الأرمن ضحايا تقلبات الزمن / الحلقة الثانية
اصبحت ارض ارمينا كما اسلفنا ساحة بين المتصارعين على الهيمنة والخيرات، فمرة كان يسود الفرس واخرى الاتراك، وفي القرون الاخيرة اصبح للقياصرة الروس طموح الوصول الى المياه الدافئة، فاصبح الجزء الشرقي من ارمينيا تابعا لروسيا منذ عام 1829 ثم جمهورية مستقلة عن الاتحاد السوفيتي عام 1991،عاصمتها اليوم يريفان، وعدد سكانها اكثر من ثلاثة ملايين نسمة. اما باقي البلاد المتمثل بارمينا الكبرى او الغربية فقد دارت عليها الدوائر واشتدت عليها النوائب خصوصا في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني اعوام 1895، 1909، وحتى مجيء جمعية الاتحاد والترقي، فشنت حملة ابادة شاملة على الارمن المسالمين. تتوجت ابان السفر برلك( النفير العام) بصدور الفرمان العثماني في 24 نيسان 1915 بإبادتهم، فازيلت قراهم وحواضرهم وخلت ضفاف البحيرات والانهر منهم، هدمت كنائسهم، طمست معالمهم، وقبور اجدادهم الممتدة لآلاف السنين، كانت تلك همجية لا مثيل لها في العصر الحديث وتزعم تلك الحملة: أنور باشا وزير الحربية، طلعت باشا وزير الداخلية، جمال باشا وزير البحرية، وغيرهم من مقترفي جرائم الابادة الجماعية وتصفية الجنس بعينه، لقد بلغ عدد القتلى اكثر من مليون ونصف قتيل جلهم من الاطفال والنساء والشيوخ، ان اهوال تلك الفترة السوداء لم تزل في ذاكرة احفادهم حتى اليوم، تتناقل الاجيال مآثمها، ولن يعدل ذلك الميزان الا باعتراف الاتراك بجريمتهم تلك وتسوية وتعويض ما لحق بالارمن واعادة الحق الى نصابه، يكاد يستحيل ان تستقر دولة الاتراك، دون معالجة تلك المشكلة وارضاء الارمن الذين انتشروا في جهات الدنيا الاربع. بل يعتورني اليقين عاجلا ام آجلاً بان الاتراك سيذهبون يوما زرافات ووحدانا من برلمانيين وحكوميين وعلية القوم، متشابكي الايدي الى حيث موطن الارمن، هناك يقدمون الاعتذار تلو الاعتذار، يحنون رؤوسهم اجلالا امام تلك الانفس البريئة الطاهرة التي ازهقت ارواحها على ضفاف الانهر والبحيرات، في سفوح الجبال ومجاهل الغابات، لعل الرب يغفر بعض خطايا ابائهم واجدادهم. للمقارنة نذكر، عندما تفجرت الثورة الصناعية في اوربا قبل قرنين كان هَم الرأسمالي الاكبر ارباحه، لذلك ألحَق اشد الاذى في الطبيعة فألقى نفايات المصانع في الانهر والبحيرات، اتذكر في الثمانينات عندما نمت وتطورت بسرعة منظمات الخضر والطبيعة، ذهب الابناء الى ضفاف البحيرات والانهر معتذرين للطبيعة ما لحق بها على ايدي بني البشر.▼ ساسلط الضوء على عينات من هذا الشعب تعرفت عليهم في العراق وارتبطت معهم باواصر الصداقة والمحبة. لابدأ من بلدتي القوش ففي نهاية الحرب العالمية الاولى هاجرت بعض العوائل الارمنية الى القوش وعددها 72 عائلة، حسب ما جاء في مذكرات الخوري يوسف منصور كادو. قسم منهم من اتباع ليون باشا، والقسم الاخر من اتباع انترانيك، وقد قبلتهم القوش كعادتها، رحبت بهم، تقاسمت معهم الخبز، ولكن للاسف حصلت مشاحنة وبين الفريقين مما حدى ببعض اتباع ليون باشا ، الذهاب الى مركز ولاية الموصل، فاخبروا الوالي بان قسم من الارمن الموجودين في القوش ضد الدولة العثمانية، وينقلون الاخبار الى القيادة الانكليزية. على اثر ذلك ارسل الوالي اربعين خيالاً باسلحتهم للقضاء على جميع العوائل الارمنية في القوش، وصل الخيالة بعد الظهر الى البلدة وعسكروا في خان سعيد بك، فلما وصل الخبر الى القس يوسف كادو، ذهب حالا الى وكيل الخان واسمه( عبد)من اهالي الموصل وطلب منه ان يمهل جميع العوائل الارمنية الى صباح الغد، لحل موضوع هؤلاء المساكين سلمياً، ثم طلب منه ان يقدم لهم الاكل والشرب على حساب الكنيسة، وهكذا قام الوكيل الامين بالواجب باخلاص وحسب الاتفاق مع القس. بعد ذلك مباشرة ارسل القس شخصا اسمه( ججو سرّا) الى مثلث الرحمات البطريرك عمانوئيل تومكا، ليسلمه رسالة، وفور استلام البطريرك لها ومعرفته فحواها، ذهب ومعه الباتري يعقوب الى المسؤول الالماني، واخبروه بالتعدي الذي يحصل لمسيحيي القوش. وبامره وامر والي الموصل ارسلوا قوة مسلحة اخرى الى القوش لارجاع قوة الخيالة الآنفة الذكر، وصلوا في الوقت المناسبة ومعهم اوامر الوالي الجديدة بانسحاب الجميع من البلدة، وهكذا انتهت الفتنة. بقيت تلك العوائل مدة سنة ونصف السنة، ثم نزحوا الى بغداد والبصرة وغيرها من المدن العراقية. احدى تلك العائلات تركت ابنتها وعمرها 10 سنوات في القوش فاخذتها امراة اسمها( ببي خوشكه) من بيت كجوجا، وكانت مهنتها قابلة توليد النساء. فلما كبرت البنت الارمنية واسمها مريم( باجي) زوجتها الى ابنها صادق سلومي، وامتهنت باجي فيما بعد نفس مهنة حماتها، واصبح لها عدد من الاولاد، نذكر منهم المرحوم سليمان، يلدا( حاليا في اميركا) ومنصور( ايضا في اميركا). في اواسط التسعينات من القرن التاسع عشر وصل احد الشباب الارمن هربا من اضطهاد الكتائب الحميدية، وبعد فترة تزوج من الفتاة الالقوشية( ببي زرته) وولد لها ابن سمي يلدا في حدود عام 1909( الذي يظهر في الصورة ادناه) تزوج يلدا ارمنايا بدوره واصبح له من الاولاد: الــّو، بحـّو، والشهيد كريم.
العم يلدا الارمني ( أرمنايا ) يتوسط مجموعة من اهالي القوش بتاريخ 19/ 2/ 1971
▼ اذكر ايضا صادق الضرير، الذي كان يذكر دائماً ذبح اعمامه السبعة امام عينيه وكيف سجن وسملت عيناه، عاش بقية حياته في بيت سليمان ياقونا، في الستينات كنت كلما اسأله عن اصله يقول " انا من بَشقلة ". هناك ايضاً سليمان ذو اللحية الشقراء والقامة الطويلة والشعر الاصفر، تكفلته اسرة اعرابي اسمه عوّاد كان يسكن آنذاك في قرية " ماكنان" ونظرا لقيامه برعي الاغنام في سهل القوش وبهندوايا، كان يلتقي الرعاة وقد حاول بعضهم ضمه اليهم، ومنهم المرحوم ايشوع رحيما في قرية بهندوايا، ايضا عاش مدة في دير ماركوركيس في( بعويزة) قرب الموصل، وعمل مدة اخرى راعيا لاغنام دير السيدة قرب القوش، وفي النهاية وبتأثير مباشر من عواد تزوج سليمان من فتاة اعرابية واصبح له اولاد، عرفتُ منهم محمد، حميّد، ويقال ان له بنت اسمها حمدية، يسكنون حاليا قرية( بدرية ) التي اخليت من سكانها الاثوريين واسكن فيها العرب في زمان البعث البائد، عمل حميِّد سائقا للترنبول( سكريبر) في مشروع السد الذي كنت مهندساً ميكانيكيا فيه، كان يتكلم معي السريانية ( السورث ) بطلاقة، وكذلك التقيت باخيه محمد الذي هو الاخر كان يتفن لغة ابائي واجدادي، وقد عمل فترة راعياً لأغنام بيت ياقونده الالقوشي.
▼ عندما كنت اعمل في سنجار للفترة 1977- 1978 التقيت بعدة عوائل ارمنية، وقد تأكد لي بان فقير الايزيدية المعروف (حمو شرو) قد وفر الحماية لمئات العوائل الارمنية والسريانية الهاربة من السيف العثماني، وقسم كبير منها انتهى في سوريا ولبنان، وللمفارقة اذكر ايضا حارسا من اهالي تلعفر لمخيمنا في سهل سنجار كان يخاطبني بخال الاولاد( لم يدر بخلده كم ازعجني كلامه الذي يشير الى اجبار العشرات من صبايا الارمن للزواج من رجال تلك البلدة).
إلى اللقاء مع الحلقة الثالثة