القيافة القومية في ضيافة صاحب النيافة
كل انسان مهما إرتقى مستواه او هبط ،وأي كان نمط فهمه للحياة،لابد لأسلوبه أن يتسق وميوله الفكرية وبما ينسجم وعقيدته الدينية او القومية او السياسية،وهذه وغيرها تشكل خلفيته الفكرية في خوض معتركات الحياة ،وهذا يعني تنوع الممارسات الاجتماعية في المحيط الواحد الى حد التناقض احيانا خاصة بين مجاميع النخب الممثلة لكل اتجاه او تيار فكري او ديني او سياسي،مثل هذا التنوّع يشكل ظاهرة صحية اذا كان ضمن الحدود التي تنظم حركة تقدم المجتمع الذي لا يعطي أي فسحه كي يتجرأ اي من هذه الفصائل المتنوعة ان يدعي امتلاكه للحقيقة المطلقة دون غيره،فالجميع يقر بقاسم مشترك يساهم في تكوينه من خلال رؤيته المستقاة من تجربته الفكرية المستمدة اصلا من تجربته الخاصة وتجارب الاخرين.قبل سنوات ليست بعيدة ،طرحت في امريكا فكرة توحيد كنيسة الطائفة الكلدانية الكاثوليكية وكنيسة الطائفة الشرقية الاشورية،وتكفل بمهمة التحاور في هذه المسألة يومها المطران سرهد جمو والمطران باوي سورو بإشراف وموافقة البطاركة المرحوم مار روفائيل بيداويذ والمار دنخا أطال الله في عمره ،وكان ان وصلت تلك المحاولة الى مفترق توقف عنده الحوار نتيجة اختلاف طرفاه حول التبعية المركزية،ومركزية السلطة،وبعض الامور الطقسية الاخرى التي لا يسع المجال هنا لذكرها، فقط اكتفي بالتنويه الى:ان كل ما يتنافى وإتفاق آباء الكنيسة في مجمع نيقية،هو مجرد تحقيق غاية شخصية،فالعقيدة المسيحية اخذت شكلها النهائي في هذا المجمع كما هومعروف.
اذن الحوار بالنسبة الى مرجعية المطرانين جمو وسورو الروحية توقف،الا انهما اصرا على إنفرادهما في مواصلة المحاوله وبجهود حثيثة،مما اوهم الكثير من البسطاء الذين باركوا هذه الخطوة واعدوها بدايه لنهاية الخلافات المذهبية التي كانت يوما سببا في تدهور حالة الامة القومية،كما بلغ التفاؤل بالبعض الى حد انه صار يهلهل ويجاهر بإقتراب موعد اسدال الستار على مسرحية الخلافات المذهبية والقومية المفتعلة اصلا،الا ان جل اولئك المتفائلون اصيبوا بخيبة امل كبيرة حين اكتشفوا ،ان ظاهر الامور كان شيء،وما تحقق على ارض الواقع كان شيء اخر يختلف عنه تماما،حيث كلفنا صدعا جديدا في جدار الكنيسة الشرقية وشرخا كبيرا في نفسية الكثير من المخلصين الذين كانوا وكما قلنا،يعلقون واهمين، آمالهم على حلقات حوار الاسقفين سورو وجمو،ولعل دعوات المطران سرهد جمو الاخيرة خير دليل على ما نقول.
ابسط قواعد الكهنوت بحسب ناموس الكنيسة الكاثوليكية تقول :ان المتقدم للكهنوت ينذر العفة والطاعة لرؤسائه.وأنا هنا لا اريد ان آتي على ذكر كل الاسماء التي خرقت هذا الناموس بشقيه او بشق واحد منه،انما سوف اركز على آخر ما أقدم عليه المطران سرهد جمو وانكرته عليه رئاسته الكنسية في بغداد ،فالمطران جمو دعا الى عقد مؤتمر عالمي في سندياغو تحت عنوان نهضة القوميه الكلدانيه كما حلى للبعض وصفه،وعقد المؤتمر, وقرأنا اسماء الذين شاركوا فيه، من الذين يخلو سجل حياتهم من اي نشاط قومي سابق الا ما ندر جدا،والمؤلم أن هذا النادر معروف عنه، إما تعثره وفشله في التعامل مع الغير بشهادة كتاباتهم ،او انه لبس جلباب القومية من اجل تنفيذ اجندة لا علاقة لها بالقومية المدعاة،ومنهم من لم يكن له لا ناقة ولا جمل في حقيقة هدف هذا المؤتمر,بل جئ بهم كأداة وواجهه من اجل تحقيق تلك الاجندة, فإن كانوا يدروا بها فهي مصيبه وإن كانوا لا يدروا فالمصيبة اعظم.
ان شعبنا اذكى من ان تخدعه دعوات ينقصها الدليل على مصداقيتها،ولعل تساؤلنا هنا يكون مشروعا جدا:كيف نثق بصدق دعوة كاهن ( قومية او دينيه) لا يفي بشروط نذره الكهنوتي؟ والكل يقر بأن الكهنوت اسمى من كل الدعوات الدنيوية؟الا يسجد الملك للكاهن بحسب الاعراف والنواميس المسيحية؟ ثم كيف نثق بدعوة كاهن يتمرد على رؤسائه الروحيين الذين نذر الطاعة لهم يا ترى؟كيف نثق بأسماء من قضواسنين طويلة من اعمارهم بإدعاء فكرا يرفض التعصب القومي ،وهم ما برحوا يتغزلون بتاريخ تلك السنين وفي الوقت نفسه ينصبون انفسهم زعماء ودعاة لما أسموه بالنهضه ؟كيف يا ترى نوالف بين هذه الازدواجية التي لا يقرها العقل السليم؟كيف نثق بدعوة انسان كان يتفاخر بأمميته واليوم يحمل بيمينه شعلة القومية بلهيبها العنصري المتشنج ؟ تحت ظل أي مسوغ فكري يجتمع اليساري الاممي والقومي الناهض والبعثي العروبي والشماس الكنسي في حضرة وأمرة رمز مذهبي كنسي ؟ حقاً إنها مفارقه .
منطق العقل يقول:ان لكل واحد من هؤلاء اجندة خاصة به لا تمت الى القضية القوميه بصلة،انما ركب الموجة القومية لانه وجد فيها طريقا سهلا يوصله الى ما كان يريد بعد ان انقطعت به السبل التي توصله الى تحقيق ما يريده،ولكي نثبت صدق ما ندعيه،نتمنى على القاريء العزيز ان يراجع الاسماء التي حضرت المؤنمر ويتحقق من سجلات نضالاتها القوميه ،أما بدعة الاتحاد العالمي للكتاب والادباء الكلدان فهي خير دليل على ما نقول،اذ تخلو قائمة اسماء زعماء هذا الاتحاد خلوا تاما من اي كاتب او اديب بمعنى الأديب ،ام انهم يريدونا ان نعتبر ما يكتبونه على بعض المواقع من مقالات تراثا ادبيا لهم؟.
دعاوى المطران سرهد التي أتخذت من القوميه غطاء لها ،تذكرني بما اقدم عليه المطران باوي سورو يوم إستطاع ان يستطقب اصوات الكثير من اهلنا البسطاء في الخارج وامريكا خاصة،من الذين توهموا أن في مشروعه نهاية احزان تشتت الامة سواء مذهبيا او قوميا، وقد انجرف وراء دعواه البعض ممن يفترض انهم تمرسوا العمل السياسي(ونعني بهم قله من اعضاءالحركة الديمقراطية الاشورية "زوعا " وكثير من مناصريها ،فهؤلاء انخدعوا بالنفس الوحدوي الذي كان يغلف دعوة المطران سورو والمنسجم تماما وما تدعو اليه الحركة بأخلاص ومحبة)فغلبتهم عواطفهم وحسن نيتهم وأندفعوا يؤيدون الدعوة دون ان يحسبوا حساب البيدر والغلة بشكل واقعي صحيح،وكان ان حصل تصدع جديد بالكنيسة المشرقية ،وثبت بالتجربة العملية ان المطران سورو كان مع إحترامنا لمقامه ,اما مخدوعا او مخادعا،وفي الحالتين بعد المعذره , لا نجد له المبرر ليقف ذاك الموقف .
واليوم يعيد المطران جمو ومن حوله نفس تجربة المطران سورو التي من المؤكد سوف تسبب إنشطارا آخرلكن هذه المره بكنيسة الطائفة الكلدانية الكاثوليكية،فبوادر هذه الكارثة كانت واضحة وجلية حتى قبل موعد انعقاد المؤتمر المزعوم،فقد انطلقت الكثير من الاصوات الخيرة التي حذرت من خطوة المطران جمو،ومن نتائجها الوخيمة،ولعل موقف رئاسته الروحية في بغداد خير دليل على ما نقول،الشيء نفسه حصل مع المطران باوي سورو ومؤآزريه حين رفضوا الانصياع الى نصح العقلاء واصروا على المضي قدما في مشروعهم المبهم كما اثبتت التجربة التي حذرنا منها مرارا وتكرارا،وها هو المطران جمو وجماعته يصرون على تكرار التجربة رغم كل الدعوات الخيرة المخلصة التي طالبتهم وتطالبهم بالاقلاع عن ركوب هذه الموجة الخطرة التي تقول ابسط الحسابات انها ستضر بالجهود المخلصة التي يبذلها الخيرون من اجل تقريب وجهات نظر الفرقاء سواء مذهبيا او قوميا.
والغريب بالامر ان كلا المطرانين باوي سورو وسرهد جمو تحديا رؤسائهم الروحيين،وهنا سؤال آخر يفرض نفسه بقوه :ترى هل لروما اصابع خفية تحرك الامور بالاتجاه الذي تريده وفقا لشهوات بعض الكرادلة او بعض المتنفذين في اروقة الدولة الفاتيكانية؟فرسامة المطران جمو الاسقفية قيل فيها الكثير،واكثر ما قيل تركز حول ان روما فرضته على المرحوم البطريرك بيداويذ،وعلاقات المطران باوي سورو الحميمة بالفاتيكان نعرفها أيضا،انه مجرد سؤال بريء تفرضه علينا المجريات.
شخصيا ليس لنا اية قضية شخصية مع اي طرف ديني او قومي،فنحن في الوقت الذي نحترمهم , نؤمن بأن لكل انسان حرية اختيار ما يعتقد به،ولكن هذا لا يعني اننا نقبل ان يفرض هذا الطرف او ذاك وصايته على ضمائر الاخرين بذرائع يبررها لنفسه تحت غطاء الشرعية المذهبية الدينية او العنصرية القومية حتى لو وجدت فعلا،ومطلوب مني بالتأكيد ان اظهر جل احترامي وتقديري لكل الرموز الدينية حين لا ارى فيما تفعله وتقوله مخلا بالعقيدة الدينية التي ينادون بها،اما اذا كان العكس هو الصحيح،فأجد انه من الحماقة ان اتبع ما يدعونه قبل التحقق من مدى مطابقته مع العقيدة الدينية التي نذروا نفوسهم من اجل خدمتها .
قبل أربعة أعوام , جمعني لقاء بالاسقف باوي سورو الذي عرف بتنظيراته التي يحاول من خلالها الترويج لقناعاته بضرورة الوحدة المسيحية،تلك القناعات التي اجلها واحترمها،ولكني اعتقد انه تجاوز الحدود التي تتحقق داخلها الوحدة المنشودة،فكانت بعض النتائج التي تمخضت عنها دعواته الوحدوية سلبية لحد الخيبه .
كان اللقاء في احد مطاعم مدينة سان هوزيه الامريكية بحضور الاخ شمشون وردة مقدم برنامج على القناة الفضائية الاشورية.
جرى الحديث بيننا بإقتضاب كما لو كنا في حوار على طريقة السؤال والجواب،فأخذت انا دور السائل والاسقف باوي سورو مشكورا هو المجيب .
سؤال: سيدنا ,ما الذي تنشده من وراء مشروعك الكنسي مع المطران سرهد جمو؟
ألمطران مار باوي: أنشد منه توحيد أمتنا .
سؤال : هل لكم موقف سياسي من زوعا؟
جواب: أنا أساندها بشتى الطرق كونها حركة قوميه توحيديه.
سؤال: هل خطرت لك فكرة كسب المطران سرهد جمو لتأييد زوعا؟
الجواب: أنا أحاول ذلك لكن جهدي لم يثمر لأنه يرفض ذلك لأكثر من سبب.
سؤال: ما تعليقكم على مناصرة مؤازري زوعا لكم ولكنيستكم التوحيديه التي تهدفون الى تحقيقها مع المطران سرهد جمو ؟
جواب: يناصرونني لانهم يؤمنون بأننا امة واحده وشعب واحد مهما تعددت التسميات.
سؤال: ألا ترون أنكم في مجاملتكم لزوعا وإعلان تأييدكم لها قد سحبتم مؤازري زوعا القوميين الى ساحه مذهبيه قد يكون لها عواقب تضر بزوعا وبمسيرتها القوميه؟
جواب: أنا لست سياسيا،كل ما يهمني هو تحقيق رسالة المسيح في توحيد شعبنا.
ثم إستأذنته في طلب الاعلان عن امنية ربما يرفض سماعها مطران آخر:يا سيدنا أتمنى لو كنت مدنيا،فبفكرك النير هذا يمكنك ان تقود مسيرة التوحيد القومي بفكر علماني وليس مذهبي ديني. وكان تعليقه على طلبي جدا متوازن حين قال: من حقك ان تطلب ما تشاء لكنني نذرت نفسي للعمل الروحي.
في تلك الأيام كان نيافته فعلا قد إستقطب جمعا غفيرا من انصار زوعا الداعمين لمشروعه الكنسي الوحدوي،ولكن،وبسبب توجيه أصابع الأتهام الى زوعا كونها تتدخل في الشأن الكنسي،بادرت قيادة (زوعا)الى توضيح موقفها من مشروع المطران باوي سورو،وكان ان استدرك الإخوة الزوعاويون المناصرون والمعاضدون لمشروع وحدة الكنيسة بشخص المطران سورو،وخاصة بعد أن ثبت عندهم ان المشروع قد تسبب في شرخ جديد في الكنيسة الاشورية لاسباب لا يسمح المجال هنا للتطرق اليها،فأضطروا الى الانسحاب المتأخر ،ولكن بعد ان خلف تراصفهم اثرا سلبيا على زوعا وفي نفوس البعض من اهلنا،مما تسبب في تشتيت قسم من مناصري ومؤيدي زوعا .
ناموس الحياة يقول:أسأل مجرب ولا تسأل حكيم.ونحن هنا إذ نحذر البعض الذي صار يستهويهم ركوب هذا المركب الذي سبقهم فيه غيرهم, نقول بكل موده:اتعظوا بمن سبقكم في التجربة ايتها الاخوات ايها الاخوة،فالحال المزري الذي يعيشه اهلنا في الوطن لا يتحمل المزيد من المغامرات العاطفية الطائشة والغير محسوبة مسبقا،نحن اليوم احوج ما نكون الى التفاهم الاخوي بدل الركض وراء دعوة رمز مذهبي ترفضها مرجعيته الروحية،اي انه وبحسب النذور التي أقرها على نفسه ،يعتبر خارجا عن طاعة رؤسائه الدينيين اولا،ومن ثم غير آبه للرسالة التي نذر نفسه لتحقيقها،تلك الرسالة التي تفرض عليه تحاشي السلوكيات التي لا تليق بمن تسجد الملوك امامهم من اجل نيل بركتهم.
الجميع حر في قول كلمته،فالذي يريد ان يفسر تحذيرنا هذا كونه ناتج عن غيرتنا على اهلنا في كل بقعة على الارض،نشكر له حسن ظنه بنيتنا،ومن يريد ان تأخذه الظنون شمالا ويمينا ليشتمنا ويسبنا،فهو الاخر حر فيما يذهب اليه.
الوطن والشعب من وراء القصد.