الحكام المخادعون وخدع الذات
علي حسين/هناك دائما من يتربص بالثورات والانتفاضات الشعبية، سواء كانوا أشخاصا، أو حركات واحزاب سياسية، فيأتي هؤلاء في الوقت المناسب، ويركبون موجة التظاهر وانتفاض الجماهير على الحاكم المستبد، أملا بالوصول الى سدة الحكم، والاستفادة القصوى، من المناصب والنفوذ والاموال، وما الى ذلك من امتيازات السلطة.
ولهذا ينبغي على القيادات الجماهيرية، أن تكون واعية لمثل هذه الانقلابات الخطيرة، التي تجيّر تضحيات الشعب لصالحها، وتنحرف بمسيرة الجماهير ومتطلباتهم، كما أن الحاكم المخادع، الذي يستخدم الخداع كي يحتال على شعبه، في تحقيق مآربه السلطوية، لا يمكن أن يُكتب له النجاح، ولا يمكن أن يطمئن على منصبه، طالما كان الخداع والكذب والاحتيال، وسيلته لتثبيت السلطة، ولهذا السبب، غالبا ما تكون الثقة المتبادلة بين هؤلاء الحكام، وشعوبهم هشّة، بل مفقودة تماما، ومهما يتعهدون به من عهود لشعوبهم، لا تكون محط ثقتهم واطمئنانهم، ويحصل هذا نتيجة لأساليب الحكام، القائمة على إعطاء الوعود الكاذبة في الغالب.
يقول المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الشيرازي (رحمه الله) حول هذا الموضوع، في كتابه الثمين الموسوم بـ (السبيل الى استنهاض المسلمين):
(يلزم على الحاكم أن يكون صحيح العمل إلى أبعد حد، وفياً بالمواعيد والعهود، فلا يكون غادراً ولا ماكراً ولا خادعاً، ولا متآمراً ضد الناس، فإن بعضهم يظهر نفسه بمظهر المسالم المحب للخير، ثم يتآمر مع بعض أعوانه ضد الناس، يريد بذلك أن يجمع بين نظافة مظهره وبين أن يصل إلى مآربه).
وهناك من يلتف حول شخص القائد، من الحاشية، او البطانة، او الاشخاص المقربين، فينصحونه بالمكر والخداع وفقا لمصالحهم، أما النتائج التي ستتمخض عنها مثل هذه الاساليب المخادعة، فلا تعني احدا من البطانة، والمهم لديهم هو كسب اكثر ما يمكن من الامتيازات، على حساب عامة الشعب، ومساوئ هذا السلوك لابد أن تظهر بالنتيجة، كما يقول الامام الشيرازي في كتابه نفسه:
(فالمكر والغدر والخدعة والتآمر، كلها لا تفتأ أن تظهر، وبذلك يفقد الحاكم حكمه وسمعته، بل من عادة الناس أنهم إن اطلعوا على مكر الحاكم وخداعه في بعض الأمور ينسبون إليه كل رذيلة، ولا يصدقونه بعد ذلك في شيء).
في حين يدفع المقربون، الحاكم المستبد الى الشدة والقسوة، واستخدام اساليب الترهيب، والبطش ضد الشعب، لكي يبقى في السلطة، وتخشاه الجماهير والقوى السياسية المعارضة، حيث يزعم بعضهم أن القائد، يجب أن يكون قاسيا في تعامله مع عامة الشعب، ويقول الامام الشيرازي بهذا الخصوص، في الكتاب نفسه:
(وقد زعم بعضهم أن الحاكم إذا لم يكن أسداً كاسراً وثعلباً ماكراً، ومنتهزاً للفرص يغتنمها متى وجدها، ولو بنقض العهود، وحنْث الوعود لم يتمكن أن يعيش، وربما سقطت دولته، وعللوه بأن الناس دهماء، وأنك إذا لم تتغد بالآخرين تعشوا هم بك، فاللازم عليك أن تكون متآمراً ذا رياء ومكر وخداع، وعلى هذا بنوا قاعدة: الغاية تبرر الوسيلة- وما هي الغاية؟ إنها وصولك إلى السلطة أو بقاؤك فيها أكبر مدة).
ويؤكد الامام الشيرازي في هذا الصدد على أن:
(هذا الزعم باطل، فإن البشر لا يبنى على الكيد والخداع ونقض العهد، ولذا نرى في التاريخ، إن كل من ارتكب ذلك سقطت دولته وظهرت سوءته، ووقع فيما زعم أنه فر منه، بل في أسوأ - كالمستجير من الرمضاء بالنار-).
ويذكّر الامام الشيرازي، بأن التجارب التي يزخر بها التأريخ، تؤكد لنا فشل الحكام المستبدين بالاحتفاظ بعروشهم، ولم تنفعهم وسائل الترهيب ولا الاساليب القائمة على الغدر والخداع، ولا أساليب البطش، مهما كانت قوتها، وحجمها، وقسوتها، وفي هذا الصدد، يتساءل الامام الشيرازي، عمّا حدث في الغرب قائلا في كتابه نفسه:
(هل حكام الكنيسة وحكام الباستيل، كانوا أهنأ حكماً وأفضل عاقبةً، أم الديمقراطيين الذين جاؤوا من بعدهم؟ وفي الزمن القديم إسبارطة أم أثينا؟ إلى غير ذلك من الأمثلة. والغالب عند هؤلاء الذين يرون الانتهازية أنهم ينظرون إلى حاكم فاشل، وحاكم نجح في السلطة، وينسون أن من فشل كان ذلك لعدم مؤهلاته لا لبعض فضيلة وجدت فيه. وإذا صحّ ما ذكروا، فلماذا أخرج ستالين من قبره وأحرق؟ ولماذا ثار الناس على الأمويين حتى قتلوهم؟ ولماذا ثاروا على الكنيسة حتى أزالوا حكمها إلى الآن؟ ولماذا؟ ولماذا؟).
ولذلك ليس هناك ما يثبّت أركان السلطة، سوى الاستماع الى صوت الشعب والتعامل الحكيم المتروي مع الجميع، ولابد أن تكون الحكومة ذات طابع استشاري، وينبغي أن تستمع للجميع، وتستجيب للمطالب الشعبية المشروعة، وهكذا تكون الحكومة الاستشارية، اكثر فهما واستيعابا لخفايا الامور ومظاهرها، وهذا هو الحل الوحيد لكسب القبول الجماهيري الواسع، بسبب منهج الاقناع الذي تقوم عليه الحكومات الاستشارية، إذ يقول الامام الشيرازي بهذا الصدد:
(لاشك ان الدولة الاستشارية، تفهم ما لا يفهمه كثير من الناس، من الظروف والملابسات التي تفرض نفسها لاتخاذ المواقف، فاللازم أن تتمسك الدولة بحالة الإقناع الدائم لمواقفها، بواسطة مختلف وسائل الإعلام، وبواسطة جملة من المحنكين، من رجال السياسة والاطلاع والارتباط بالناس، حتى لا يؤدي إهمال أولئك الناقمين إلى تفاقم النقمة، وربما وصلت الأمور إلى ما لا يحمد عقباه).
ويحذّر الامام الشيرازي الحكام الطغاة المتجبرين وأولئك الذين يخدعون حتى أنفسهم، من مغبة المضي في أساليب القهر والبطش والاحتيال، فهي أساليب تقصر من عمر الحكومات وحكامها، كما يحدث الآن في كثير من الدول التي تُحسب على منطقة الشرق الاوسط، كتونس، ومصر، والجزائر، واليمن وغيرها، ويؤكد (رحمه الله) في كتابه الثمين نفسه، قائلا في هذا الصدد:
(وقد يخدع بعض الحكام الدكتاتوريين أنفسهم فيقولون: إننا نستشير أيضاً، لأنهم يستشيرون حفنة من الإمعات الذين استقطبوهم حول أنفسهم، لكن هذا الخداع لا ينطلي إلاّ على أنفسهم).
وكلنا يذكر الخطاب الأخير للرئيس التونسي المخلوع بن علي عندما قال بعد اصبحت نهايته محتومة: وأنا فهمتكم، فهمت الجميع البطال والمحتاج والسياسي واللي طالب مزيد من الحريات، فهمتكم، فهمتكم الكل... سيكون التغيير اللي أعلن عليه الآن استجابة لمطالبكم اللي تفاعلنا معاها وتألمنا لما حدث شديد الألم... حزني وألمي كبيران لأني مضيت أكثر من 50 سنة من عمري في خدمة تونس في مختلف المواقع...
وهكذا هو حال الطغاة يفهمون انهم يخدعون انفسهم وليس شعوبهم عندما تحين ساعة النهاية، فهل من معتبر...؟
* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com