العمل الطوعي في القوش علامة مضيئة على الطريق
قبل فترة طرق مسمعي خبرا عن أن نخبة من شباب هذه البلدة قطعوا على انفسهم عهدا للقيام باعمال طوعية لتنطيف بلدتهم، فسرت في اعماق نفسي نشوة كبيرة، واغمضت عيني، حالما بمنظر ازقة وشوارع القوش نظيفة وخالية من القناني والاكياس البلاستيكية وعلب الصودا وغيرها من الملوثات التي باتت عبئا ثقيلا على الام الطبيعة، نتركها على صدرها الحنون الذي يأوينا بدون اي رادع من ضميرنا، إما جهلا او بسبب انانيتنا وعدم شعورنا بمسؤوليتنا تجاه بيئتنا. وناجيت هذه الام الطبيعة ان تتكلل جهود هؤلاء الشباب بالنجاح، وارى القوش كأي بلدة في العالم المتقدم. وعسى ان ينجح هؤلاء حيثما فشلت البلدية المسؤولة عن نظافة البلدة من القيام بواجباتها.
يوم الجمعة الماضي، كنت عائدا من مشوار عمل، اقود سيارتي في الشارع الرئيسي الذي يقطع بلدة القوش من الجنوب الى الشمال، حتى اذا ما تقاطع مع جبلها، إنحرف غربا رغم عنه، وسال امام سفحه اكراما واجلالا لحضرته. هذا الجبل الاجرد رغم جفافه، إلا اننا نحن ابناء هذه البلدة، لازلنا وسنبقى نراه اجمل من جبال الالب في سويسرا، واحلى من الجبال المحيطة ببحيرة كومو في ايطاليا. لا تلومونا، انه عالمنا الصغير الذي ولدنا وترعرعنا في سهوله ووديانه، ولنا امام كل صخرة ذكريات، وفي كل نيسم اثار اقدام، ولازال هذا الجبل يهمس نغمات انفاسنا، ويردد صدى قهقهاتنا، وصيحات انفعلاتنا. وما ان وصلت تقاطع الشوارع الذي يعتبر مركز القوش، حيث تقوم البلدية مؤخرا بمحاولة لانشاء نافورة لتزين هذا التقاطع الرئيسي، ومنظر مشروع هذه النافورة كلما مررت قربه، يحفز ذكريات عن مشروع نفق الباب الشرقي في وسط بغداد ايام السبعينات، وكيف كانت جماهير بغداد تتلهف لرؤيته منجزا. عند هذا التقاطع لمحت جمهرة من الشباب على جانبي الشارع منهمكين بالعمل والتقاط النفايات وتقليم الاشجار، فعلمت بان احلامي بدأت تتحقق، وبالقرب منهم رأيت تكتلات لبشر اكبر سنا لاتعمل، خمنت من مظهرهم ومن طريقة تواجدهم في هذا المكان بانهم قد نصبّوا انفسهم مشرفين لتظهير هذا العمل وهذه الجهود الجميلة التي تبذلها الشبيبة لانفسهم، وبخلافه فهم مدينون لتوضيح دورهم في هذا العمل الطوعي. عندما اقتربت من هؤلاء الشباب اكثر لم اكن اتمالك ان اكتم فرحتي، فارتسمت على وجهي ابتسامة عريضة تحية لهؤلاء الفتية، رغم انهم لم يروها. وكم كانت دهشتي واعجابي عندما رأيت بين هؤلاء الشباب، شابات يعملن جنبا الى جنب بهمة ونشاط، ليعكسوا وجه بلدتنا الحضاري، مرحى لكم يا ابناء بلدتي وامتي، احييكم وارفع قبعتي احتراما واكبارا لجهودكم وشعوركم العالي بالمسؤولية تجاه بلدتكم.
ترددت كثيرا قبل كتابة هذه الاسطر، تحسبا من ان يفهم كلامي في غير مرماه، او ان يكون محبطا لهمة هؤلاء الشباب والشابات المتطوعين للعمل، والذي هو محط تقدير من الجميع بدون استثناء، واينما دار الحديث عن هذا الموضوع، سمعت كلمات الاطراء والاعجاب والتقدير لما تقوم به هذه النخبة، ولكن سمعت ايضا من بعضهم، ممن يريدون ان يقحموا انفسهم في هذا المشروع بدون ان يقدموا شيئا، سمعت ما تفسيره محاولة لسرقة جهود الغير وتظهير مجهودهم لانفسهم، اتمنى عليهم الكف منها، حتى لا تكون هذه المحاولا والتدخلات في اعمال هذه النخبة، سببا مبددا ومثبطا لهمتها، وبالتالي تؤدي الى افشال هذا المشروع. هؤلاء الشباب والشابات ليسو بحاجة الى منظرين ولا الى استشاريين، فهم ليسوا قاصرين، لانهم حسب علمي فيهم المدرسين والخريجين وطلبة جامعيين غيرهم، وهؤلاء عماد المجتمع، وهم قادرون على التخطيط والتنسيق، وتنفيذ ما نذروا انفسهم له، وهم بالغين بدنيا وعقليا، اذا لنمنحهم فسحة اكبر من الحرية للقيام بادارة انفسهم بانفسهم، وتركهم بدون وصاية من احد، فهم ليسوا بحاجة الى وصاية.
ما هو المطلوب اذا من الاخرين لدعم هذه الحملة؟
من خلال ملاحظاتي لمجريات اعمال هذا المشروع رصدت بعض السلبيات، والتي ليس لهؤلاء الشباب يد فيها، فهذه هي الامكانيات المتوفرة لديهم، فهم يجمعون النفايات من شوارع وازقة البلدة، ويحملونها في عربات الساحبات ويقومون برميها في اطراف البلدة، اذا عمليا فهم يقومون بتنظيف هذا المكان ليلوث موقعا اخر في اطراف البلدة، فرغم ان ما يقوم به هؤلاء الشباب هو من صميم عمل بلدية القوش، الا انه يبدو ان البلدية لم تبذل اية جهود لدعم هذه الحملة، فبدلا من تخصص احدى الكابسات لترافق الحملة في جمع النفايات ونقلها موقع الطمر الصحي المخصص، بدلا من رميها على اطراف البلدة، وتشويه منظرها، وتلويث الطبيعة المنهكة اصلا من كثرة الملوثات. كنا نامل من البلدية ان تكون مكملا لجهود هؤلاء الشباب، فاكياس النفايات سوف تعينهم وتسهل عملهم بدلا من جمع القناني والاشياء الاخرى بايديهم العارية، وتوزيع القازات لهؤلاء الشباب لارتداءها اثناء العمل سوف يكمل الوجه الحضاري لحملة هؤلاء الشباب. ولا ننسى بان العمل الطوعي هو عمل حضاري، وعلامة تتميز بها المجتمعات المتطورة.
وماذا بعد؟
على الجميع الاكبر سنا، وكذلك من لاتسمح ظروفه من المشاركة العملية، دعم هذه الحملة، ليس بالتنظير وفرض انفسنا مشرفين على القائمين بالعمل، ولكن بالتفكير بما يمكن تقديمه لادامتها، واطالة عمرها، وربما تحويلها الى منظمة للمجتمع المدني تعنى بمنظر ونظافة القوش، ولكي لا تكون هذه الحملة زوبعة عواطف تنتهي وتزول بعد وقت قصير، على الجميع ان يفكروا بالسبل الممكنة لديمومتها وتطويرها، فالحملة تحتاج الى عدد ومستلزمات اخرى، وهذه تحتاج الى جمع المال من المتبرعين، فكما هناك متطوعين للعمل في هذه البلدة، فلاشك بان هناك متبرعين للمال لادامتها، فاذا كان هنالك اية عوائق لجمع المال، اذا بالامكان التبرع بالمواد العينية التي يحتاجها هؤلاء الشباب، وربما يكون مفيدا جدا تخصيص بناية لخزن هذه العدد والمواد وتكون مكانا للتجمع والانصراف قبل بدء العمل وبانتهائه.
اتمنى ان تكون تجربة شباب وشابات القوش ملهمة لبقية بلدات وقرى ابناء امتنا، ليحذو حذوهم، لنعكس امام الاخرين وجه مجتمعنا الحضاري، وعسى ان نكون مثالا لبقية ابناء وطننا للعمل على انقاذ الطبيعة من المخلفات البشرية التي تلوثها يوما بعد يوم، وبالتالي تكون سببا لامراض كثيرة.
هذه هي صور المناظر التي التقطتها على اطراف البلدة نتجت عن رمي مخلفات الحملة في غير محلها.