التاريخ يتكلم الحلقة 38 الهروب من معسكر ماردين
لقد عانينا نحن النساء من تعاسة تفوق ما لاقاه الرجال في تلك المخيمات. وبالرغم من الاحراجات الكثيرة والمواقف الصعبة لم ننسى دورنا الريادي, فقررنا الاحتفال بعيد المرأة العالمي الذي يصادف في الثامن من آذار. شكلنا لجنة من رفيقاتنا البيشمركة المتعلمات ومنهن الطالبات والمعلمات الخ.. ناقشنا كيف يمكن بالوسائل المتاحة لنا انجاح تلك المهمة, وحاولنا, في الوقت نفسه, عدم اثارة حفيظة المسؤولين الاتراك. هيأنا اقلاما واوراقا ومحبرة لجمع طبع ابهام النساء اللاتي تشكل الامية نسبة كبيرة منهن (95%) وقررنا كتابة مذكرات الى المنظمات العالمية, منظمة حقوق الانسان, نسخة منه الى الامم المتحدة, واخرى الى البرلمان الاوروبي. كتبنا المذكرة باللغة العربية شرحنا فيها الاوضاع المزرية في تلك المخيمات وما تعانيه المرأة الكردية من مصاعب في مخيم يقطنه اكثر من 17 الف نسمة, ناهيك عن انعدام ابسط متطلبات الحياة وتفشي الامراض, لعدم توفر الحد الادنى من الشروط الصحية. كانت الاوضاع تتفاقم يوما بعد آخر ويتصاعد عدد الوفيات وتزداد المشاكل تعقيدا. ازاء ذلك بدأنا بالانتشار على شكل مجموعات صغيرة. كنا نتسلل بين النساء لتوعيتهم وكسب تأييدهم لمطالبة المجتمع الدولي بالالتفات الى تلك المأساة الانسانية, وتوجيه انظاره الى ما ارتكبه الطغاة بحق تلك النسوة اذ ان السكوت على جرائمهم هو اجحاف بحق الانسانية, كان الاسلاميون المتعصبون يستنكرون النشاط النسوي ويتميزون غيظا منه, فهم يتسائلون: ماذا تريد اولئك النسوة, هل يفكرون بترحيلنا الى اوربا؟ نحن نقبل الموت على ان تفلت زمام امور نسائنا وتهتك اعراضنا كنتيجة حتمية لانتقالنا الى مجتمع "متهتك" لا يسمح لنا ديننا بالانخراط فيه والانسجام مع عاداته وتقاليده". وبالرغم من المعارضة التي واجهناها من اولئك المتطرفين تمكنا من جمع 6 آلاف توقيع عهدنا بها الى منظمة سياسية موجودة داخل المعسكر لترسلها بدورها, وبسرية تامة, الى سوريا ومن ثم الى المنظمات الدولية.تلك العملية تطلبت مني جهدا مضنيا وخروجا على المآلوف في وسط يسوده الجهل وتسلط التقاليد. هذا بالاضافة الى طبيعة المجازفة اما سلطة لا تختلف كثيرا في ممارساتها عن نظامنا في العراق, تستنكر تلك النشاطات وتحرمها وترغب في تطبيع حتى اولئك اللاجئين وتحجيم أي نشاط تراه غير مناسب.
وصلت المذكرة الى سوريا حيث تم ابلاغي من قبل رفاق لي في المعسكر وادركت ان اللجنة السياسية لم تأخذ الأمر مأخذ الجد لكونه محض عمل نسائي. ولكن على الاقل, تمكنا من بعث الوعي لدى الكثيرات من النسوة في المعسكر, وقفنا الى جانبهن ووثقن بنا, ولم تستطع جهود الاخوان المسلمين من الحد من نشاطاتنا.
لم ننسى في عيدنا, ان نقدم الحلوى والقيت كلمة بالمناسبة استغرقت حوالي عشرة دقائق لم تتعدى عن تهنئة المرأة والاشادة بدورها في المجتمع ومسؤولياتها وتضحياتها من اجل تربية الجيل , وخدمة المجتمع, القتها فتاة تجيد اللغة الكردية وهي معلمة شكرية من عمادية, بالرغم من استهجان الاخوان المسلمين وتعليقاتهم الساخرة. القتها وسمعها الملأ عبر مكبرات الصوت, وكان دور رجال البيشمركة المثقفون بارزا وحيويا في الوقوف الى جانبنا لانجاح تلك الفعالية, وتمكنا من اشاعة البهجة, ورفع معنويات اولئك النسوة الذين هم بحاجة الى الارادة والصبر ليتجاوزن تلك المحنة.
بعد ايام كان سيطل علينا عيد نوروز في 21 آذار وهو عيد مقدس عند الاكراد. تهيأنا له, رجالا ونساءا, وعقدنا احتفالا داخل المخيم بتنسيق مع اللجنة السياسية, وطلبنا من لجنة الاحتفال القاء كلمة باسم المرأة وباللغة الكردية, كان فحواها استنكار ما اقترفته ايادي الطاغية صدام من مجازر بحق العراقيين عامة والاكراد بصورة خاصة. ولقد تخلل الاحتفال فعاليات اخرى لطيفة, الا انه حز في نفسي تصرف مخجل قام به رزكو, وهو مسؤول لجنة المخيم, في بداية الاحتفال اذ انحنى وقبل يد الوالي التركي عند قدومه لمشاركتنا الاحتفال, انتقدته بشدة واشرت عليه بان ذلك نوع من التكريس للعبودية وقبول لها, ولا يوجد مبرر اطلاقا لهذا التصرف, واعتبرته ينم عن ضعف الشخصية.
بعد الكلمة بدأت الدبكات الكردية ثم تمثيلية كاوا الحداد التراثية* وكالعادة اشعلت النيران.
نعود مرة اخرى الى حديث الاخوان المسلمين, كانوا يقولون: من هذه الفتاة المسيحية (فلاية) التي تحرض النساء وتثيرهن وتلعب بعقولهن؟ ستعمل على زعزعة قيمنا ومفاهيمنا". لكن عبدالله و كان يسمع هذا ويدافع بواقعية ويقول لهم: انها انسانة مثقفة وحائزة على شهادة عالية واعتبرها بمثابة الاخت, ساعدتنا وعملت على توفير الطعام والكساء والدواء لنا ولاطفالنا ولنسائنا, تساعد الجميع دون استثناء, وتقوم باعمال تفوق طاقتها واختصاصاتها, تزرق الابر للنساء (في وقت يحرم ذلك على الرجال, حتى وان كانوا اطباء, او من الاختصاصات الطبية, فهذا هو الحرام بعينه, في مفهوم الاسلام المتطرف, ان يرى الرجل مساحة ما من جسم المرأة, وخاصة المحرمة منها) انها, استأنف عبدالله تقوم بتوفير الادوية, وقراءة تعليماتها وترشد النساء في استعمالها بصورة صحيحة.
ربيع 1989 صادف حلول رمضان. لاحظت سيارة اسعاف عند المخيم الذي بجوارنا, حضرت خصيصا لنقل امرأة حامل تعاني من اختلاطات صعبة تستوجب نقلها الى المستشفى. جاءني الرفيق ابونزار الاثوري وناشدني تقديم اى مساعدة ممكنة لتلك المرأة, عندما حضر مسؤول الاسعاف واشار بوجوب نقل المرأة الى المستشفى دون ابطاء. رافقتهم, ووصلنا الى المستشفى في التاسعة مساءا, وعلى الفور ادخلت المرأة الى غرفة العمليات, فدخلت معها, وكنت اقوم بالترجمة للطبيبة, طلبت مني الطبيبة ان اخبر المريضة (وهي شابة صغيرة حامل في شهرها السابع) ان لا تتناول شيئا غدا صباحا, استعدادا لاجراء العملية لاستخراج الطفل المتوفي داخل * كاوا الحداد: من التراث الكردي. كاوا بطل اسطوري ثار لشعبه من الدكتاتور الحاكم وتمكن من قتله وبذلك خلص شعبه من حاكم تسلط على رقابه واستغله وتلاعب في مقدراته لفترة طويلة.
الرحم. قلت للطبيبة يجب احضار زوجها للموافقة على اجراء العملية, فانا لا امت بصلة الى المريضة. اثناء المناقشة كشفت المرأة انها صائمة, مما اثار حفيظة الطبيبة وجعلها تصرخ باعلى صوتها: كيف يجوز للمرأة الحامل ان تصوم خاصة وانكم في الواقع تعانون من سوء التغذية في المعسكر, ماهذا الجنون وما هذا التخلف, انت بحاجة الى تغذية مضاعفة لتربية الطفل, انك السبب في قتل هذا الطفل بسبب الصيام." اجابت المريضة بانها تتحمل الجوع فالكل يصوم رمضان ولا يستثنى من ذلك الحوامل. في اليوم الثاني حضر زوج المرأة ووافق على اجراء العملية لزوجته, والقت الطبيبة اللوم عليهم لتسببهم في قتل الطفل بسبب الصيام, واكدت انه لا يجوز, مطلقا, للمرأة الحامل ان تصوم. انزعج الرجل من كلام الطبيبة واعتبره نوعا من الكفر والالحاد وقال بصوت خافت, يدمدم مع نفسه:" انهم كفار لا دين لهم, لا يوجد اسلام في تركيا, كيف يحرضون الناس على تعاليم القرآن ومنها الصيام؟" ولكن بعد ذلك لاذ بالصمت معتقدا ان استفزاز الطبيبة قد يؤدي لان تدفع زوجته حياتها ثمنا.
مكثت النهار كله برفقتها, وفي الليل اتخذت من مقعد صغير سريرا للنوم ونصحت الزوج بالذهاب والمجيء في اليوم التالي. استأجرت سيارة للذهاب الى السوق للاعداد لمستلزمات السفر, واتصلت بسوريا هاتفيا. كنا قد قررنا سرا التخطيط للهروب من المعسكر واتفقنا على كيفية ترتيب اللقاءات في المدينة واين يكون مخبأنا. كان ذلك بالتعاون مع المسيحيين من الاتراك الذين سبق وان تم التعارف معهم . كذلك تم توفير الملابس اللازمة لنا, كانت الامور جميعها, تجري بسرية وكتمان خوفا من السلطات التركية, وكان تعاطف اولئك المسيحيين معنا لانتمائنا الديني حيث ان المسيحيين هناك يلاقون تفرقة دينية واضطهادا تمتد جذوره الى بداية الامبراطورية العثمانية. طلبت ترخيصا للنزول الى السوق لابتياع حاجات معينة, اخذت معي حقيبة صغيرة وحشرت فيها بعض الملابس الضرورية وكذلك الصور التذكارية, ومباشرة انحدرت الى المكان المقرر واتصلت بالشخص الذي هو (حلقة الوصل) واخبرته باننا سنعتمد على مساعدته في الهروب من المعسكر, فابدى استعداده الكامل لذلك وتركت الحقيبة عند احدى العوائل التركية التي كنا قد تعرفنا عليها من خلال الكنيسة. واخبرتهم بانني سأقوم باسترجاعها بعد يومين. كان الرفيق زيا ابو ميسون الاثوري مع اربعة آخرين قد اختفوا في المدينة ينتظرون اكمال الاستعدادات للهروب وينتظرون ساعة الصفر. اتفقت مع زيا ان نخرج في تلك الليلة وان نلتقي في اليوم التالي مع الآخرين في منطقة متفق عليها مسبقا. رجعت الى المخيم ومعي رسالة الى ملازم هشام. الخطة والامور المصاحبة لها نسقت بشكل جيد ويبدو انها محكمة بحيث لا توجد فيها فرصة للفشل.
اخبرت عبدالله وابو نزار وعوائلهم بتلك الخطة, واعلمتهم بانني ساغادر على حين غرة ولكن لا اعلم في أي يوم واية ساعة, وفي ليلة انهمر فيها المطر بغزارة وخيم الظلام الدامس بحيث لا يمكن تمييز الاشياء على بعد خطوة, وفي منتصفها, حيث الحرس يتثاقل في التحرك والتجول حول المعسكر, كعادته في بقية الايام التي يكون فيها الطقس صحوا, وقف ابو ايفان وهشام على حافة سياج الاسلاك للالتحاق باصحابي. ومن ثم تم ابلاغ صاحبنا الذي يعمل كحلقة الوصل السيد (التركي ) فجاءنا بسيارة اخذتنا الى خارج المدينة الى قرية سياحية على وجبتين, ونمنا هناك نوما مريحا دافئا بعد حرماننا منه لفترة طويلة بعد وجبة عشاء فاخرة. لكنه كان يجب المغادرة في الصباح الباكر, فاحتمال وصول الشرطة المحلية وارد لان المنطقة سياحية. مرة اخرى استقلينا سيارة (التركي) الى قرية اخرى انا ورفيق آبو عراق الى بيت احد الاتراك المسيحيين فاستقبلونا بحفاوة وتقدير. سألتني صاحبة البيت عن الشخص الذي بصحبتي؟ اخبرتها انه ابن خالتي وللترفيه عنا وضعت من اجلنا كاسيت في جهاز الفيديو. التفت الي الرفيق (عراق) وهمس:" نحن في واد وهي في واد!" بذلت المرأة ما بوسعها لتوفير الراحة لنا وعاملتنا معاملة فيها الكثير من المودة والاحترام, ثم بدأت بتحضير مائدة الطعام فدخلت اساعدها في المطبخ. اعدت لنا اصنافا متنوعة ودسمة. سألتني ان كنت بحاجة الى ملابس, فشكرتها على المبادرة, واخبرتها انني لست بحاجة اليها الآن اما اذا توفرت لديها فيمكن ان ترسلها الى المحتاجين في المعسكر, وما يتيسر ايضا من مواد غذائية. حضر الزوج في الثالثة بعد الظهر وتناولنا الغذاء معا. ثم حضر في المساء زيا ودعانا الى الانطلاق .
د. كاترين ميخائيل 05/11/ 2006
واشنطن