اين يكمن كنز الحكمة العراقي؟
العراق بلد عريق و اصيل ازدهرت فيه ميادين العلم والمعرفة وكان لقرون عديدة مركز اشعاع حضاري و انساني جذب اليه الباحثين وطالبي العلوم من كافة ارجاء المعمورة حيث اقيمت على ارضه المدارس والجامعات والفت الكتب والكثير من البحوث وكالتب النفسية وازداد عدد العلماء والفلاسفة والمفكرين والشعراء وخاصة في عهد الخلافة العباسية كما عرف المجتمع العراقي انذاك بتعدد الاديان والمذاهب والقوميات وظهر فيه الحكماء واصحاب العقول الرشيدة الذين شكلو مصدر الهام وموعظة وارشاد لمن اراد من الحكام وعامة الناس ، ولم يخلو تقريبا مجلس للخليفة او الولاة من هذه الشريحة التي كانت تقدم النصائح لادارة البلاد المترامية الاطراف وكانت احكامهم الرشيدة مصدر حل مشاكل الناس والنزاعات .. ولم ينفك العراقيون انذاك من التردد الى عقلاء القوم ومشايخهم ومرجعياتهم الدينية لطلب المشورة سواء في وقت السلم او اثناء الازمات .بعد تأسيس الدولة العراقية تشكل مجلس النواب او الاعيان وهذا الاخير اشتق اسمه من الذين اختيروا لتولي عضويته وكان معظمهم من كبار القوم واشرافه ومن الذين عرف عنهم تحمل المسؤوليات والثبات في مواجهة الصعاب والمشاكل مهما بلغت حدة خطورتها وشدتها وهكذا ترعرعت الدولة الفتية وكبرت على ايدي المؤسسين الاوائل واخذت موقعها الطبيعي بين الامم .
اليوم يسأل العراقيون اين يكمن كنز الحكمة والعقل الرشيد في العراق والذي امسينا بحاجة اليه في اكثر من أي وقت مضى؟،اين حكماء العراق ووجهائه وأشرافه ونبلائه؟، أليس الآن هو الوقت الذي تحتاجهم فعلا بلادهم وشعبهم؟، وهل ياترى خلت أمة من ثرواتها العلمية والأدبية والفكرية ومن مثقفيها وقادتها وحكمائها ؟، اين ذهبوا وكيف امكنهم ترك العراق يخوض لوحده في محيط هائج تتلاطم فيه الامواج العاتية من كل مكان ؟.
اذا اردنا معرفة اين يكمن كنز الحكمة مثلما هو الحال في كل المجتمعات الديمقراطية فالاجابة الصحيحة على ذلك هو المجلس النيابي الذي يفترض ان اعضائه اختيروا من خيرة ابناء الشعب وبالمواصفات المطلوبة خاصة في الظروف الخطيرة الراهنة لكي يوجهوا مركب العراق نحو بر الأمان والسلام .
ان الدور الحقيقي لمجلس النواب متشعب ويأتي في مقدمته تشريع القوانين ومحاسبة الحكومة على تقصيرها واساءتها للسلطة وغيرها من ضروب المسؤوليات فضلا عن تقديم المقترحات والتوصيات للاستخدام الأفضل للموارد الطبيعية وعملية للبناء والتقدم .. ولكن احدى اصعب مهام المجلس هو صموده ودوره الفاعل في التعامل مع الأزمات الحادة التي تهدد أمن البلاد وسلامته وأمنه وسيادته وهذا بطبيعة الحال يتطلب استعدادا للتضحية والعمل الدؤوب بما تمليه الظروف والاستجابة لطلبات وحاجات الناخبين .. ويفترض في الأوقات الصعبة ان يحافظ كل عضو في المجلس النيابي برباطة جأشه والعمل لمصلحة العراق وشعبه .. وفي حالة تردد البعض عن اداء واجبه الوطني يتخذ المجلس قرارا باعفائه من مسؤولياته وحرمانه من امتيازاته وهذا للأسف لم يحصل في وقتنا الحاضر .
وفي تاريخنا السياسي المعاصر لدينا مثالا للتضحية تجسدت في اطلاق المرحوم عبد المحسن السعدون النار على نفسه بعد ان عجز عن تلبية مطالب شعبه، ونحن بطبيعة الحال في عصر مختلف ولا نطالب من يترك موقعه ويتخلى عن مسؤولياته الوطنية ان يسلك ما فعله السعدون وان حصل ذلك لفقدنا العديد من اعضاء المجلس النيابي .
نعم في وقت عصيب يعيشه العراق ويتحدث العالم كله عن احتمال انفجار الاوضاع وانزلاق البلاد في دوامة الحرب الاهلية المدمرة التي قد يذهب ضحيتها عدة ملايين من السكان وكأن العراق لم يفقد اصلا هذا الكم من سكانه بين قتيل وجريح ومشرد ومهاجر ومهجر .. في هذا الظرف الخطير الذي يتطلع من خلاله الشعب العراقي الى قادته الذين انتخبهم ان يفعلوا شيئا لدرء الخطر عن الامة.. في هذه الايام المريرة التي يسودها الظلام ينتظر الشعب من مجلسه النيابي فعل المعجزات ووضع الخطوة الاولى على طريق السلام ..يفاجأ بان نصف اعضاء كنز الحكمة العراقي تقريبا قد غادروا العراق لاداء مناسك الحج والنصف الاخر يقال ان غالبيتهم غادروا بغداد لقضاء اجازاتهم .. وفي الايام العادية لم يستطع حتى نصف اعضاء المجلس من الحضور لاكتمال النصاب ، مما عطل كل المحاولات من جمع اعضاء المجلس تحت سقف المجلس للبحث عن افضل الحلول لمعالجة الازمات الخطيرة التي تهدد العراق ووحدة شعبه .
اذا كان صعبا حضور اعضاء المجلس في هذه الايام الحالكة من تاريخ العراق ، فمتى سيكون ممكنا جمعهم اذن ؟. لقد سمعنا ان مجموعة من النواب اضطرت للاجتماع خارج العراق في احدى دول الجوار وبعضهم فضل العيش في الخارج واطلاق التصريحات والمنشورات ، فهل يا ترى هذا ما كان ينتظر من المجلس ؟.
لم يبخل العراق ولا شعبه في منح اعلى المرتبات والامتيازات لاعضاء مجلس النواب ومع ذلك ما يزال شعب العراق يجهل اغلبية اسماء اعضاء مجلسهم الذي ان حضروا اكتفوا بالسكوت والاختباء وراء الرؤوس والمقاعد النيابية وتركوا الحديث لمن يسعى لابراز مواجعه او لمن يشعر فعلا بمرارة اتجاه ما يجري في البلاد .
في بلد قرر ان ينتهج طريق الديمقراطية يتوجب على كل مؤسسة فيه وعلى كل من انيطت اليه مسؤولية ان يأخذ دوره الايجابي ويكون وجوده في ساحة العمل وليس خارجها .. فالعراق ما يزال يزخر بكنوز الحكمة والعقل الرشيد ولا يوجد مبرر لما يقال بأن العراق بحاجة الى استيراد للعقول الرشيدة ايضا بعد ان استوردنا الوقود والماء من دول الجوار في حين ان بلادنا تزخر بهاتين الثروتين .