبر من نسبة تزايد الموارد الطبيعية، الأمر الذي يؤدي إلى إيجاد المشكلة الاقتصادية التي يتمثل معظمها في مشكلة الفقر).
فيما يطرح سماحة السيد مرتضى الحسيني الشيرازي في كتابه المذكور اعلاه، بعض الحلول التي تسهم في وضع خطوات واضحة المعالم لمقارعة الفقر، يقول سماحته في هذا المجال:
(لكي نعرف مدى خطورة مشكلة الفقر، يجب أن نعرفه بشكل صحيح ومتكامل. فإن الفقر لا ينحصر في الجانب المادي فحسب، كما يتوهمه عامة الناس، بل له امتدادات واسعة إلى أبعد الحدود، ذلك أن الفقر يعني: الحاجة والحرمان، وهو على هذا يستبطن كافة العناوين التالية: الحرمان من الحب والعاطفة/ افتقاد التعليم اللائق/نقص الرعاية الصحية الشاملة/ضعف التربية البدنية وممارسة الرياضة/الفقر إلى المسكن المناسب/الملبس المناسب/المأكل والمشرب/المركب/الجماليات والكماليات والزينة/الأمن على الصعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية/الحرمان من الحقوق الأولية والثانوية/الحرمان من الفكر والثقافة والعقيدة/فقر المجتمع والدولة/ افتقاد الاستقلال الاقتصادي والسياسي).
وبهذا فإننا نتفق مع رؤية سماحة السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، بأن الفقر لا يعني قلةً في الرغيف فقط، ولا يعني التضوّر من الجوع الجسدي فحسب، إنما هناك فقر يتعدى هذا النوع من الفقر الى نوع آخر، يُسهم في تدمير حياة الانسان، ويعمل على تحويلها الى ما يشبه العبث، لأن الانسان الجائع الفقير، غالبا ما يكون غير قادر على الانتاج والابداع في أي مجال من مجالات الحياة، وبهذا سيتحول الى عبء ليس على نفسه وعائلته فحسب، إنما هو عبء على مجتمعه ودولته، فضلا عن كونه عبئا على العالم أجمع، وكلما كثر هذا النوع من الناس، كلما كبرت وتضاعفت نسب الفقر في العالم.
لذلك يؤكد سماحة آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي في كتابه المذكور آنفا، على أن: (الفقر ليس عدم تملك الأموال والثروات، بل هو الحرمان من الاستفادة منها واستثمارها لرفع حوائج الإنسان المادية منها والمعنوية، السياسية منها والاجتماعية، العلمية منها والفكرية والثقافية، الأساسية منها والجمالية والكمالية).
شمولية أبعاد الفقر
إن التأكيد على شمولية الفقر، يعني بالدرجة الاساس عدم التركيز في سبل المعالجة، على الحاجة للرغيف فقط، وهنا قد ينطبق المثل المعروف القائل، (بدلا من أن تعطي الانسان سمكة، علمه كيف يصطادها)، لذا يبرز بقوة دور المعنيين بمعالجة الفقر الفكري للانسان، وتدني الوعي لديه، فضلا عن توفير الاحتياجات الداعمة للانسان، حيث يشكل افتقادها، أبعادا مضافة للفقر.
من هنا يورد لنا سماحة آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، في كتابه هذا، مثالا عظيما يستله من حقيبة التأريخ الاسلامي في حلقاته الاكثر اشراقا، حينما يقتبس سماحته بعض المعالجات التي انتهجها الامام علي بن ابي طالب –عليه السلام- حينما قاد الدولة الاسلامية وقارع الفقر بأساليب ترقى الى افضل التعاملات والاجراءات العملية لمقارعة الفقر. لذا يقول سماحة السيد مرتضى الشيرازي، في هذا المجال:
(الشمولية في أبعاد الفقر تعكسها أحاديث أمير المؤمنين فقد أشار -عليه السلام- إلى الفقر العلمي بقوله: *لا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل*، والجهل في حد ذاته فقر وحرمان علمي وثقافي، وهو سبب من أهم أسباب الفقر الاقتصادي أيضاً).
وهكذا تتعدد اسباب الفقر وزيادته، فالجهل الاداري الاقتصادي الاجتماعي الذي تعاني منه الدول الاسلامية والعربية يُسهم على نحو كبير في تضخيم مشكلة الفقر، على الرغم من الثروات والموارد الكبيرة التي تتوافر لهذه الدول، ولكن الفشل في ادارتها وكيفية الاستفادة منها، فضلا عن الجشع والطمع والفساد، حتما سيقود الى نتائج خطيرة تجعل الفقر في مقدمة المشكلات التي يعاني منها المسلمون، وقد ورد في احد التقارير الاقتصادية العالمية:
(إن العالم الإسلامي يتمتع بثروة غابية نادرة، لأن تنوع المناخ في العالم الإسلامي أدى إلى تنوع الغابات من جهة كثافة النمو الشجري في أنحائه، وقد لعبت كميات الأمطار الساقطة من حيث توزيعها وموسم سقوطها دوراً كبيراً في تباين وكثافة الأشجار لكن استخدام الثروة الغابية الطبيعية لايحقق سوى 9 % تقريبا من إنتاج الغابات في العالم، وتأتي الأخشاب في طليعة ذلك الإنتاج، وما قيل عن الثروة الزراعية يقال عن الثروتين الحيوانية والمائية، ذلك لأن إنتاجهما لا يكفي حاجات سكان العالم الإسلامي بسبب عنصري الإهمال وعدم المضي قدماً في تطوير الأساليب المؤدية إلى زيادة الموارد في مجال الثروة الحيوانية والمائية).
نعم لابد من الاعتراف بأننا لم نتعامل مع ثرواتنا ومواردنا بعلمية وتنظيم، ويتحمل المسؤولون عن ادارة دول العالم الاسلامي نسبة كبيرة من مسؤولية الاخفاق في هذا المجال، فضلا عن النخب التي تقود المجتمع الاسلامي، فالجميع هنا يشترك في مسؤولية الفقر الذي يتعرض له المسلمون، مع أنهم يملكون أكثر الموارد والثروات في العالم.
معالجات أولية
مما تقدم يحتاج المسلمون الى نوع معاصر من التعامل مع مواردهم الكثيرة، ويتقدم ذلك التخطيط السليم والتنفيذ الدقيق، من خلال نجاح الفعل الحكومي المختص اولا، واعتماد الكفاءات المعنية المتخصصة في تطوير عمليات الانتاج النوعي والاستثمار الامثل، على أننا يجب أن نعترف، بأن الفشل السياسي في ادارة البلدان الاسلامية، سيؤدي بصورة قاطعة الى فشل في جميع مجالات الحياة، وأهمها وأولها الفشل الاقتصادي، الذي يفاقم من مشكلة الفقر، الذي ينتشر ويتوسع من حالته المادية، الى حالات معنوية تؤثر على الفكر والوعي والثقافة، ومن ثم الانسان الذي يجهل مصالحه وحقوقه، والذي سيبقى فقيرا طالما كان ناقص الوعي والثقافة، لذلك حتى لو امتلك الانسان مئات المليارات ولم يطور نفسه في الدفاع حقوقه ولم يستثمر هذه الاموال في تطوير وعيه فإنه سيخسر كل شيء بالنتيجة.
وينطبق هذا القول على الدول التي تمتلك ميزانيات ضخمة وموارد هائلة لكنها تفشل في استثمارها لبناء مؤسسات الدولة والبنى التحتية، اذ ستبقى تعاني من الفقر المدقع، وتصاعد الفساد، واحتكار المال لدى الاقلية، مما يجعل الفقر مشكلة غير قابلة للزوال.
يقول سماحة السيد مرتضى الحسيني الشيرازي في هذا الشأن: إن (من يملك المليارات لكنه لا يستثمرها في الدفاع عن حقوقه وحقوق أمته فهو – فقير-، بل هو - أفقر الناس-، والدولة التي تملك مئات المليارات لكنها لا تصرفها في مؤسسات البنية التحتية وتقوية المؤسسات الدستورية فهي فقيرة أيضاً).
لذا يبقى المسلمون بحاجة الى معالجات عملية دقيقة، تتعلق بالتنظيم والتخطيط والتنفيذ، وجلها يتعلق بالجانب الحكومي، إلا أن وعي الشعوب، وزيادة الثقافة في مجالات الحياة كافة، يسهّل الامر كثيرا، ويصبح من الممكن معالجة قضية الفقر وفق اساليب معاصرة، تتبناها الحكومة والشعب معا، من اجل الحد من وباء يتعاظم اسمه الفقر، في دول اسلامية غنية، ثرواتها أكثر مرات ومرات من دول متقدمة قليلة الموارد.
* مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام