على الرغم من تسجيل أكثر من 467 ألف أسرة عراقية تعيلها النساء بموجب إحصاءات وزارة العمل والشؤون الاجتماعية العراقية، إلا أن العدد الحقيقي أكبر بكثير مما هو مذكور في بيانات الوزارة التي تقول، هي نفسها، إن هناك آلافاً أخرى من النساء المعيلات تقفن في طابور انتظار التسجيل ضمن رواتب الرعاية الاجتماعية.
هذه الأعداد، التي ذكرتها الوزارة في بيان لها خلال شهر مايو الحالي، تعبر بحسب الباحثة الاجتماعية ابتسام العبيدي عن "واقع حال العراق الذي مر بحروب عديدة بدءاً من الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) ومروراً بحرب الخليج الثانية، ثم أحداث العام 2003 وصولاً إلى الحرب على الإرهاب التي خلفت المزيد من الأرامل والأيتام وخصوصاً في المدن التي اجتاحها داعش مثل الموصل، والذين لا يعرف أحد أعدادهم الحقيقة حتى الآن لغياب الإحصاء الدقيق".
لكن الحروب لوحدها، كما تقول الباحثة لـ"ارفع صوتك"، "ليست السبب الوحيد في زيادة أعداد النساء المعيلات، فلدينا حالات طلاق وصلت إلى 35% كما أعلن مجلس القضاء الأعلى، أغلبها بسبب الزواج المبكر والوضع الاقتصادي المتردي"، في ظل "مجتمع يؤمن بالزواج المبكر ويحيط المرأة بعادات وتقاليد تمنعها من الخروج إلى سوق العمل".
والأمر أكثر صعوبة، كما تشير الباحثة، "بالنسبة للأرملة والمطلقة التي سرعان ما تتحول إلى رقم ضمن رواتب الرعاية. وبالنتيجة، لا تحصل هي وأطفالها على ما يكفي للعيش خارج خط الفقر".
حين يتحول الانكسار إلى إرادة
في يوم تحرير الموصل وقفت مهية دهام يوسف المعروفة وسط مجتمعها بـ"أم عماد" على أنقاض منزلها المدمر، لتستخرج جثة ابنها بعد إطلاق عناصر داعش قذائف الهاون على بيتها. وأمام صدمة فقدان الابن الثاني للعائلة خلال تلك الحرب، أقعد المرض زوجها عن العمل لتجد نفسها "أمام تحد جديد فإما أن أصمد وأنتشل العائلة من صدمتها، أو تسقط العائلة بأكملها في قبضة العوز" كما تقول أم عماد لـ"ارفع صوتك".
وتضيف: "لم أكن لوحدي في هذا الموقف، فكثير من نساء الموصل وجدن أنفسهن في المكان ذاته بعد حرب التحرير". هذا قادها إلى التفكير: "ما الذي يمكن أن أعمله أنا ونساء أخريات من الموصل للوقوف على أقدامنا؟. ولم نجد أمامنا إجابة سوى المهنة التي تجيدها أغلب نساء الموصل وهي الطبخ".
بدأ مشروع أم عماد لاحتواء الأرامل والمطلقات في المدينة. "من مطبخي ومع أرملتين من ذات منطقتي. أنشأنا مشغلا لتحضير الطعام. في البداية كان الانطلاق صعباً فالمجتمع بأكمله متضرر من جهة وغير متقبل لفكرة عمل المرأة من جهة أخرى. فبدأنا بأكلات تراثية بسيطة مثل الكبة والعروك الموصلية، ولم نتوفق كثيراً إلا أننا فكرنا بطريقة لنساعد باقي النساء".
وتوضح أم عماد: "لأن المدينة كانت خارجة لتوها من حرب، فكرنا بجمع تبرعات لتوزيع الأكل على المحتاجين. وفعلاً تبرع أبناء المدينة كل حسب قدرته وبدأنا ننتج ونوزع على الفقراء. في ذلك الوقت رفضت بعض النساء اللواتي بقين بلا معيل أخذ المعونات وطلبن بدلاً من ذلك توفير فرص عمل".
ومن هناك، تقول السيدة الموصلية، "بدأ العمل الحقيقي وأنشأنا صفحة على مواقع التواصل، وحصلنا على منحة من مؤسسات ترعى مثل هذه المبادرات وأخذت الناس تعرفنا أكثر". واليوم تعمل في المشغل "أربعون امرأة أغلبهن أرامل وبعضهن مطلقات لديهن أطفال ولم يتمكنن من الحصول على فرص عمل لأن المجتمع العراقي عموماً والموصلي بشكل خاص يرفض عمل المرأة بل ويعرقل مسيرتها أحيانا".
بالإضافة إلى الأرامل والمطلقات "تعمل في المشغل عشر فتيات ينتمين إلى عوائل متعففة لديهن طموح بإكمال دراستهن منهن فتاة وصلت إلى مرحلة الماجستير".
المطلقة "فاشلة" والأرملة "تستحق الشفقة"!
يتعامل المجتمع، كما تقول أم عماد، "بقسوة مع المطلقة وينظر لها على أنها إنسانة فاشلة ويرفض الأهل خروجها للعمل أو الدراسة لتحقيق ذاتها وإعالة أطفالها ويبدو المجتمع وكأنه يعاقبها عقاباً جماعياً". وكأنها "ارتكبت عاراً حين قررت الانفصال ورفض الحياة تحت ظل التعنيف أو الاضطهاد والخيانة وعدم الإنفاق وغيرها من المسائل التي تعتبر الأسباب التقليدية لطلب الزوجة الطلاق".
وفي الوقت الذي يقسو فيه المجتمع على المطلقة، "يتعامل مع الأرملة وكأنها شخصية تستحق الشفقة أو غير قادرة على النهوض بأعباء عائلتها". وهي نظرة "ترفضها أغلب النساء وتفضل إعالة العائلة والعمل. لكن، تبقى بكل الأحوال مشكلة التقاليد التي لا تسمح للمرأة إلا بفرص عمل محددة لا يمكنها الخروج عن إطارها"، تقول أم عماد.
وتضيف أنه ومع وضع الحرب التي عاشتها مدينة الموصل "وجدت آلاف النساء أنفسهن في موقف لا يحسدن عليه. فلدينا الكثير من النساء يقمن بإعالة عائلاتهن إما بسبب فقدان الزوج سواء بالوفاة أو بالإصابة وعدم القدرة على العمل، أو الطلاق نتيجة الوضع الاقتصادي المتردي والمشاكل العائلية".
مكارم هشام من هؤلاء هؤلاء النساء. وهي كما تصف نفسها "أول عاملة توصيل في مدينة الموصل".
تقول لـ"ارفع صوتك": "المجتمع الموصلي محافظ ولا يفضل أن تعمل المرأة في مجالات معروف عنها أنها للرجال فقط، وينظرون باستغراب إلى عملي في توصيل الطلبات إلى المنازل".
بالمقابل تقول مكارم بنبرة تفاؤل أنها "تعيل أسرتها بهذا العمل وتشعر بالفخر". فظروف الموصل بعد التحرير "اختلفت بشكل كبير فقد كانت المرأة مكبوتة خلال احتلال داعش للمدينة، أما اليوم فتغيرت الكثير من الأشياء في الموصل من ضمنها النظرة لعمل المرأة التي حاول المتشددون خنقها بكل الطرق لكننا اليوم تمكنا من إثبات ذاتنا والخروج للعمل بمختلف المجالات".
معاناة يفاقمها قانون الأحوال الشخصية
فقدت أم بهاء زوجها في الحرب على داعش. لكنها، ليست أرملة ولا مطلقة. فزوجها اختفى بعد أن بقي في المنزل، بينما هربت هي والأطفال من المدينة، وحين عادت كان البيت قد تحول إلى ركام ولم تتمكن من العثور على والد أطفالها.
تقول لـ"ارفع صوتك": "بعد تحرير الموصل كان الوضع الاقتصادي صعبا جداً. فلم أجد معيلاً لي ولأبنائي سواء من عائلة زوجي أو عائلتي. وعشت في ظل ظروف قاهرة ولم أعرف ماذا يمكن أن أفعل حينها بعد أن تخلى عني الجميع".
ومع عدم امتلاكها لأي مؤهلات "لجأت إلى الطبخ وهو مهنة تجيدها أغلب نساء الموصل، فتواصلت مع أم عماد صاحبة مشغل لصنع الطعام. طلبت مني السكن مؤقتا في نفس المشغل وتدربت على العمل حتى أصبحت رئيس طباخين، وتمكنت من تأجير بيت صغير، وأطفالي اليوم في المدارس".
في بداية أزمتها، تستدرك أم بهاء: "لم أكن أظن أني أملك تلك القوة للعمل والعيش وتوفير ما أعيل به عائلتي. لكن، اليوم أشعر بأني قوية ومستقلة وصاحبة قرار".
ورغم الانفتاح النسبي للمجتمع الموصلي :"هناك منغصات كثيرة في حياة أغلب الأرامل والمطلقات. فالمجتمع يضع أمامها العديد من القيود والقانون يفعل الشيء نفسه. فنحن رغم إعالتنا عوائلنا نواجه معوقات اجتماعية وقانونية متعددة"، تقول أم بهاء.
وتوضح: "عند إجراءات إصدار أوراق ثبوتية للأطفال، أو في حال الرغبة بالسفر، فإن القانون يضع الكثير من الشروط وعلينا اللجوء إلى المحكمة وهي أمور تشكل عائقاً إضافياً في حياتنا نتمنى أن يتم إعادة النظر فيها" كما تقول أم بهاء.
الولاية الجبرية للأب
يقول المحامي حسين ماجد لـ"ارفع صوتك" :"هناك دعاوى كثيرة تقام في محاكم الأحوال الشخصية العراقية تقيمها أرامل ومطلقات وزوجات مفقودين تتعلق باستخراج الوثائق الثبوتية للأطفال القاصرين من ضمنها إصدار جوازات السفر". يعود السبب في ذلك إلى أن "القانون العراقي أعطى الولاية الجبرية للأب فلا يمكن للأم استخراج الوثائق وخصوصاً جواز سفر للطفل إلا في حالات معينة مثل أن يكون الأب مفقوداً او مجهول محل الإقامة أو مسافراً خارج البلد أو محكوماً بالسجن".
وتلجأ الأم في تلك الحالات، "إلى محاكم الأحوال الشخصية في حال احتياجها إلى إصدار أوراق ثبوتية للطفل الذكر أو الأنثى، وبشكل خاص في حالات مرافقة الطفل للعلاج أو الدراسة خارج العراق. وهي من ضمن اجراءات أخرى تتعلق بالحصول على موافقة لإصدار مستمسكات رسمية أو جواز سفر".
ويوضح: "إذا كانت الأم مطلقة أو متزوجة ولكنها على خلاف مع الزوج، فعليها إقامة دعوى تأييد حضانة بهدف مراجعة دوائر الدولة لأي أمر رسمي يتعلق بأطفالها".
أما الأرملة، "فتقوم بإصدار قسام وحجة وصاية حتى تكون وصية على أطفالها، وفي حال كان الزوج مفقوداً ولا يعلم أحد مكانه، فتحتاج المرأة إلى إصدار حجة حجر و قيمومة" يقول المحامي.
ويضيف أنه "في حالة عدم وجود الأب لأي سبب كان، تراجع الأم محكمة الأحوال الشخصية وتقدم طلباً بإصدار حجة وصاية مؤقتة لغرض مراجعة الدوائر الرسمية للحصول على الوثائق".