جوزيف ناي ونظرية القوة الناعمة
مصطلح «القوة الناعمة»:
معظم المصطلحات، التي نستخدمها في كتاباتنا وأحاديثنا، مثيرة للجدل من حيث منشأها وظهورها لأول مرة وتعريفها وفحواها الدقيق، ناهيك عن أول من استخدمها في كتاباته.
أما مصطلح «القوة الناعمة» فإن الكل يعترف بأن المنظّر السياسي والمحلل الأستراتيجي « الأميركي «جوزيف ناي» هو أول من أستخدمه ضمن كتابه « وثبة نحو القيادة Bound to Lead « الصادر عام 1990، ثم أعاد استخدامه في كتابه « مفارقة القوة الأميركية The Paradox of American Power « عام 2002، حيث وضعه كعنوان فرعي صغير لفصل قصير شمل أربع صفحات، وإن كان قد استخدم المصطلح في أكثر من مكان في كتابه هذا.
ثم طوّر ناي الأفكار الواردة في كتاباته السابقة وتوسع فيها، وأصدر كتابه الشهير « القوة الناعمة Soft Power » عام 2004 وهو كتاب بالغ الأهمية والجدة، ينم عن تألق فكري وعمق تحليلي، قلما نجدهما عند منظري «علم السياسة» الآخرين.
وقد تصدر الكتاب فور صدوره قائمة اكثر الكتب مبيعاً في الولايات المتحدة الأميركية، واصبح ما يسمى بكتاب المنضدة، الذي لا يفارق المحللين السياسيين ومصدراً لا غنى عنه لكل المهتمين بأتجاهات السياسة العالمية والتغييرات في جوهر وتركيب السلطة المعاصرة في جوانبها المتعددة وخاصة، في السياسة، الأقتصاد والثقافة.
ويعرّف ناي القوة الناعمة بأنها « القدرة على تحقيق الاهداف المنشودة عن طريق الجاذبية أو السحر اوالأقناع بدل الأرغام أو دفع الأموال».
اصبح مفهوم «القوة الناعمة» اليوم جزءاً لا يتجزأ من لغة القادة السياسيين ومنظري علم السياسة والكتاب والإعلاميين، والمثقفين عموماً في كافة أنحاء العالم.
من هو جوزيف ناي؟
جوزيف ناي (ولد عام 1937)، أستاذ في جامعة هارفارد، عضو الأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم، مدير سابق لمعهد بحوث مشاكل الأمن الدولي، كان رئيساً للمعهد العالمي للبحوث الأستراتيجية، مثل الولايات المتحدة الأميركية في لجنة قضايا نزع السلاح التابعة للأمم المتحدة.
شغل مناصب رسمية عليا، فقد كان بين عامي (1977- 1979) مساعداً لنائب وزير الخارجية لقضايا الأمن والعلوم والتكنولوجيا، ورئيساً لفريق الأمن القومي لقضايا نزع السلاح النووي. وبين عامي (1993– 1994) رئيساً للمجلس القومي للمخابرات، كما شغل بين عامي (1994 – 1995) منصب مساعد وزير الدفاع لقضايا الأمن الدولي. اصبح عمل «ناي» السياسي والدبلوماسي وخبرته العملية معينا لا ينضب لكتاباته النظرية حول قضايا السياسة الداخلية والخارجية للولايات المتحدة الأميركية والعلاقات الدولية، والتي تنشر على صفحات «The Washington Post» و»New York Times» و»International Herald Tribune». وهو عضو هيئة تحرير عدة مجلات متخصصة في السياسة الخارجية، منها «Foreign Policy» و»International Security» كما أن القنوات النلفزيونية الأميركية ,CNN CBS, ABC وغيرها, تقوم غالباً بأجراء مقابلات معه حول القضايا الدولية الملحة.
في عام 2005 تم اختياره كواحد من افضل عشرة مفكرين في العالم في مجال العلاقات الدولية. ويمكن القول أن ناي هو المنظر الرئيسي للقوة الناعمة.
مفهوم القوة الناعمة :
تعني القوة الناعمة أن تكون للدولة قوة روحية ومعنوية من خلال ما تجسده من أفكار ومبادئ وأخلاق ومن خلال الدعم الذي تقدمه في مجالات حقوق الإنسان والثقافة والفن، مما يؤدي بالآخرين إلى احترام هذا الأسلوب والإعجاب به ثم اتباع مصادره, وغالبا مايطلق هذا المصطلح على وسائل الإعلام الموجهة أو مايسمى بالإعلام المكرس لخدمة فكر ما .
القوة الناعمة اداة فعالة جدا لتحقيق مصالح الدولة – اي دولة – في الخارج وهذا يلبي مطلب العصر، حيث التنافس على المصالح ما زال قائما في العالم، ولكن طرق العنف الخشنة مثل استخدام القوة العسكرية او التهديد بها او الحصار الأقتصادي والأبتزاز... الخ على خلاف الأزمنة السابقة، اصبحت سيئة في نظر الرأي العام في كل مكان..
وموارد القوة الناعمة لأي بلد هي ثقافته، اذا كانت تتمتع بالقدر الأدنى من الجاذبية وقيمه السياسية عندما يطبقها بأخلاص داخليا وخارجيا، اضافة الى السياسة الخارجية.
وعلى هذا النحو فإن الحديث لا يدور حول إرغام الآخرين على العمل لصالحك ولكن تحفيزهم لتأييد افعالك طوعا لانها تستجيب لمصالحهم ايضا واقناعهم بالتوجه اليك.
القوة الناعمة خلال الحرب الباردة :
القوة الناعمة ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، كأداة للسياسة الخارجية قبل أن تتشكل كنظرية في علم السياسة على يد «جوزيف ناي». وكانت لهذه الاداة علاقة مباشرة بازدياد تأثير وسائل الإتصال الجماهيري واشتداد الصراع الأيديولوجي بين المعسكرين الغربي والأشتراكي، رغم أن الموارد المولدة للقوة الناعمة في هذا الصراع كانت مختلفة. المنظومة الإشتراكية كانت تمتلك قوة معنوية هائلة في تأثيرها وفعاليتها، متمثلة في النظرية الماركسية والنظام غير الطبقي والقضاء على الفقر والبطالة والمساواة التامة بين الرجل والمرأة والتنمية بوتائر متسارعة وغيرها، اما النظام الرأسمالي فقد كان يمثل الديمقراطية والرخاء الإقتصادي والحرية الشخصية وحرية التعبير وغيرها من السمات، التي تتصف بها الأنظمة الليبرالية الغربية، وهي سمات كانت وما زالت تشكل قوة جذب هائلة لشعوب أوروبا الشرقية رغم تفكك المنظومة الإشتراكية.
في حرب فيتنام كانت لاميركا قوة ضخمة وكان القادة الاميركان يعتقدون أنهم سيحققون النصر بالقوة العسكرية وحدها ولكن الواقع انهم لم يستطيعوا تحقيق النصر وهذا ينطبق على الشرق الاوسط اليوم. لأن السياق الذي يتستخدم فيه القوة الصلبة، يتغير باستمرار ومدى فعالية القوة تعتمد دائماً على السياق النظام السوري يمتلك قوة صلبة كبيرة (الجيش والشبيحة وحزب الله والمقاتلين العراقيين) ولكنه يفقد تأثيره داخل سوريا وخارجها يوماً بعد آخر لاقتصاره على نوع واحد فقط من القوى ولا تأثير لقوته الناعمة على أغلبية السكان لأن النظام فقد جاذبيته منذ زمن طويل.
صورة الدولة في الخارج :
تتشكل صورة الدولة من مجموعة كبيرة من العناصر، التي تكون عادة مرتبطة بعوامل وطنية وتأريخية واعلامية وثقافية.
وبطبيعة الحال فإن واقع الدولة ينعكس على صورتها في اذهان مواطني الدول الأخرى. البلد اللاديمقراطي ذو الأقتصاد المتخلف لا يمكن ان يعكس صورة مزدهرة، حتى لو أستأجرت أغلى وكالات العلاقات العامة لتلميع صورتها.
الديمقراطية كقوة ناعمة لا يمكن استنباتها بشكل مصطنع بمعزل عن الواقع. ربما يكون ذلك ممكنا الى حد ما في الدول المنغلقة. ولكن مثل هذه الدول في العالم لا يزيد عددها اليوم على عدد اصابع اليدين وحتى هذه الدول واقعة تحت ضغط اعلامي شديد وتحاول حجب شعوبها عن العالم الخارجي.
القوة الناعمة للدول تتمثل في المجتمع المدني والبزنس والإعلام وفي مواطني الدولة انفسهم.. العديد من الدول تحاول تحسين صورتها ولكن الدولة غير قادرة على انجاز هذه المهمة لوحدها.
القوة الناعمة في الغالب ليس لها علاقة مباشرة بحجم الدولة وقوتها العسكرية والاقتصادية وايديولوجيتها، يمكن ان تكون الدولة رائدة في متوسط عمر مواطنيها او بمستوى الرواتب والاجور والتقاعد او معدل دخل الفرد او بمستوى التعليم او الضمان الصحي او الإستقرار لاطول فترة بلا حروب او كوارث ومؤشرات اخرى كثيرة تكوّن هيبة وسمعة البلد في عيون الشعوب الاخرى. وغالبا ما نرى ان الدول الصغيرة تتقدم في كثير من المؤشرات على دول كبيرة.
لا شك ان الإتحاد الأوروبي كمجموعة دول متقدمة حضاريا، لديها أكبر قوة جاذبة في العالم بديمقراطيتها والقيم التي تهتدي بها وحماية حقوق الأنسان فيها ورخائها الإقتصادي .
ويرى منظرو القوة الناعمة، ان دولة او اكثر من دول الإتحاد الأوروبي تتفوق على الولايات المتحدة في قوتها الناعمة وتحتل المرتبة الأولى في العالم في مجال واحد او اكثر وكالآتي:
فرنسا - في عدد الحاصلين على جوائز نوبل في الآداب.
بريطانيا – من حيث رغبة المهاجرين في اللجوء اليها، تليها ألمانيا.
فرنسا، ألمانيا، ايطاليا، بريطانيا، في معدل أعمار مواطنيها.
معظم دول الإتحاد الأوروبي تقدم مساعدات الى الدول النامية بنسبة أعلى من الولايات المتحدة، قياسا الى الدخل القومي. ولكل دولة جاذبيتها الخاصة للآخرين. ولايمكن القول بوجود قواسم مشتركة بينها. كيف يمكن ان نعمم على كل الدول، أهرامات مصر أو الموضة الإيطالية أو الشراب الفرنسي أو السيارات الألمانية أو كرة القدم البريطانية أو الجبن السويسري أو البيرة البلجيكية، أو الأليزيه، أو بك بن؟ التفوق في مجال معين يجعل من دولة ما مشوقة وجاذبة للآخرين ويشكل قوتها الناعمة الخاصة.
القوة الكردية الناعمة :
يمتلك اقليم كردستان قوة ناعمة، روحية ومعنوية هائلة، وهي قوة بكر لم تستخدم عمليا لحد الآن. قبل كل شيء نحن نتحدث هنا عن التسامح السياسي والديني السائدين في المجتمع الكردستاني،و النهضة الحضارية للأقليم خلال فترة وجيزة والطبيعة الكردستانية الساحرة. صحيح أن مئات الآلاف من المواطنين العراقيين يتوجهون الى الأقليم سنويا بسبب تردي الأوضاع الأمنية في بقية أنحاء العراق، ولكن على الجهات المسؤولة التفكير جدياً في وضع خطط لديمومة هذا التدفق البشري والعمل على الزيادة المطردة في زخمه في المستقبل، حتى عندما تتحسن الأوضاع الأمنية في وسط وجنوب العراق.
وعلى وزارة الثقافة والشباب زيادة الإهتمام بالمواقع الأثرية وترميمها وابرازها على نحو لائق والتركيز على الفنون الكردية عن طريق تشكيل الفرق الفتية الغنائية والإستعراضية وإقامة المهرجانات المكرسة لمختلف ألوان الفلكلور الشعبي وشتى اشكال الفن الكردي المعاصر، وانشاء ستوديوهات لإنتاج الأفلام السينمائية الطويلة والوثائقية وإقامة اسابيع للثقافة والفنون الكردية في شتى بلدان العالم.
ولا يفوتني أن اذكر هنا بأن مشاركة الفنانة برواز حسين في «آراب آيدل» كانت لها تأثير ايجابي في البلاد العربية أقوى بكثير من أنشطة وزارة الثقافة والشباب وهيئة السياحة والجهات المعنية بالعلاقات العامة. وهذا مجرد مثل صغير، فكيف تكون النتيجة يا ترى اذا ركزت الجهات المذكورة جهودها على تعريف العالم بالثقافة والفنون الكردية على مستوى فني رفيع ومضمون انساني يمس شغاف القلوب فى كل مكان من قريتنا العالمية.