Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

خلف عباءة التقديس اغتصبوا حق النصف الآخر!

لا تختلف ثقافة المرء من بلد عن آخر، من حيث السلوكيات والأداء اليومي، فمقومات الإنسان المثقف الواعي ترشح آثارها على المحيط الإجتماعي في أي بلد من بلدان الأرض بلحاظ أن الثقافة ليست ظاهرة طارئة تزول بزوال المؤثر، فمن يكون منظما ومحترما للقانون في بلد يسوده النظام وحكم القانون سيكون منظماً في البلد الذي تقل فيها عوامل النظام أو تنعدم فيه مؤشرات القانون، فقيمة المثقف هي فيما يحمله من ثقافة في اتجاهات مختلفة ويشار إليه بالبنان إذا استطاع أن يترجم ثقافته السلوكية السوية على ارض الواقع، وأن يكون مؤثرا فاعلا في تذليل الجوانب السلبية لا متأثرا بها، ويتأثر بالجوانب الايجابية ويفعّلها ويتفاعل معها لا نافراً منها.
وفي مجال المشي والحركة واستخدام وسائل النقل القديمة والحديثة، فإن المرء تظهر عليه معالم الثقافة العالية من خلال هيئته في نمط الحركة والسير، فالاتزان في المشي دالة على نوعية الثقافة وقيمومتها، كما أن بشاشة الوجه عند لقاء الآخرين تعبّر عن ثقافة لاحترام وقبول الآخر القريب أو البعيد، ولذلك يقدم القرآن الكريم درسا في ثقافة المشي والحركة في الشارع بقوله: "وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً. كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً. ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ" (الإسراء: 38-39)، لأن الحركة الواعية ليست ثقافة فحسب بل هي واحدة من موارد نشر السلام والوئام في الشارع العام، وفي الوقت نفسه حث الآخر على التخلق بآداب السير، ومن أظهر وصايا لقمان الحكيم لابنه هو دفعه باتجاه التخلق بأدب الطريق وثقافة معاشرة الآخرين كما أبان عنها القرآن الكريم على لسانه:" لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ" (سورة لقمان: 18-19).
مثاقفة سلوكية
ولا شك أن ثقافة السير وآدابها لا تقتصر على المشي أو السير راجلا، صحيح أن المصداق العام للآيات الكريمات يوحي بذلك، بيد أن مصاديقها تتوزع إلى كل ما ينطبق عليه مفهوم الحركة والسير راجلا أو راكبا، فركوب وسائل النقل القديمة منها والحديثة له ثقافته وآدابه وسلوكه، فما يفترض على المشي راجلا من آداب يفترض فيه راكبا، إن كان بالمباشرة كأن يقود الراكب الدراجة أو السيارة، أو بالواسطة كأن يكون احد المستقلين لآلية نقل خصوصية أو عمومية، لأن الآداب والسلوكيات واحدة لا تختلف من حيث مثالها الخيّر، فالمثل العليا تبقى محافظة على نقاوة كينونيتها في كل زمان ومكان، وهي بالأصل عنوان الإنسان والإنسانية بغض النظر عن الدين والمعتقد والجنس، كون أنظمة السير أوجدها الإنسان لتنظيم حركة الحياة وتطويع مرافقها، فهي منسجمة مع طبيعته الإنسية وفطرته، وما يقدمه الشرع من توصيات واجبة أو مستحبة يراد منها خير الإنسان وإرشاده إلى منتهى الصواب.
ولأن الدين الحق يشجع الإنسان على استثمار الأرض وفضائها وتطويرها بما يقلل من الأعباء، فإن حركة المواصلات كانت جزءاً من هذا التطور الذي شهدته البشرية في استخدامها لوسائل النقل البرية والبحرية والجوية، وحتى يكون الإنسان أقرب إلى الواقع تشريعيا في تعامله اليومي مع هذا التطور صدر حديثا للفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي كتاب "شريعة المواصلات" في 48 صفحة من القطع الصغير عن بيت العلم للنابهين ببيروت، فيه مجموعة من الأحكام الخاصة بوسائل النقل المختلفة، قدّم له وعلق عليه الفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري.
بدعة الإبتداع!
والبدعة لغة هي الابتداع أو الإيجاد على غير مثال سابق، ومنها قوله تعالى: "بديع السماوات والأرض" أي أوجدها من غير نموذج سابق، ومن الناحية الشرعية فهي إدخال في الدين ما ليس منه بما لم يرد فيه نص من قرآن أو حديث، أو إخراج ما هو منه، بيد أن السؤال الذي يتسمر على الطريق، وهل تطوير وسائل النقل يعد من البدعة التي ورد النهي عنها؟
يفترض ابتداءاً أن ليس لمثل هذا السؤال محل من التشريعات لولا قلة من رجال دين وجدوا في كل ما ينتجه الإنسان بدعة وضلالا وبخاصة إذا انحدر المبتدع إلى العالم الإسلامي من بلاد الغرب، وحجتهم فيما يذهبون أن المنتوج المتهم لم يكن على عهد الإسلام الأول، ولا يخفى أن هذا التفكير المتقاطع مع العقلانية يتعارض مع التطور البشري ويناقض العلم الحديث، وحيث لا تعارض بين العلم والدين، فإن الحظر على أي تطور في صالح البشرية هو معارضة للدين، فإذا كان المنتوج الجديد بدعة فإن معارضته والحكم عليه بالضلال إنما هو وقوف في وجه الدين، وابتداع فيما لم ينزل به وحي أو نص!
ومن المنتوج البشري الذي لم يعهده الأوائل هي وسائل النقل المتنوعة، التي وجد فيها البعض بدعة، ومن طريف القول كما يقول الفقيه الكرباسي: "ان هناك فئة من ذوي العقول المتحجرة يحرمون استخدام هذه الآلات اعتماداً على أنها بدعة في الحياة، والبدعة محرمة، وبما أنها لم تكن على أيام الرسول (ص) ولم يستخدمها السلف الصالح فالواجب التجنب عنها وعدم استخدامها"، وهذا النوع من الفهم المغلوط للبدعة هو تعطيل للعقل وتجميد للإرادة بل في نظر الشيخ الكرباسي: "انه من التخلف الذي هو بعيد عن منهج الإسلام، بل هو نوع من أنواع الإفتراء على الإسلام، ولعل القائلين بذلك أو مَن هم وراءهم من أعداء الإسلام يريدون التنقيص منه والنيل من قداسته باسم الإسلام".
والبعض توقف على النص، وتمسك بحدود قوله تعالى: " وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ" (سورة النحل: 8)، ورفض ما دون ذلك من وسائل النقل الحديث، بخاصة عندما نزلت الآليات الحديثة إلى الشارع لأول مرة.
ولا شك أن تجميد النص وتعطيل العقل وحبس اليد لا يتوافق ومنطق التطور الذي دعت إليه الفطرة، بخاصة وأن العقل هو سيد الأعمال وإعماله في الخير يمثل بنظر الإسلام عبادة، ولكن في المقابل نجد البعض أفرط في التحريم ليصل إلى الحيوان نفسه فمنع الاستفادة منه بزعم "الدفاع عن الحيوان" وحظر الاستخدامات المختلفة للحيوان في الأعمال اليومية التي تعاهدتها البشرية منذ يومها الأول، وليست هذه دعوة جديدة، ومن الظريف أنه لما صار إلى وضع المحامل على البعير كنوع من أنواع تطوير وسائل النقل البري في غابر العصر الأول، ارتجز أحدهم (البيان والتبيين: 2/304):
أول عبدٍ عمل المحاملا *** أخزاه ربّي عاجلا وآجلا
ورغم أن الراجز أراد باللعن الفاعل لظلمه وشدة بطشه، ولكن في البيت إشارة إلى رفض الجديد.
وللمرء أن يتصور ماذا يقول البعض بحق صنّاع العجلات والسيارات والطائرات والسفن والمركبات الفضائية وغيرها من وسائل النقل الحديثة أو التي ستنتج في المستقبل من قبيل السيارات الطائرة، وأي نار حاطمة سيخلد فيها دعاة البدعة العلمية!
الإنسان أولاً
في الواقع أن الدين لا يحظر التطور، ووسائل النقل والمواصلات منها، بل أن الآية السابقة: "ويخلق ما لا تعلمون" إشارة إلى تطور وسائل النقل في المستقبل، كما انه يشجع على التقدم في مجالات الحياة كافة، ويقدم إشارات جلية وخفية إلى استخدام وسائل النقل في اختراق السماء وسلك دروبها كما في الآية 33 من سورة الرحمان: "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ"، ولا يستبعد الفقيه الكرباسي بناءاً على معطيات الآية الكريمة إمكان المشاركة بين الجن والإنس في ارتياد طرق السماء ذلك أن: "اشتراك الجن في مسألة اختراق الفضاء ربما يدل على أن للجن حضارة كالإنسان، وقد سبقت أو ستأتي، إذ أن الجن والإنس سيتعاونون في يوم من الأيام في اختراق السماء بعد تطور العلم وإمكان التواصل بين هذه المخلوقين"..
ولا غبار بأن راحة الإنسان مقدمة، لأن الله أوجد الأرض وجعلها مهدا للإنسان من أجل إحيائها وإعمار النفس معاً، وهذا يقتضي التقدم والرقي والحث عليهما، وتنجيز كل ما من شأنه المساعدة على راحة الإنسان وسعادته، وكلما كانت وسائل النقل مريحة أمكن إسعاد المرء، وفي المفهوم الديني فان وسائل النقل المريحة من شانها أن تساعد العبد على التقرب إلى الله، فالحج على سبيل المثال، كان في عصور ما قبل الطائرات والسيارات يستغرق شهرا أو أشهرا، والقليل من الناس من يكرر الحج والعمرة، في حين صار من السهل الحج إلى بيت الله الحرام أو الإعتمار أو الإعتكاف في كل موسم، وعلى هذا فقس.
ولكن رغم هذا التطور والتشجيع عليه فإنه ينبغي مراعاة الشأن الإنساني والمحيط الإجتماعي والبيئي والطبيعي، والاستفادة من كل آلية نقل بما تعين الإنسان على العيش في هذه الدنيا بما يرضي الرب والعبد ويحافظ على سلامة البلد ولا يغضب الطبيعة ولا يزيد من سخطها، ولهذا على سبيل المثال يحظر في بعض المطارات إقلاع وهبوط الطائرات في ساعات متأخرة من الليل منعا لإزعاج الساكنين بالقرب منها، لأن راحة المواطن هنا تتعارض مع راحة المسافر، والأول مقدم رتبة على الثاني من حيث ثبوت الحق له.
ولا تتخلف راحة المواطن عن سلامة البيئة، لأن سلامته من سلامتها، وهي مقدمة على كل شيء، ولذلك لا يصح تحت دعوى التطور العلمي استغلال وسائل النقل والمواصلات المختلفة بما يساعد على زيادة التلوث البيئي أو تدمير الثروة الحيوانية أو تخريب طبقة الأزون، من هنا فإن الفقيه الكرباسي يعتقد انه: "إذا تسببت بعض وسائل النقل بتلوث البيئة بأكثر من المتعارف، يحرّم استخدامها وعلى المسافرين مقاطعتها" ويؤكد على الحرمة الشرعية لكل ما من شأنه تخريب البيئة وذلك أن: "استخدام أي وسيلة توجب الإضرار البالغ بالبيئة أو الطبيعة بشكل غير مألوف لا يجوز، فلو أن بعض وسائل النقل البحرية تسببت في القضاء على الثروة السمكية فإن استخدامها محرّم".
إحتكار الحق!
ولا يخفى أنه لا يمكن التعويل على رأي القلة القليلة الذين حرّموا استخدام وسائل النقل المتطورة واعتبروها من البدعة والخروج عن السنة، فالرأي العقلائي الغالب هو الحلية، وفي أول مسألة من مسائل شريعة المواصلات يرى الدكتور الكرباسي أن: "استخدام المواصلات بجمع أنواعها جائزة بحد ذاتها والقول بأنها من البدع باطل" وحسب تعليق الفقيه الغديري أن قول البعض ببدعة وسائل النقل الحديثة هو: "بنفسه بدعة، لأن الشارع المقدس قد أباح للعباد نوعية العمل للوصول إلى الغرض الشرعي وبيّن صوراً محرّمة جملة وتفصيلاً، وكذلك بلّغ في رسالاته إلى كل ما يحتاج إليه البشر أصولا وفروعا في الكتاب والسنّة، فمن أدخل في الدين ما ليس منه أو اخرج من الدين ما هو منه فقد ارتكب البدعة المحرمة، فأين ذلك في استخدام الوسائل النقلية من الإدخال في الدين أو الإخراج منه حتى يحكم بكونه بدعة، بل ويمكن أن نقول إن القول ببدعة هذا العمل ونحوه هو شكل من أشكال الإخراج من الدين ما كان داخلاً فيه، أي الإباحة والحلية والرخصة، أو نقول إن هؤلاء إما جهال أو أعداء وكونهم من الأعداء اظهر وأقوى من كونهم جُهال، والله عليم بذات الصدور".
وهناك نفر قليل قَصَر الحليّة على الذكر دون الأنثى في قيادة وسائل النقل الحديثة، بالحجة نفسها، لكن الفقيه الكرباسي يعتقد أنه: "يجوز للمرأة كما للرجل قيادة السيارة والطائرة والقطار والسفينة والدراجة وغيرها" أي ما يصح للرجل يصح للمرأة في أية آلية نقل، ما لم يخالف طبيعة المرأة والدين والعرف الإجتماعي، ويوافقه الشيخ الغديري الرأي: "لعدم ورود المنع عنه في الشرع الإسلامي إلا إذا كان فيه محذور شرعي، فمع رعاية الموازين الشرعية والعقلائية لا مانع فيه، وأما الدراجة فيمكن فرض الاستهجان العرفي، ولكن مع حفظ الموازين لا يكون فيه بأس"، وربما أراد البعض من فتاوى المنع تحصينها، ولكن خلف عباءة تقديس المرأة تم اغتصاب حقوقها!
إن شريعة المواصلات كسابقاتها من سلسلة "الشريعة" يعكف آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي على بيان أحكامها، تمثل محاولة فقهية لبيان آخر المستجدات على مستوى الحياة البشرية المماسّة لحركة الإنسان اليومية، فكما يفترض فيه معرفة القوانين التي بموجبها يميز بين حقوقه وواجباته، فإن معرفة الأحكام الشرعية تعينه على التحكم بحياته وضبط مسيرتها بما لا يخالف الشرع أو العرف وهي تقوده إلى حفظ حقوقه وصيانة حقوق الآخرين ودرء التداخل المرفوض في الحقوق والواجبات، وهذا ما تدعو إليه التشريعات كافّة، وليس أحكم من تعاليم الإسلام وإرشاداته في صيانة حقوق الإنسان والحيوان والجماد والبيئة والطبيعة والفضاء الخارجي.
• إعلامي وباحث عراقي، الرأي الآخر للدراسات- لندن
alrayalakhar@hotmail.co.uk


Opinions