الحرية وكرامة الإنسان بمنظور مسيحي
المقدمةان أشد ما تدّعي به الأمم المتطورة هو ادعاؤها بالحريّة وكرامة الإنسان، وما توليه من حريّة لأبناء شعبها، ويقال أيضا ان السمة التي يتسم بها عصرنا هي سمة عصر الحريّة، وهذا ما نسمعه يوميا من وسائل الإعلام المختلفة عن طريق الاذاعات والتلفزيونات والانترينت. والحريّة وكرامة الإنسان اليوم أصبحت مبتغى الصغير والكبير، وهذه من جوانب عصرنا الإيجابية، سيما وان أبواب بلدنا تفتحت بشكل ملحوظ إلى العالم الغربي، وما فيه من تطورات خصوصاً بعد احتلاله على يد الاميركان وقوى التحالف، التي تنشد أول ما تنشد جلب الحريّة لأبناء العراق !
ومهما يكن من أمر فالاشكالية تكمن في كيف علينا أن نميز بين مفاهيمنا الشخصية المتعددة للحرية، وبين مفهوم الحريّة المسيحية، وهل عليَّ أن أفرض آرائي على الآخرين ؟ وهل هناك تطابق أم تنافر بين المفهومين؟
في هذا المقال المتواضع سوف أتناول فيه عن الحرية وكرامة الإنسان بمنظور مسيحي.
الحرية :
كما يتبين لي ان الحرية اليوم في بلدي العراق هي نعمة ونقمة، إذ نلاحظ اليوم كيف ان العالم أدرك قيمة الإنسان من جهة في حريّة التعبير والاختيار، والمساواة بين الرجل والمرأة، والحريّة في ممارسة النشاطات السياسية والاقتصادية والدينية المختلفة وفي سائر المجالات. لكن من جهة أخرى فإن العالم يشهد أزمة سوء استخدام الحريّة؛ في العديد من الأمور التي هي ضد الشرائع الإلهية والإنسانية، مما يسوغ لنا القول : كم من جرائم ارتكبت باسمك أيتها الحرية !.
من هنا فموضوع الحريّة وكرامة الإنسان هما من المواضيع الأساسية التي يهتم بها اللاهوت الأدبي.
وكتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية يعطينا جواب على مفهوم الحرية وعلى ما يعتمد وذلك بأن الإنسان يسير بحسب ضميره حرّاً : " لا يجوز لأحد أن يُكره على عمل يخالف ضميره، ولا أن يمنع من العمل، في نطاق المعقول، وفقا لضميره... " . إذا فالضمير هو المقياس الحقيقي لحريّة الإنسان. ولكن إذا ما أردنا أن نعرف وسط حريتنا إذا ما كنّا على صح أم خطأ، علينا أن نتعلم من رسالة الإنجيل التي تعرضها علينا الكنيسة، أن كلام الله هذا يجعلنا قادرين على التمييز وفحص كل شيء والاحتفاظ بما هو صالح، ( فكلمة الله هذه لا تفرض على حياتنا حدود. بل ترشدنا إلى وجود إنساني حقيقي، حر وسعيد، بحيث تكون حريتنا مسؤولة ) .
ان المسؤولية والحرية تسيران معاً، فكل اختيار يصب دوماً في مسيرة هويتنا الخاصة، لأننا فيه نعبر رغبتنا في ما نريد أن نكون، وبأي ميزات تتميز شخصيتنا. نحن واعون جداً على عدم مقدرتنا لعمل كل ما نرغب به، فهناك دوماً محدوديات تعيق ذلك، ولكن نستطيع أن نُعرف انفسنا بما نصنعه، فيكون عملنا نحن، وتعبيراً أصيلاً عن أنفسنا والذي يؤكد كرامتنا، فالحرية لاتعني عمل كل ما يحلو لنا، بل الرغبة في عمل ما نستطيع عمله. الحرية الخلقية هي فعل تقرير المصير ( حرية الإرادة )، والذي من خلال اختيارات خاصة للشخص، يختار أي شخص يريد أن يكون، هل يختار أن يكون شخصاً منفتحاً على سر حياته وحياة الآخرين، أو يختار الانغلاق على ذاته .
لا أن أفعل كل ما يحلو لي دون أي شريعة ودون أي مسؤولية أبررها بالحريّة، مع نسيان أن الحريّة الحقيقية يجب أن توجهنا نحو الخير ونحو السير بحسب مقتضيات ضميرنا.
تعرفون الحق والحق يحرركم :
( يوحنا 8 : 32 )
ان القضايا الإنسانية المطروحة أكثر من سواها اليوم والتي تجد حلولاً مختلفة في البحث في الشؤون الأخلاقية تتصل كلها، وإن بأوجه مختلفة، بالمسألة العسيرة جداً مسألة حرية الإنسان. لا ريب في أن لدى عصرنا شعوراً حاداً بالحرية : ( إن لدى أهل عصرنا وعياً يتزايد يوماً بعد يوم لكرامة الشخص البشري ) كما جاهر في حينه الإعلان المجمعي في الحرية الدينية ( الكرامة البشرية ) . ومن ثم يطالب الإعلان بأن يتاح للبشر ( أن يتمتعوا بالقرار الخاص والحرية المسؤولة، فيعملون لا مسيّرين قسراً بل منقادين لواجب الضمير ) . بيد أن الحق في الحرية الدينية مثله في احترام الضمير في سعي الإنسان إلى الحقيقة، يعتبر بنوع خاص، وكل يوم أكثر أساس حقوق الإنسان بمجملها. هكذا يشكل الشعور الحاد بكرامة الشخص البشري وفرادته، واحترام الضمير في السلوك البشري من المعطيات الثابتة في الثقافة العصرية. بيد ان هذا الشعور الصالح في ذاته، يترجم عنه بتعابير عديدة ليست كلها موفقة والبعض منها ينحرف عن حقيقة الإنسان، كخليقة الله وصورته، يحتاج إلى الاصلاح والتقدم على نور الإيمان.
تؤمن الخلقية الكاثوليكية برؤية خاصة تتضمن ان كل موقف خلقي لا بد وأن يبدأ من التزام الإنسان بحماية وصون كرامة القريب والمحافظة عليها وتعزيزها. فإننا نؤمن ان الإنسان مخلوق على صورة الله وهو في عهد شركة معه، وهذا يُثبّت قداسة حياته بمجمل اختباراتها، ويُثبت في ذات الوقت قدسية وكرامة نفسه .
أيها المعلم ماذا أعمل من الصلاح لتكون لي الحياة الأبدية ؟
( متى 19 : 16 )
إن هذا السؤال في الشأن الأخلاقي الذي يجيب عليه المسيح لا يمكن أن يتجاوز مسألة الحرية بل أنه يقيمها في الوسط، طالما أن لا أخلاقية بلا حرية. ( لا يطلب خير إلاّ في الحرية ) . لكن أي حرية؟ أمام أهل زماننا الذين يقدرون الحرية كثيراً وخاصة في بلدنا العراق ويجدون في طلبها بنشاط، ولكنهم يمارسونها في الغالب ممارسة سيئة، كما لو كان كل شيء يحلُّ إذا طاب بما فيه الشر من قتل وسرقة، وزنى، وخطف رجال الدين، وتهجير وتفجير كنائس.
يعرض المجمع الحرية الحقة : ( الحرية الحقة هي في الإنسان العلامة المثلى للصورة الإلهية ) ، فالله أراد أن يترك الإنسان لخيار ذاته، بحيث يطلب الله خالقه من تلقاء ذاته، بملء حريته ويبلغ في الاتصال به الكمال الناجز والسعيد. إذا كان لكل إنسان الحق في أن يحترم في سعيه نحو الحقيقة، فعلى كل إنسان قبل ذلك واجب ملزم وثقيل أن يطلب الحقيقة وإذا وجدها أن يعتنقها، وبهذا المعنى كان الكردينال نيومان، المدافع الشهير عن حقوق الضمير، قد تعود التأكيد بقوة على ( ان للضمير حقوقاً لأن عليه واجبات ). ( وجوابنا هو أن نعيش هذا التوجه بحرية، فالفعل الأساسي للإيمان هو نقبل العيش بعهد مع الله ) .
وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها :
(تكوين 2 : 16 )
نقرأ في سفر التكوين : وأمر الرب الإله الإنسان قائلاً : " من جميع شجر الجنة تأكل وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، فإنك يوم تأكل منها موتاً تموت " ( تكوين 2 : 16 _17 ).
بهذا الصورة يعلمنا الوحي الإلهي ان سلطة تمييز الخير من الشر هي منوطة لا بالإنسان بل بالله وحده. الإنسان حرّ بلا شك، لأنه هو يستطيع ان يفهم ويقبل وصايا الله، وحريته واسعة لأنه يقدر ان " يأكل من كل شجر الجنة " بيد ان هذه الحرية ليست بلا حد، بل يجب ان تقف عند "شجرة معرفة الخير والشر "، لأن عليها ان تقبل الشريعة الأخلاقية التي يمليها الله على الإنسان، والإنسان بقبوله هذه الشريعة إنما يكمل حقاً حريته الشخصية. فالله الصالح وحده يعرف معرفة تامة ما هو صالح للإنسان وبدافع من حبه له يعرضه عليه في الوصايا. لذلك لا تُضعفُ شريعة الله حرية الإنسان، ولا تلغيها، بل تحفظها وتقوّيها. بينما تسلك بعض الثقافات المعاصرة طريقاً معاكساً.
شاء الله أن يترك الإنسان لمشورة نفسه :
يستعير المجمع الفاتيكاني الثاني كلمات ابن سيراخ هذه لتوضيخ معنى الحرية الحقة، التي هي علامة صورة الله المميزة في الانسان فنقول : شاء الله ان يترك الإنسان المشورة نفسه. لكي يسعى إلى خالقه تلقائياً ويبلغ حراً إلى الكمال الناجز السعيد بالالتزام به. هذه الكلمات تظهر عمق المشاركة في السيادة الإلهية العجيب الذي يدعى إليه الإنسان، فهي تبين كيف ان الإنسان يمارس سيادته على نفسه. هذه السيادة يرد ذكرها دائماً في تأملات اللاهوتيين في الحرية البشرية، وهي في نظرهم صفة ملوكية، فيكتب مثلاً القديس غريغوريوس قائلاً : ( وتظهر النفس كرامتها الملوكية السامية بأن لا سيادة لأحد عليها وأنها تعمل كل شيء بدافع ذاتي وأنها هي المسلطة على ذاتها تدبر ذاتها كما يطيب لها. فشأن من يكون هذا سوى شأن الملك ؟ هكذا خلقت طبيعة الإنسان لتسود على سائر الخلائق، على مثال ملك العالمين، صورة حيّة عنه، تشارك مثالها الاسم والكرامة ). ان يقود العالم، تلك هي مهمة الإنسان العظيمة ومسؤوليته الكبرى التي يتعهدها بحريته الخاضعة للخالق : " املأوا الأرض واخضعوها " ( تك 1 : 28 ). بهذا الشرط يتمتع الناس أفراداً وجماعات باستقلالية عادلة، يعيرها الدستور المجمعي ( فرح ورجاء ) أهمية خاصة. ان للشؤون الأرضية استقلالية تتمتع بموجبها الأشياء المخلوقة والجماعات بنواميسها وقيمها الخاصة، على الإنسان ان يتعرفها تدريجياً ويستخدمها وينظمها.
لكن الله لم يعهد إلى الإنسان ان يهتم بالعالم وحده بل أن يهتم أيضاً بذاته، ويكون مسؤولاً عن ذاته. الله ترك الإنسان لمشورة ذاته، لكي يطلب خالقه ويبلغ الكمال حراً. ولأن يبلغ الكمال يعني أنه يبنيه بذاته وفي ذاته. فكما ان الإنسان باخضاعه العالم يجعله وفق عقله وإرادته هكذا بقيامة الأعمال الصالحة اخلاقياً يؤكد ويكمل ويرسخ في ذاته صورة الله.
طوبى للرجل .. الذي في شريعة الرب مسرته:
( مزمور 1 : 1-2 )
ان حرية الإنسان إذا كانت على صورة إرادة الله، لا تتعطل بطاعتها للشريعة الإلهية بل انها بهذه الطاعة وحدها تبقى في الحقيقة، متجاوبة مع كرامة الإنسان. ان كرامة الإنسان تحتم عليه أن يتصرف بخيار حر، واع ، أي منقاداً لاقتناع شخصي من الداخل لا لدافع باطني أعمى ولا لضغط من الخارج، ويحصل الإنسان حقاً على هذه الكرامة عندما ينعتق من أسر أهواهه ويسعى نحو غايته باختيار الخير حراً ويعمل بالجد وحسن التصرف للحصول على الوسائل الملائمة لتحقيقها.
على الإنسان بتوجهه إلى الله الذي هو صالح وحده أن يصنع الخير ويتجنب الشر بملء حريته، ولذلك كان لا بد للإنسان من ان يقدر على تمييز الخير من الشر. هذا ما يتم له قبل كل شيء بدور العقل الطبيعي الذي هو انعكاس بهاء وجه الله في الإنسان.
ان سنّة الحياة البشرية العليا هي الشريعة الإلهية الأزلية الواقعية الشاملة التي بها ينظم الله بتدبير حكمته ومحبته الكون كله ومسالك الجماعة البشرية ويسوسها ويديرها، وقد اشرك الله الإنسان بشريعته هذه بحيث يتوصل الإنسان أكثر فأكثر بفضل العناية الإلهية التي ينعم بها إلى معرفة الحقيقة التي لا تتبدل.
إن العلاقة بين حرية الإنسان وشريعة الله تجد لها مسكناً حياً ( قلب الإنسان )، أي في ضميره. ( أن الإنسان يكتشف في أعماق ضميره الشريعة التي لم يعطِها هو لذاته، بل أعطيها ليخضع لها وسيمع صوتها يدعوه دائماً إلى أن يحب الخير ويصنعه ويتجنب الشر، ويرن في اذن القلب كلما اقتضى الأمر، إصنع هذا، تجنّب ذاك. لأن للإنسان شريعة كتبها الله في قلبه. كرامته في طاعتها وعليها يُدان ) ، لذلك فالمستند الذي نرتكز عليه في فهمنا العلاقة بين الحرية والشريعة له علاقة وثيقة بحكم الضمير. وبهذا المعنى تؤدي التيارات الثقافية التي تنصب الحرية ضد الشريعة وتفرق بينهما وتجعل من الحرية نوعاً من الصنم، إلى ايلاء الضمير صفة ( الخلق ) في موضوع الأخلاق، الأمر الذي يخرج عن فكر الكنيسة التقليدي وعن تعليمها.
وحكم الضمير هو حكم عملي إذ أنه يملي على الإنسان ما يجب عليه ان يفعل وما يجب عليه ان يتجنب، أو انه يدين فعلا ما فعله انه حكم يطبق على حال معينة اقتناع العقل بالمبدأ القائل بان علينا ان نحب الخير ونعمله، وان نتجنب الشر وهذا المبدأ الأول للعقل العملي يختص بالشريعة الطبيعية انه أساس لها، لانه يسلط على الخير والشر ذلك الضوء الأول انعكاس حكمة الله الخالقة التي هي في النفس الشرارة الخالدة. تتالف في قلب كل إنسان .
إن لقاء المرأة السامرية مع يسوع في الفصل الرابع من إنجيل يوحنا. إلا اختبار لقيمة الحريّة، فيسوع يوعي المرأة للحريّة الحقيقية، فحين تقول هي : " آباؤنا عبدوا الله في هذا الجبل وأنتم عبدتموه في أورشليم " يجيبها يسوع : " العباد الحقيقيون هم الساجدين لله بالروح والحق " ( يوحنا 4 : 24 )، ففي البداية كانت السامرية مقيّدة بأحكام مجتمعية سابقة، (أنت من اليهودية وأنا من السامرة )، فهي لم تختبر الحريّة الشخصية بعد. لكن كلام يسوع يحرّرها ويجعلها تعيش هذا الاختبار الشخصي، وفي نفس الوقت يبين لها أن العبادة الحقيقية لله يجب أن تكون بعبادته وحده دون سواه، وأن تكون نابعة من جوهر الإنسان بكيان وجوده.
فواجب تأدية عبادة حقيقية لله يلزم الإنسان فرداً وجماعة هذا هو التعليم الكاثوليكي التقليدي في موضوع ما يقع على الأفراد والجماعات من واجب أدبي تجاه الديانة الحقيقية وكنيسة المسيح الحقيقية، فان وصية عبادة الرب واحدة تبسط الإنسان وتخلصه من تشتت لا حدود له، إذ ان عبادة الوثن افساد للحس الديني الموجود في الإنسان. فالوصية الأولى تحرم تعدد الألهة وهي تقتضي من الإنسان الا يؤمن بآلهة أخرى .
العبادة بالروح والحق : ( هي في التواضع وفي روح الخضوع لله. عندما نقول العبادة بالتواضع يعني عبادة بالحق، ان التواضع هو الحقيقة الأساسية للإنسان : الإنسان هو من تراب الأرض، أي من شيء جداً دنيء وبدون قيمة. والعبادة هي تحرير الإنسان نفسه من عبودية الخطيئة والعالم. هذه العبادة لها دور أساسي في الحياة الأدبية والروحية للمسيحي : إذ تظهر بشكل أكثر وضوحاً من هو الله ومن هو الإنسان )
الوصية السادسة :
المحافظة على الحياة الطبيعية واجب تفرضه على الإنسان الوصية السادسة، تنهي عن القتل ظلماً، وعن كل ضرر ظالم يتناول الذات، أو شخص القريب : كالضرب والقطع والتشويه وما أشبه ذلك. و تأمر الإنسان ضمناً بكل ما هو ضروري لحفظ حياته الذاتية وحياة الذين يلتزم العناية بهم. أي ان المعنى الايجابي للوصية السادسة هو ذلك الموقف الايجابي الذي يتخذه الإنسان تجاه الإنسان الآخر، تلك النّعم المرتكزة على نعم البشر تجاه الله وعلى نعم الله تجاه البشر. أي بمعنى واجب المحافظة على الحياة ويرتكز على المبادئ الآتية :
1_ لا يملك الإنسان حقاً مطلقاً على حياته، بل هذا الحق هو الله الخالق، لان الحياة ملك الله.
أما الإنسان فلا يملك إلا حق الاستعمال والتصرف بهذه الحياة وفقاً لمشيئة الله الخالق، فيدرك قيمتها ويحافظ عليها، ويستعين بها كواسطة عزيزة لامتلاك حياة أعظم وأبقى.
2_ وعلى نور الوحي نرى أن الحياة الطبيعية يجب أن تعتبر زمن الاستعداد والاستحقاق لحياة أبدية باقية. لان الكتاب المقدس يشبهها حيناً بزمن الزرع، وحيناً بزمن المتاجرة، ووقتاً بزمن السباق في الميدان لاكتساب الأكليل.
3_ ومن هذا التعليم الموحى تتضح أهمية هذه الحياة الطبيعية ولزوم المحافظة عليها. وبناء على المبدأ القائل : ( من التزم تحصيل غاية، لزمه أن يعمل الوسائل اللازمة لتحصيلها )، يفرض على كل إنسان أن يستعمل تلك الوسائط العادية اللازمة للمحافظة على حياته وصحته، فلا يلزمه استعمالاها ان رفض هذه الوسائل غير العادية ليس قتلاً بل هو تسامح بموت الذات.
تعبر الوصية السادسة عن الاقتناع السائد منذ العهد القديم بان الحياة ثمينة ومقدسة وتشير خصوصاً إلى الحياة الإنسانية، إذ ان الانسان هو صورة الله ، وفي هذا قيمته كرامته لذا ينبغي ألا يتصرف الآخرون به كما يريدون وكل من ينتهك الحياة الإنسانية يعقاب بقسوة : " من سفك دم الإنسان سفك دمه عن يد الإنسان، لأنه على صورة الله صنع الإنسان " ( تك 9 : 6 ). ان القضاء عمداً على حياة القريب يعد خطيئة تصعد صرختها نحو السماء.
تنهي الوصية السادسة عن القتل، وتأمر بحماية الحياة وتعزيزها سواء أكانت حياة الإنسان الخاصة أم حياة الآخرين ، بيد أن الوصية تلفت أيضاً انتباهنا إلى مختلف القيم التي ينبغي أخذها بالاعتبار في حياة متوافقة مع التطلبات الأخلاقية : الخيرات المادية، والبيولوجية، والجمالية والروحية، وكذلك القيم الأدبية والدينية.
ان مقارنة هذه الخيرات والقيم بعضها ببعض يُظهر في ما بينها نظاماً تراتبياً. فالقيم الأخلاقية والدينية تحتل المرتبة العليا، فلا يجوز إطلاقاً ألمس بها. القيم الأخرى أي أيضاً بدون ريب ذات أهمية كبرى بالنسبة للتصرف الأخلاقي، فلا يجوز التخلي عنها، أو ألمس بها بدون سبب، ولكنها ليست قيماً أخلاقية بالمعنى الحصري للكلمة، أما بالنسبة للسؤال ان أهمية حياة الإنسان فقد تبين من موضوع الدفاع المشروع عن النفس أن الحياة خير اسمى، انها خير اساسي لكونها شرط تصرفنا فنحن ملزمون أخلاقياً بحماية الحياة الانسانية والمحافظة عليها . فالسير على الطرقات هو اليوم، على سبيل المثال، مجال لمسؤولية خاصة. فعلى سائق السيارة ان يجتهد بتجنب كل ما يعرض حياته، أو حياة الآخرين للخطر.
الكرامة الإنسانية :
تتأكد كرامة البشر في ثلاث عبارات متعاقبة في سفر التكوين ( 1 : 27 و 28 ) التي تفحصاناها من حيث علاقتها بالبيئة، " خلق الله الإنسان على صورته " ثانياً " ذكراً وأنثى خلقهم ". ثالثاً وباركهم الله وقال لهم : " املأوا الأرض وأخضعوها "، فالكرامة الإنسانية تبدو هنا، مؤلفة من ثلاث علاقات فريدة أنشأها الله لنا بالخلق، وهي تؤلف مجتمعة قدراً كبيراً من إنسانيتنا وقد شوهها السقوط لكنه لم يدمره .
أولها علاقتنا بالله. المخلوقات كائنات تشبه الله، خلقت بإرادته وعلى صورته، وتشمل الصورة الإلهية تلك الصفات العقلية والخلقية والروحية التي تفصلنا عن الحيوانات وتربطنا بالله. ونتيجة لذلك، نستطيع أن نتعلم عنه من التوراة والأنبياء والإنجيل، وان سماع الإنجيل حق إنساني أساسي. فنعرفه ونحبه ونخدمه ونحيا في اتكال عليه بوعي وتواضع، ونفهم إرادته ونطيع وصاياه، فجميع تلك الحقوق الإنسانية التي ندعوها حرية الاعتراف بدين معين وممارسة شعائره ونشره وحرية العبادة وحرية الضمير وحرية الفكر والكلام تاتي تحت هذا العنوان الأول، علاقتنا بالله.
القدرة الفريدة الثانية التي تملكها الكائنات البشرية هي علاقتنا الواحد بالآخر. إن الله الذي خلق الجنس البشري هو نفسه كائن اجتماعي، إله واحد بثلاثة أقانيم متميزة أزلياً، وقد قال : " لنصنع الانسان على صورتنا "، و " ليس حسناً أن يكون آدم وحده . وهكذا صنع الإنسان ذكراً وانثى وقال لهم اكثرو " فالجنسانية من صنعه والزواج من تأسيسه، والرفقة البشرية مقصده. فكل تلك الحريات التي ندعوها قدسية الجنس والزواج والعائلة، وحق الاجتماع السلمي، وحق الحصول على الاحترام مهما كان عمرنا، أو جنسنا، أو عرقنا، أو رتبتنا، جميعها تأتي تحت العنوان الثاني، وهو علاقتنا بعضنا ببعض.
أما صفتنا الثالثة ككائنات إنسانية فهي علاقتنا بالأرض ومخلوقاتها، لقد منحنا الله سلطة خاصة ومعها تعليمات لإخضاع الأرض المثمرة ورعايتها، وللسيطرة على مخلوقاتها، وهكذا فان جميع حقوق الإنسان التي تدعوها حق العمل وحق الراحة وحق المشاركة في موارد الأرض، وحق الغذاء والكساء والمأوى وحق الحياة والصحة وصيانتها إلى جانب التحرر من الفقر والجوع والمرض تاتي تحت عنوان الثالث، وهو علاقتنا بالأرض.
ورغم التبسيط المفرط يمكن ان نلخص ما نعنيه بكرامة الإنسان به بهذه الطرق الثلاث: علاقتنا بالله ( أو حق ومسؤولية العبادة ) وعلاقتنا بعضنا ببعض ( أو حق ومسؤولية الألفة ) وعلاقتنا بالأرض ( أو حق ومسؤولية الوكالة ) ومنها بالطبع الفرصة التي تهيؤها التربية والدخل والصحة لتطوير هذه الامكانية الإنسانية الفريدة.
وهكذا فان جميع حقوق الإنسان هي بالأساس الحق في ان يكون إنساناً، وان يتمتع بالتالي بالكرامة الناشئة عن كونه قد خلق على صورة الله وعن امتلاكه نتيجة ذلك علاقات فريدة مع الله نفسه، ومع أقرانه البشر ومع العالم المادي. ولدى المسيحيين أمر هام يضيفونه إلى ذلك، وهو أن خالقنا قد فدانا، أو خلقنا ثانية، بثمن باهظ عن طريق تجسد ابنه وتقديم نفسه كفارة عن الخطيئة. وفداحة الثمن الذي تطلبته عملية الفداء الإلهي تؤكد بقوة معنى قيمة الإنسان التي منحها لنا الله بعملية الخلق.
المنظور المسيحي لحقوق الانسان :
أولاً : اننا نؤكد كرامة الإنسان، لان البشر مخلوقون على صورة الله لكي يعرفوه وليخدموا بعضهم بعضاً وليكونوا وكلاء على الأرض، لذلك ينبغي أن يُحترموا.
ثانياً : نؤكد المساواة الإنسانية لأن البشر جميعاً خلقوا في نفس الصورة ومن قبل نفس الخالق لذلك ينبغي ألا نخضع للبعض ونستهزى بالبعض الآخر بل نتصرف مع الجميع بلا محاباة.
ثالثاً : نؤكد مسؤولية الإنسان، لان الله وضع علينا أن نحب قريبنا ونخدمه لذلك يجب أن نناضل لاجل حقوقه، بينما نكون مستعدين في سبيل ذلك لان نتخلى عن حقوقنا.
وثمة نتيجتان لذلك:
أولاً : يجب أن نقبل أن ضمان حقوق الناس الآخرين هو مسئوليتنا، فنحن حراس لأخينا لأن الله قد أوجدنا في نفس العائلة البشرية، وهكذا جعلنا مرتبطين بعضنا ببعض ومسئولين بعضنا عن بعض. فالناموس والوصايا العشرة والأنبياء ويسوع ورسله جميعهم يضعون على عاتقنا واجباً خاصاً هو خدمة المسكين والدفاع عن العاجز، ولا نستطيع أن نتهرب من هذا بقولنا إنها ليست مسئوليتنا. نحتاج إذاً أن نشعر بالآلام التي يعاينها أولئك المظلومون " اذكروا المقيدين كأنكم مقيدون معهم والمذلين كأنكم أنتم أيضاً في الجسد " ( عب 13 : 3 )، ولكي نفعل هذا نحتاج إلى الاطلاع على مزيد من التفصيل على انتهاكات حقوق الإنسان في الوقت الحاضر، فاذا اعتقدنا بأن ثمة عملاً صائباً يجب القيام به وجب علينا أن نستخدم لتحقيق ذلك طرقاً نضمن أنها لا تنتهك حقوق الإنسان التي نسعى إلى الدفاع عنها.
ثانياً : علينا أن نأخذ قصد المسيح بصورة أكثر جدية، وقصده هو أن تهتم الجماعة المسيحية بأن تكون قدوة لباقي الجماعات، ولست افكر فقط في سلوكنا المسيحي في البيت، أو المدرسة، أو العمل، حيث ينبغي علينا كأزواج أو زوجات، كآباء أو أولاد، أو كهنة ورهبان وراهبات، أن نخضع بعضنا لبعض بسبب احترامنا للمسيح.، وانما افكر بخاصة في حياة الكنيسة التي قصد الله بها أن تكون علامة على حكم الله. ينبغي أن تكون الكنيسة الجماعة الوحيدة في العالم التي يمكن التعرف فيها بصورة ثابتة على الكرامة الإنسانية والمساواة الإنسانية بين البشر ويقبل كل فرد فيها يتحمل مسئوليته تجاه الفرد الآخر، ويتم فيها السعي لأجل حقوق الآخرين والحرص على عدم انتهاكها، بينما نتخلى في كثير من الأحيان عن حقوقنا فلا يوجد في هذه الجماعة محاباة، أو تحيز، أو تمييز. وهناك من يدافع عن الفقير والضعيف. كما تعطي للناس الحرية في أن يعيشوا إنسانيتهم، فهكذا خلقنا الله وهكذا أرادنا أن نكون.
الخاتمة:
إن الحقيقة عن الخير والشر التي تتضمنها شريعة العقل البشري يدركها الضمير على وجه عملي معين ببصريته، ويحدو بفاعل الخير، أو الشر إلى تحمل مسؤولية فعله : إذا فعل الإنسان الشر يظل حكم الضمير فيه شاهداً، إما على الحقيقة الشاملة التي هي لجانب الخير، وإما على الشر الذي يختاره. بيد ان حكم الضمير يبقى فيه عربون الرحمة والرجاء فإنه فيما يندد بالشر المرتكب، ينذر بوجوب التماس السماح وعمل الخير دائماً، بل ممارسة الفضيلة بنعمة الله. هكذا، في حكم الضمير الذي يسبق القيام بعمل ما ، تظهر العلاقة التي تربط الحرية بالحقيقة. ولهذا السبب يعبر الضمير عن ذاته بإصدار( أحكام ) ليست مجرد ( أراء ) اعتباطية بل أنها تنير الحقيقة في الخير. إن درجة نضج هذه الأحكام وبالتالي نضج الإنسان الذي يبرزها ومسؤوليته لا تقاس بتحرر الضمير من الحقيقة، في سبيل استقلالية مزعومة في اتخاذ القرارات، بل خلافاً لذلك بالسعي الجاد لإكتشاف الحقيقة مثله للقدرة التي للحقيقة على تسيير أفعاله.
الحرية هي إختيار، والإختيار قرار، والقرار إلتزام، والإلتزام مسؤولية، والمسؤولية دين، والدين مصير، والمصير أبدية، والأبدية حياة، والحياة إلهية، نحققها بحرية منذ اليوم، وكل يوم ( هنا الآن ) حتى بلوغ الملكوت النهائي.