المجتمع العراقي والقضاء بين مطرقة الارهاب وسندان الفساد
رغم العناوين والشعارات الدينية البراقة التي ترفعها قوى الارهاب في المنطقة ألا أن طبيعة الأجندات التي تحملها هذه القوى باتت مكشوفة للجميع، خاصة مع الهمجية المتزايدة للمتطرفين المتمثلة بالإمعان في القتل العشوائي للأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ بدم بارد. وما زالت همجية هذه القوى الارهابية تتنامى بفعل دعم الأذرع الإخطبوطية التي احتلت مواقع وظيفية مرموقة داخل السلطتين التشريعية والتنفيذية في العراق والزاحفة بأذرعها أيضا نحو السلطة القضائية، خصوصا، بعد أن تراجع تدريجيا مستوى الرفض المجتمعي لهذه الفصائل التي ظاهرها الدين والتديّن وباطنها الكفر والتكفير.
من الطبيعي للمجتمع العراقي في هذه الحالة أن لا يؤدي دوره المطلوب في رفض هذا الكائن الغريب الدخيل على جسده المتماسك، خاصة بعد أن فقدت الدولة جزءا كبيرا من حصانتها لصالح الحواضن الرسمية للإرهاب المتمثلة في عناوين باتت بارزة داخل دوائرصناعة القرار. فليس بخاف على أحد، المطالبات العلنية لبعض القوى السياسية والشخصيات البرلمانية بالعفو عن المُدان قضائيا المجرم طارق الهاشمي، رغم الحكم القضائي الصادر في حقّه، ورغم ماهو معروف عنه والى اليوم من محاولات حثيثة لتمزيق النسيج الاجتماعي العراقي من خلال الخطاب الطائفي المقيت المعتمد من قبله، الخطاب الذي يعد الدعامة الأساسية للأعمال الارهابية في العراق. بعبارة أخرى، لم يكتف البعض بالسماح للإرهاب في اختراق السلطتين التشريعية والتنفيذية بل لازال السعي حثيثا من قبلهم للتدخل في عمل السلطة القضائية أيضاً.
ولم يقتصر الحال على سعي الارهاب وحده لتعطيل فعالية القضاء العراقي، بل يسعى الحليف الستراتيجي للارهاب وهو (الفساد) يسعى كذلك لتحييد سلطة القضاء العراقي التي أصبحت مستهدفة من قبل الحليفين الرئيسيين (الفساد والإرهاب) بعد أن تمكنا من اختراق السلطتين التشريعية والتنفيذية ، وليس عملية الهروب الجماعي للإرهابيين من سجني أبو غريب والتاجي وحدها ما يمكن وصفها بمحاولة لتقزيم وتفريغ قرارات القضاء العراقي من فعاليتها ومحتواها، بل أباطرة الفساد داخل الدولة هم أيضا سائرون تجاه هذا المسعى بتسهيل عملية خروج الفاسدين من العراق نحو دول أخرى ينعمون فيها بالثراء الفاحش وأموال السحت المسروقة من قوت المواطن العراقي، وعلى سبيل المثال لا الحصر، رغم وجود الوثائق والأدلة الدامغة عن فساد وزير الدفاع السابق عبد القادر العبيدي، والتي عرضتها وسائل الاعلام على الملأ وتحدثت بها لجان النزاهة وأوساط رسمية من داخل وزارة الدفاع العراقية، لكن الرجل (عبد القادر العبيدي) دخل أبواب السلطة مسؤولا حافيا وخرج من أصحاب العقارات الفخمة والأرصدة الكبرى مستثمرا كبيرا خارج العراق يتمتع بالأموال المسروقة دون أن يرف له جفن، ودون أن تُقدم أي من الأدلة الموجودة لدى الجهات المعنية ضده الى ساحات القضاء العراقي.. هنا من حق المواطن العراقي أن يتساءل قائلا: ألا يُعد ذلك تحييدا للقضاء والسكوت عن تلك الأدلة شيطنة خرساء؟.
في حين، ورغم أن الأداء الرسمي في اقليم كردستان العراق ليس بالحالة المثالية التي يمكن القياس عليها، فهي الأخرى تشترك الى حد ما مع الأداء المركزي في عدم منح الفرصة كاملة للأكفاء والمستقلين لأخذ أدوارهم في ادارة مواقع المسؤولية، رغم ما سبق، ألا ان سلطة الاقليم وإن أخفقت الى حد ما في محاربة الفساد ألا أنها نجحت الى حدّ بعيد في ارساء الأمن في الإقليم، لأسباب عدة لايتسع المقام لتفصيلها، لكن ما يهمّنا منها هو أنك من السهل أن تجد أذنا صاغية تستوعب الآراء الخاصة بالوضع الأمني في الاقليم، وبما يُشعر الآخر بأن آرائه لم تذهب هباءً منثورا، وعلى سبيل المثال وعندما تعرّض مقرّي الحزبين الحاكمين لتفجيرارهابي في أول أيام عيد الأضحى سنة 2004 في أربيل، كنت أحد من كتب عن ذلك الحادث الذي ذهب ضحيته الكثير من الضحايا، وقد كان مقالا على جزئين بعنوان "الإرهاب ربيب الشيطان"، تضمّن بعض الآراء والمعالجات، وبصراحة والحق يقال، رغم ان السلطات في الاقليم تصُم آذانها عن الكثير من الامور الخاصة بالسياسة والإدارة، ألا أنني والكثير من الكُتاب العراقيين لمسنا في حينه تفاعلا ايجابيا كبيرا من قبل سلطة الاقليم مع الآراء المطروحة حول الحادث الى الدرجة التي شكّل معها ذلك التفاعل الرسمي مع آراء المتابعين جدارا واقيا للإقليم من الإرهاب، فقد سارعت السلطات الى استثمار ذلك السيل العارم من الآراء المتراوحة بين الاستنكار والمعالجة في عملية إشراك المجتمع الكردي لمحاربة الإرهاب قبل أن يقع المجتمع نفسه فريسة للقوى الارهابية.
ألا أن الحال في بقية أنحاء العراق يكاد يبدو مختلفا فقد بات المجتمع نفسه غير قادر على ممانعة الارهاب نتيجة التآكل الكبير في هيبة وحصانة الدولة العراقية، حتى بات مجبرا في بعض المحافظات العراقية على دفع الأتاوات الى المجاميع الارهابية (كما نشرت وسائل الاعلام عن الحال في الموصل الحدباء)، والذي لانتمنى لمثل هذا الحال (دفع الأتاوات الى الارهاب) أن يمتد الى بقية أنحاء المجتمع بل والى ساحة القضاء العراقي لاسامح الله.