الإنجاز الرياضي الكبير ما بين الفرحة العفوية..والتخبط السياسي والطائفي
حتى الاحتفاء بمنتخب العراق الكروي الظافر بكأس أمم اسيا للمرة الاولى في تاريخ البطولة.. وحتى الاحتفال بهذا النصر الرياضي الكبير.. صار محطة للتخبط السياسي والطائفي لدى ساستنا في عراق ما بعد النظام الدكتاتوري السابق.. واظهر عمق الهوة التي أفرزتها، للأسف، المحاصصة الطائفية في هذا البلد المبتلى شعبه منذ عقود.وقد ظهر هذا التخبط والتقاطع السياسي والطائفي بشكل جلي في وسائل الإعلام وتحديدا من خلال الفضائيتين الأبرز في تغطية هذا الحدث (الشرقية والعراقية).
فمع الاحتفالية الاولى بالمنتخب المنتصر والتي كانت في إمارة دبي.. ظهر التخبط الأول المتمثل بعدم وجود طائرة لنقل المنتخب العراقي من بانكوك إلى بغداد أو عمان مما حدا بحاكم إمارة دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم إلى إرسال طائرته الخاصة لنقل المنتخب إلى دبي وإقامة حفل تكريم له، الأمر الذي دلل حسب قول البعض على تقصير الحكومة العراقية في دعم المنتخب الذي حقق أكبر نصر كروي ورياضي عراقي في العقود الأخيرة، وكانت فضائية الشرقية التي تبث برامجها من دول الإمارات في مقدمة المروجين لهذا الطرح.
وجاء التخبط الثاني في الحفل التكريمي نفسه في دبي.. والمتمثل بعزف السلام الوطني العراقي القديم المعتمد في ظل النظام السابق.. وراح البعض يقول أنها مؤامرة أرادت سرقة الفرحة من العراقيين، بينما أشار البعض إلى أن الأمر مجرد خطأ فني غير مقصود.. فيما أبدى طرف ثالث استغرابه من تهويل وتأويل الموضوع قائلا أن كاتب كلمات هذا النشيد نفسه (شفيق الكمالي) لم يسلم على روحه وقد تم إعدامه من قبل النظام السابق عندما أراد الانشقاق عليه والانضمام إلى المعارضة.. فضلا عن أن كلمات النشيد جميلة ورائعة ووطنية لا تنطوي على أية روح طائفية (وطن مد على الأفق جناحا وارتدى مجد الحضارات وشاحا.. بوركت أرض الفراتين وطن.. عبقري المجد عزما وسماحا...).. بدليل أن الجماهير العراقية الموجودة في قاعة الاحتفال في دبي، وكما بدى واضحا على الشاشة، رددت بعفوية كلمات هذا النشيد مع العزف الموسيقي، دون أن يقلل هذا الطرح بالتأكيد من جمالية وسمو كلمات نشيد (موطني) المعتمد رسميا في العراق الجديد.
ثم كان التخبط الثالث من خلال قضية (أبو قتيبة) الشاعر المثير للجدل عباس جيجان الذي شارك عبر ستوديو فضائية الشرقية بعمان في جزء من احتفالات الفوز إلى جانب المطرب حسام رسام الذي كان في ستوديو دبي، وتلقى البرنامج الذي كان يُبث على الهواء مباشرة مكالمة من عراقي مقيم في لندن وجه نقدا شديدا على وجود هذا الشاعر وعلى تعامل حسام الرسام معه بودية، وكان رد فعل الرسام متشنجا وغير حضاري حسب رأي البعض.
ولفت البعض الأنظار أيضا إلى كلمة رئيس الوفد العراقي إلى البطولة السيد ناجح حمود عندما تحدث في حفل دبي من خلال فضائية الشرقية، وكانت كلمته مقتضبة، وبدا واضحا ان إشارته إلى مبادرة حاكم دبي في تكريم المنتخب كانت اضطرارية من باب المجاملة، وأنه تحدث بشكل عمومي دبلوماسي قدر الإمكان.
ومع وصول المنتخب البطل إلى العاصمة الأردنية عمان.. استمر التخبط والمزايدات في التصريحات والمواقف المتعلقة بالاحتفاء بهذا الفوز الكبير.
فقد ظهر (عباس جيجان) مرة أخرى في احتفالية عمان، وهو المحظور عليه حكوميا ورسميا. وتغيرت لغة السيد ناجح حمود رئيس البعثة العراقية إلى البطولة في تصريحاته لقناة العراقية في عمان، وفي بغداد لاحقا، وصار يؤكد على أهمية الرسائل الأبوية التي كان يتلقاها المنتخب من السادة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء وباقي المسؤولين العراقيين، وعلى الدعم الحكومي الرسمي اللامحدود للمنتخب، لكن.. وفي ذات الوقت بدأت تثار الأقاويل حول رغبة بعض اللاعبين في العودة إلى بغداد من عدمها لأسباب قال البعض أنها إدارية بينما أكد البعض الآخر أنها أمنية، واستمر انعكاس هذا التخبط على الصراع بين الفضائية العراقية وفضائية الشرقية عندما أعلنت هذه الأخيرة عن وجود مذكرة اعتقال بحق رئيس اتحاد الكرة العراقي حسين سعيد ما يعني عدم إمكانية حضوره إلى بغداد. وعند عودة المنتخب البطل إلى العراق، نفى وزير الداخلية العراقي من خلال التغطية الحصرية لفضائية العراقية لهذا الحدث، موضوع مذكرة الاعتقال بشدة مؤكدا أنه كان يتحدث هاتفيا قبل قليل مع أبو عمر (حسين سعيد) الموجود في عمان، وإن الأمور على خير ما يرام وليست هناك أية مشاكل، وظهر خبر (سبتايتل) على شاشة العراقية يؤكد أن اجتماعا للاتحاد الكروي العراقي عقد في عمّان فور وصول الوفد العراقي إليها، وقد قرر الاجتماع مقاطعة حملة تبرعات فضائية الشرقية للمنتخب بسبب نشرها الأخبار الكاذبة، بينما عرضت فضائية الشرقية بعد قليل لقائين.. أو بالأحرى اتصالين هاتفيين مع السيد حسين سعيد والسيد أحمد راضي أكدا خلالهما وجود أمر اعتقال بحقهما سعى إلى إصداره وزير الشباب والرياضة جاسم محمد جعفر عقب قيامهما قبل فترة بانتقاد عمل وزارته وتقصيرها في دعم الرياضة والرياضيين، وهذا هو أحد أبرز أسباب عدم عودتهما إلى الوطن منذ فترة ليست بالقصيرة. وهنا عادت إلى الأذهان قضية أحمد حسين السامرائي رئيس اللجنة الأولمبية الوطنية العراقية المختطف منذ عدة أشهر دون أن يُعرف مصيره حتى اليوم.
ولم يفلح حتى رئيس الوزراء السيد نوري المالكي في تفادي موجة التخبط هذه عندما أعلن في كلمته في حفل تكريم المنتخب بمقر رئاسة الوزراء في المنطقة الخضراء ببغداد عن (سعادته بعودة المنتخب العراقي إلى بغداد بكل أعضائه).. أكرر (بكل أعضائه).. بينما كان واضحا وجليا أن عددا مهما من اللاعبين (ثمانية لاعبين) لم يعودوا إلى العاصمة الحبيبة بغداد وفي مقدمتهم النجوم يونس محمود ونشأت أكرم وهوار الملا محمد وقصي منير.. وآخرون، دون أن نرغب هذه المرة الخوض في أسباب عدم العودة بقدر ما أردنا الإشارة إلى تأكيد السيد رئيس الوزراء على مسألة (عودة المنتخب بكل أعضائه).
ولأن أجهزة المايكرفون الموضوعة على المنصة الرئيسة في الحفل المقام بمقر رئاسة الوزراء ببغداد كانت مفتوحة.. فقد تبين واضحا أن السيد جلال الطالباني رئيس الجمهورية الجالس إلى جوار السيد رئيس الوزراء.. لم يكن على علم بالتكريم الذي قرره السيد رئيس الوزراء للاعبي المنتخب.. حيث أخبره به في تلك اللحظة.. وظهر صوت السيد الطالباني واضحا وهو يقول للسيد المالكي: نعم إنه تكريم كبير، وعندها أعلن السيد المالكي عن التكريم المتمثل بإصدار جوازات سفر دبلوماسية للاعبي المنتخب.
ثم.. وعند حضور الأم العراقية الكريمة والدة شهيد الاحتفالات بالفوز وتلقيها كأس البطولة من لاعبي المنتخب وتقديمه للسيدين رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، ارتجل السيد رئيس الوزراء تكريمها بقطعة أرض في بغداد، فما كان من السيد رئيس الجمهورية إلا أن يرتجل هو الآخر تكريمها ببناء منزل جديد على قطعة الأرض هذه على نفقته الخاصة، في وقت كانت يُفترض فيه الاتفاق مسبقا (على المستوى الحكومي) على طبيعة تكريم المنتخب وباقي المشاركين في الإنجاز الملحمة.
وحده الفنان كاظم الساهر كان رزينا ومتوازنا في تعاطيه مع الحدث، إذ وبعد أن شعر باستغراب الأوساط الجماهيرية العراقية من غيابه عن الحدث الكبير.. قرر المجيء إلى عمان والمشاركة في حفل التكريم بطريقة هادئة وبانسيابية جميلة دون أي احتقان من أي نوع كان، ليقدم مرة أخرى صورة وأنموذجا للعراقي الحقيقي.
خلاصة القول: لا شك أن الفوز الكبير الذي حققه لاعبو المنتخب العراقي بكرة القادم بنيلهم كاس آسيا للمرة الأولى كان إنجازا فريدا من نوعه رسم البهجة على قلوب الملايين من العراقيين.. بل لنقل كل العراقيين.. عبر مسيرات الأفراح العفوية التي شهدتها مختلف المدن العراقية فضلا عن بلدان الاغتراب، وفي لوحة لم تشهدها العقود السابقة أللهم إلا فرحة انتهاء الحرب العراقية الإيرانية في 8 آب 1988، وإن تفاعلات وتداعيات هذا الإنجاز أشارت بوضوح إلى عدم وجود أية مشكلة طائفية أو عرقية أو سياسية بين أوساط العراقيين كشعب واحد بمختلف مكوناته المذهبية والقومية، لكن.. وفي في الوقت ذاته ظهر بوضوح عمق هذه المشكلة لدى البعض من السياسيين العراقيين والأسماء والجهات التي هي في موقع المسؤولية.
قد يقول قائل أن هذه الخلاصة أمر معروف لم يكن بحاجة للدلالة إليه من خلال إنجاز المنتخب الكروي، ونحن نقول للأخوة أصحاب هذا الرأي: نعم هذا صحيح، ولكن المشكلة أنه ظهر هذه المرة من بين ثنايا حدث كبير وحد كل العراقيين وأفرحهم جميعا وأنساهم مآسيهم الحياتية الاجتماعية منها والاقتصادية وحتى السياسية، بينما ظل بعض السياسيين وأصحاب القرار في تخبطهم الذي لا ينبغي أن يستمر بهذا الشكل وفي هذه الظروف القاسية التي يشهدها العراق.. لا سيما أنهم يؤكدون في كل مناسبة أنهم منتخبون من قبل الشعب.
لقد احتفل الشعب كله بهذا الإنجاز في جميع محافظات ومدن العراق وبلدان المهجر بعفوية تامة دون أية تخبطات أو مزايدات.. لا بل أن دماءً طاهرة سالت في بغداد عقب احتفالات التأهل للمباراة النهائية، بينما شهدت الأوساط السياسية في تعاطيها مع الحدث العديد من حالات التخبط والمزايدات التي ظهرت واضحة وجلية في الإعلام ونحمد الله أنها لم تنعكس على الجماهير.
إنها رسالة إلى الجميع: كما كان شعار لاعبينا في البطولة الآسيوية كلمات تلك الأنشودة الجميلة (الأسد يمشي على جرحه وما يبيّن بيه جريح.. هذا طبعك يا عراقي وما يصح إلا الصحيح).. فلتكن هذه الكلمات هي شعار سياسيينا أيضا.. بكل عناوينهم وكل انتماءاتهم المذهبية والقومية والفكرية التي لا بد أن تنصهر في بوتقة العراقية والانتماء للوطن قبل كل شيء.. وليحملوا جراح الماضي ويسيروا كالأسد لا يظهر عليه الجرح.. ويحققوا الإنجاز الأكبر في تحقيق الأمن والاستقرار والعدالة والمساواة في هذا البلد والازدهار والرفاهية لشعبه الطيب الذي يستحق كل خير.. لأنه فعلا في النهاية: لا يصح إلا الصحيح.