حزمة تحديات تنتظر البطريرك الجديد للشعب الكلداني
مقدمة
أزعم ان الأسم العربي مقرون بشدة مع الإسلام وكأنهما صنوان لا يفترقان رغم وجود اختلاف شاسع بين المصطلحين ، فالعرب ليسوا جميعاً مسلمين ولا المسلمين جميعهم عرب ، ومع ذلك يصار الى إدماجهم في معادلة واحدة في كثير من المناسبات رغم ان العروبة هي قبل مجئ الإسلام . وهذا ينطبق الى حد كبير الى الشعب الكلداني فثمة رؤية عامة تبين ارتباط اسم القومية الكلدانية مع المسيحية او الكنيسة المسيحية او مع المذهب الكنسي الكاثوليكي ، في حين ليس كل المسيحيين كلدان وليس كل الكلدان مسيحيين ، كما ان الأمة الكلدانية كانت قبل مجئ السيد المسيح وقبل المذاهب المسيحية بطبيعة الحال ، ومع ذلك يصار الى دمجهم في معادلة واحدة في مواقف كثيرة .
فذلكة تاريخية موجزة
نبدأ حديثنا بالشان الكنسي بأواخر العهد العثماني ونحددها بالقرنين 18 و19 وبداية القرن 20 حيث سقوط الأمبراطورية العثمانية ، وقد اعتمدت هذه الأمبراطورية المترامية الأطراف في حل قضاياها الأثنية والدينية والقومية على نظام عرف بنظام الملل(الأب فينسنزو بودجي ، ص655 من كتاب المسيحية عبر تاريخها في المشرق)* وفي ظل هذا النظام وبتأثير ضغط الدول الأوروبية انتعشت الأقليات في تلك الدولة .
بالرغم من انتشار مختلف الكنائس في الدولة العثمانية إلا ان نظام الملل لم يشمل الجميع حتى اوائل القرن التاسع عشر ، إذ لم يكن هنالك ملل غير إسلامية معترف بها سوى ثلاث وهي الأرمنية واليونانية واليهودية ، لكن بضغط من القوى الأوروبية كما مر قبل قليل ، فقد حصل اعتراف الباب العالي رسمياً بالكيان الخاص للبطريركيات ، فكان بالنسبة للارمن الكاثوليك سنة 1830، والأرمن البروتستانت سنة 1850 وبالنسبة للكاثوليك الكلدان سنة 1861 والسريان الكاثوليك 1866 والروم الكاثوليك سنة 1848 م .. ( كاترين مايور ، المصدر السابق ص 754 ) وتضيف الكاتبة في الصفحة التالية تقول :
إن الكلدانيين بأصولهم الدينية النسطورية بقوا طويلاً تتجاذبهم بطريركيتان : بطريركية ديار بكر وبطريركية بابل ، وهما تمثلان سلالتين من البطاركة ، ولم تتوحد السلطة الكنسية الكلدانية إلا في عام 1828 ، ويلاحظ في ذلك الوقت انه بدأ عدد الكاثوليك الكلدانيين يتفوق على عدد النساطرة .
بالتمعن في مسيرة البطريركية الكاثوليكية للشعب الكلداني سنلاحظ ان آخر بطريرك في العهد العثماني كان مار عمانوئيل الثاني توما (1900 ـ 1947 ) الذي نال الفرمان السلطاني عام 1901 واشتهر بمواقفه الإنسانية اثناء الحرب ، كما كان له مواقف وطنية مشهودة اثناء تأسيس الدولة العراقية ، ومسألة عائدية ولاية الموصل ، إذ حث شعبه الكلداني والمسيحيين كافة على التصويت لصالح عائديتها ( ولاية الموصل ) للدولة العراقية الحديثة ، رغم وجود آغوات ووجهاء عرب من الموصل اقترعوا لصالح عائديتها لتركيا ، ونتيجة هذا الموقف الوطني للبطريرك قدرت الحكومة العراقية موقفه الوطني واعترفت بفضله وعينته عضواً في مجلس الأعيان ، فكان للكلدان عضو ثابت في هذا المجلس المتكون من 20 عضواً .
لقد سجل التاريخ لهذا البطريرك مواقف مشرفة منها يوم تدخل في إخراج القوش من محنتها عام 1933 حين تم تطويقها لاجتياحها من قبل القوات الحكومية والعشائر بغية تسليم اللاجئين الآثوريين ، وأجرى اتصالاته السريعة بمصادر صنع القرار في ذلك الوقت ، وحصل من الحكومة العراقية قراراً ينص على إنهاء الحصار ( فايدوس ) ، وكبح جماح تلك الأزمة التي كانت تؤول نحو كارثة رهيبة . هنا أقول لمن ينكر هذا الفعل البطولي من ألقوش الكلدانية ، لو كانت آثورية لما طلب اليهم إخراج الآثوريين ، فثمة فرمان بإبادة الآثوريين ، ولم يطبق الفرمان بحق تلسقف او القوش او باطنايا او باقوفا لسبب بسيط جداً وهو ان هذه بلدات كلدانية وليست آثورية .
ونبقى في سجل البطاركة حيث اصبح البطريرك مار يوسف السابع غنيمة من 1947 الى 1958 ، وكان عضواً في مجلس الأعيان من سنة 1951 الى يوم وفاته . ليعقبه البطريرك الألقوشي الكلداني مار بولس الثاني شيخو ( 1958 ـ 1989 ) المعروف بمواقفه الشجاعة في مقارعة رجال الحكم ، ثم كان روفائيل بيدوايد ( 1989 ـ 2003 ) واخيراً البطريرك الكلداني الشجاع عمانوئيل الثالث دلي الذي اعلن استقالته مؤخراً في الفاتيكان ، ومن المقرر أن يجتمع السينودس الكلداني يوم 28/1/2013 لانتخاب خلفاً له .
بعد ذلك نلاحظ
من متابعة مسيرة الشعب الكلداني تحت قيادة هؤلاء البطاركة نلاحظ ان الظروف المحيطة كان لها تأثيرها على المسيرة وهذا شئ طبيعي ، فالظروف السياسية والأقتصادية والأجتماعية في كل مرحلة تركت بصماتها على مسيرة الكنيسة وعلى رأس القيادة في ذروة الهرم التنظيمي ، لكن كمحصلة نهائية كان الشعب الكلداني كمكون مسيحي رئيسي في العراق قد اخذ مكانته التي يستحقها في العملية السياسية إن كان في العهد الملكي او في العهود اللاحقة الى عام 2003م . حينما سقط النظام وجرى بناء نظام حكم اساسه الأنتماءات الطائفية في البلد ، وجرى ما لم يكن في الحسبان بالنسبة الى شعبنا الكلداني ، فمن ناحية طالته العمليات الإرهابية ، ثم كانت عملية تهميشه في العملية السياسية والقومية وسلب حقوقه في الثروة الوطنية ، إن كان على نطاق العراق او في مجال اقليم كوردستان ، وأصبح شعبنا وكنيستنا تابعين خاضعين لنفوذ احزاب قومية آشورية متنفذة قريبة من دوائر صنع القرار في العراق وفي اقليم كوردستان والى اليوم .
وتجابه مؤسسة الكنيسة الكاثوليكية الكلدانية في العراق اليوم جملة تحديات ، ولكي تعود شخصيتها والمكانة اللائقة المحترمة للكنيسة ولشعبها الكلداني الذي يمثل القومية الثالثة في خارطة القوميات العراقية ، فإن البطريرك الجديد يتحمل مسؤولية تاريخية كبيرة فأمامه جملة تحديات ينبغي ان يضطلع بها وحينما نكتب فإن غايتنا هي خدمة وتقوية الكنيسة وشعبها .
وفي هذا المقام لا أرمي الى الخوض في المجال اللاهوتي للكنيسة والسينودس وانتخاب البطريرك في 28 / 01 / 2013 ، فهذا من اختصاص المطارنة الأجلاء والآباء الروحانيين ولا نريد التدخل في هذه الأمور ، لكن نؤكد على دور الكنيسة في الجوانب الأخرى للحياة والتي لها اهمية مصيرية في وجود الكنيسة وشعبها الكلداني في وطنه العراقي ، وفي كل الأحوال لايمكن للكنيسة وللبطريرك المنتخب القادم ان ينأى بنفسه عن هموم شعبه ، فهذه الهموم لا تقتصر على البعد الديني فحسب بل ثمة ابعاد اخرى مهمة في حياة شعبنا كمسالة الهجرة والحقوق السياسية وحصة المكون الكلداني بالثروة الوطنية والمناصب الحكومية وحقوق التمثيل في البرلمانين العراقي والكوردستاني وذلك بطلب لوضع آلية لكوتا كلدانية والمكونات المسيحية الأخرى . ونشير الى عدد من الملفات التي نرى انها ستواجه البطريرك الكلداني المنتخب :
اولاً : ــ
للوهلة الأولى تكون مشكلة الهجرة اكبر تحدي يواجه البطريرك الكلداني الجديد فهذا الشعب انتشر في اكثر من 20 دولة ، ومع هذا الأنتشار تشعبت مهام الكنيسة الكاثوليكية الكلدانية الى دول المهجر التي يقطن فيها شعبنا الكلداني ، وتأسست من اجل ذلك ابرشيات متعددة . ومن هنا ينبغي وضع آلية جديدة لإدارة هذا التوسع وهنا اشير الى مقترح الأخ يوحنا بيداويد في مقاله الموسوم : مهمات تنتظر مجلس اساقفة الكلدان و بطريركهم الجديد يقول :
ينبغي ( تأسيس سكرتارية للكرسي البطريركي بمستلزمات عصرية، من موظفين مهنيين ومسؤول مباشر يكون تابع للكرسي البطريركي ، عمل هذه المؤسسة يكون توثيق كل السجلات والوثائق و والبيانات والتقارير والمراجعات والخطابات المتبادلة داخل الكنيسة او الكنائس الكلدانية في العالم التي تسهل عمل الكنيسة الكلدانية وكذلك توثق كل ما يجري فيها امام القانون والمؤمنين.) انتهى الأقتباس
ثانياً : ــ
كتب الأخوة الكتاب عن مؤسسة الكنيسة وشخصوا السلبيات ، وتكميلاً للفقرة اولاً السابقة فقبل ان تلتفت الكنيسة الى ما حولها من المشاكل عليها البداية بالهيكلية الداخلية للكنيسة المعروفة ، تاريخياً ، بمركزيتها الفولاذية، وكانت هذه المركزية مصدر قوة للكنيسة لتصمد بوجه المصائب والنكبات التي تواترت على الكنيسة عبر تاريخها الطويل ، ويقول الأب منصور المخلصي في ( كتابه الكنيسة عبر التاريخ ص 223 ) :
(.. بفضل التنظيم القوي وقفت الكنيسة الكلدانيـــــــــــــــة صامدة في وجه كارثة الإبادة الجماعية التي أصابت الكنيستين الأرمنية والآثورية في بداية القرن العشرين في تركيا ، راح ضحيتها ذبح نصف اعضائهم ) انتهى الأقتباس .
واليوم فقدت الكنيسة الكاثوليكية الكلدانية في العراق ذلك النظام الفولاذي المتسم بالمركزية والطاعة ، واصبحت عبارة عن استقطابات مناطقية تحت تأثيرات جيوسياسية ، مما مهد لضعف العلاقة بين المركز والأبرشيات ،وبالتالي تسبب في ضعف المركزية المؤسساتية وسعي الأبرشيات لنيل قسط كبير من الحكم الذاتي إن صح التعبير .
ثالثاً : ـ
بعد الأنتهاء من عملية الأنتخاب ، ينبغي ان يسارع البطريرك المنتخب على تهيئة الأمور بغية عقد سنهودس لحل كل المشاكل الداخلية في الكنيسة ، وتحديد موقف الكنيسة من المكونات المسيحية الأخرى وبناء علاقات ندية معها دون الأنزلاق الى تخوم الخضوع ، فالكنيسة يجب ان يكون لها شخصيتها وكرامتها في الوطن العراقي ولا تقبل بالتبعية للاحزاب القومية الآشورية المقربين من دوائر صنع القرار او غيرها من الأحزاب ، ونحن نحترم هذه الأحزاب بحدود الأحترام المتبادل وليس الخضوع او التبعية لهم فيجب ان تتسم الحدود بيننا بمنظومة الاحترام المتبادل دول إقصاء الطرف الكلداني . وهنا يقول الأخ نزار ملاخا في مقاله الموسوم :
ماذا نريد وكيف نريد الپاطِرْيَرْك القادم ، يقول :
(يهمني في قائد كنيستي أن يكون مؤمناً إيماناً قاطعاً بأنه كلداني الهوية والأصل، مسيحي الديانة، كاثوليكي المذهب، وهذه لا تتعارض مطلقاً مع بعضها البعض ولا مع الثوابت الدينية والوطنية الأخرى.) انتهى الأقتباس
رابعاً : ـ
إن التحدي الذي يجابه الكنيسة بشكل مستمر هو حاجتها المادية ، وينبغي ان يكون للكنيسة تمويل ذاتي من املاكها ومن المتبرعين من المؤمنين والمنظمات الإنسانية، وأن لا تقبل بمساعدات الأحزاب القومية التي تفرض اجندتها على الكنيسة ، فتفرض عليها الإملاءات مما يفقدها استقلالية قرارها ، وهذا ما حصل فعلاً في علاقة الكنيسة والمجلس الشعبي ، فالمساعدات التي كان يجب ان تكون للبطريركية مباشرة ، وصلت الى ابرشيات الكنيسة في قنوات اخرى ولعبت الولاءات دورها بينما كان يجب ان يكون التمويل على شكل مؤسساتي شفاف . ولا شك ان ملف التمويل هو من الملفات المهمة التي ينبغي على البطريرك الجديد القيام به دون إبطاء .
خامساً : ـ
الوقوف الى جانب الشعب الكلداني ومنظماته وأحزابه الكلدانية حين مطالبتهم بالحقوق في وطنهم العراقي ، وهذا ليس تدخلاً في السياسة ، فالبطريرك مار عمانوئيل الثاني توما حث شعبه الكلداني للتصويت لتأسيس الدولة العراقية والى ربط ولاية الموصل بالعراق ، كذلك تدخل في الوقت المناسب بمشكلة الآثوريين حين لجوئهم الى القوش وكان موقفه الفاعل قد انهى تلك المحنة بسلام . إن هذه المواقف وكل من يقف مع شعبه لا يعني انه يتدخل في السياسة ، وأقول إن :
((( انحيازك لشعبك ليس اثماً ))).
سادساً :ـ
معضلة تمثيل العلمانيين في السنودس ، وهي مسألة مهمة لإشراك نخبة من العلمانيين من خارج حلقة الأكليروس في السنودس ، وقد ذهب زميلي الدكتور عامر ملوكا في تساؤله المشروع عبر مقاله الموسوم : هل للعلمانيين دور في انتخاب البطريرك القادم ؟ وورد في المقال :
(.. لابد ان يكون للبطرك الجديد رؤية معاصرة وبرنامج عمل كنسي يقترب من هموم الشعب المؤمن ومشاكله ويبتعد كثيرا عن القوالب الكلاسيكية الجامدة ولابد ان تكون هناك رؤى علمانية في حل الكثير من الاشكالات الكنسية ولن يتحقق ذلك اذا لم يعطي دور للعلمانيين في اختيار رؤوسائهم الكنسييين ) انتهى الأقتباس .
في مسالة اشتراك العلمانيين في السينودس اخبرني احد المطارنة الأجلاء إن اشتراك العلمانين في السينودس وحتى اشتراكهم في التصويت في عملية انتخاب البطريرك هو مذكور في القوانين الكنسية وحول هذا الموضوع ايضاً اشير الى ما كتبه زميلي الدكتور عبد الله رابي في مقاله الموسوم :
للكنيسة الكلدانية الكاثوليكية ، يقول :
الخطوة اللاحقة
( واخيرا ليس هدفي من وضع هذه المقترحات امام السادة الاساقفة الانتقاص من افكارهم وشخصيتهم بقدر اني اهدف الى تبادل الاراء ومنح دور للعلمانيين في ادارة المؤسسة الدينية ،فكلما احترمنا اراء بعضنا كلما نميل الى السلوك الحضاري المعاصر والذي يخدمنا في التكيف والانسجام مع متطلبات العصر الدائمة التغير.) انتتهى الأقتباس
سابعاً : ـ
من الملفات المهمة التي تنتظر البطريرك الجديد هو العمل على إعادة الشخصية والهيبة للكنيسة الكلدانية ، إذ ليس من المعقول ان يفلح رئيس حزب قومي مسيحي في إقصاء مرشح الكنيسة لرئاسة الوقف المسيحي والديانات الأخرى ، وبطريقة كسر العظم ، لكي يصار الى تبديله بمرشح ذلك الحزب ( الحركة الديمقراطية الاشورية ) ولها ينبغي ان يبادر البطريرك المنتخب الى زيارة المسؤولين العراقيين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس اقليم كوردستان ورئيس وزراء اقليم كوردستان ، وكل دوائر صنع القرار في بغداد وأربيل ، ونقله لهم رسالة مفادها ان الشعب الكلداني له شخصيته وكيانه وقوميته وينبغي التعامل معنا بهذا المنطق ولا نقبل بالذوبان في كؤوس الآخرين .
ثامناً : ـ
إكمالاً لما ورد في الفقرة اولاً ينبغي ان تعمل مؤسسة الكنيسة على تعميق الأتصال والتعاون مع شعبها الكلداني والوقوف الى جانب نيله لحقوقه بكل شجاعة ، فالشعب الكلداني هو الوحيد الذي ليس له تمثيل في البرلمان العراقي او الكوردستاني ، والسبب هو الهوة الواسعة بين الشعب الكلداني وأحزابه ومنظماته من جهة وبين الكنيسة من جهة اخرى التي تنأى بنفسها من هموم شعبها ، وهذا يخالف مواقف الكنائس الأخرى التي تقف مع شعبها كالكنائس الأشورية والأرمنية والسريانية .
تاسعاً : ـ
اختلف مع الأب الموقر سرمد يوسف باليوس حيث يكتب مقالاً تحت عنوان :
لا يجب الاعتماد على وضع العراق السياسي في اختيار البطريرك الجديد، انه رجل دين وفقط ! وورد في فقرة من مقاله يقول :
(على البطريرك أن يتذكر أنه رجل دين أولا وأخرا وعليه أن يدخل أفقر بيت وان يحب التعساء المبتلين بمشاكل الدنيا من كل قلبه .. وشعبنا المسيحي لا يطالب البطريرك إلا بواجبه المسيحي والإنساني فقط.) انتهى الأقتباس
كلام جميل بأن على البطريرك ان يدخل افقر بيت وأن يحب التعساء المبتلين بمشاكل الدنيا من كل قلبه .. لكن يا ترى ماذا إذا طلبت السلطات منه ان يعطي صوته للبقاء مع العراق او تركيا ؟ كالحالة التي صوت بها البطريرك مار عمانوئيل الثاني توما للبقاء مع الدولة العراقية ، وهل يستطيع ان ينأى بنفسه المطران الذي هو في عنكاوا عن محيط اقليم كوردستان الذي يعيش فيه ؟
وهل يستطيع البطريرك في بغداد ان ينأى بنفسه عن مشاكل تفجير الكنائس وتشريد شعبه من بيوتهم ، وان يكتفي بالصلوات والمسائل الأنسانية فحسب ؟
أم يترتب عليه ان يتصل بالمسؤولين ويفضح الأرهاب الذي يطال هذا الشعب ؟ هل يسكت البطريرك عن تهميش حقوق شعبه الكلداني في وطنه العراقي ؟ انا لا استطيع تصور ما يذهب اليه الأب الموقر سرمد يوسف باليوس ، علينا ان نكون واقعيين ، ولو راجعنا التاريخ سنلاحظ ان الكنيسة كانت في قلب الحدث اثناء الحكم الساساني والروماني والبيزنطي والأموي والعباسي والمغولي وبصورة اكثر فعالية في العهد العثماني الذي كان يعطي للبطريرك الإدارة الدينية والزمنية لشعبه . عموماً انا لا اتفق مع الأب باليوس ان يكون البطريرك رجل دين فحسب ، اوز بالأحى فان الأوضاع تجبره على ان لا يكون رجل دين فقط .
عاشراً : ـ
اجل ثمة ملفات شائكة تنتظر البطريرك المنتخب منها إصلاح الشأن الداخلي لمؤسسة الكنيسة ، بما يخص الشأن التنظيمي الإداري ، والشأن المالي ، لكي تسود المؤسساتية المتسمة بالشفافية في كل مفاصل الكنيسة ، كما هنالك العمل الشاق في إعادة شخصية الكنيسة ودورها المعروف تاريخياً في الوطن العراقي ، والعمل على توثيق العلاقة بين مؤسسة الكنيسة وشعبها الكلداني ومنظماته المدنية والحزبية ، وهذه ملفات ليست سهلة لكنها ليست مستحيلة إن كان ثمة تعاون وتفاهم بين الكنيسة وشعبها ، وكما قلت في الفقرة السابقة ينبغي الأقتداء بالكنائس الأخرى في العراق .
حادي عشر
لا ادري ما هي صلاحيتي في تقديم هذا المقترح ، وعلى العموم هو مقترح ليس إلا .
من متابعة مسيرة الكنيسة الكاثوليكية الكلدانيــــــة نلاحظ إصرار الآباء الأوائل على الأحتفاظ بطقوسهم ولغتهم وخصوصياتهم الوطنية والقومية والأجتماعية ، ولحد اليوم تحاول الكنيسة الإبقاء على طقسها الكلداني وقوانينها الخاصة ، وقد اعترفت روما بهذه الخصوصية وكان ذلك نتيجة ما حققه البطريرك الكلداني مار يوسف اودو الذي رفع صوته ليرفض تطبيق القانون الغربي على الكنائس الشرقية التي تملك قانوناً خاصاً ( المصدر السابق ص222 ) .
اقول :
كان الكاهن بموجب النظام القديم يتزوح ويخلف بنين وبنات ويبني عائلة ، لكن اليوم نلاحظ الآباء الكهنة قد منعوا من الزواج ، ونحن نعيش في هذا العالم المتسم بالأنفتاح على كل جوانب الحياة ، وربما يكون السبب في تقلص اعداد الكهنة في كنيستنا هو عزوفهم عن الزواج بموجب قوانين الكنسية الكاثوليكية ، ويكون انتقالهم الى الكنيسة النسطورية الآثورية بسبب سماحها لهم في الزواج وتكوين أسرة ، لكن ينبغي ان نعلم ان كنيستنا الكلدانية الشرقية احتفظت بكثير من خصوصياتها ، وكان يجب ان تحتفظ كنيستنا بهذه الخصوصية ، فالكاهن المتزوج يكون اكثر اندماجاً في المجتمع ، إنه يعمل على تكوين عائلة محترمة ، ويبقى له ولعائلته مكانة محترمة في المجتمع ، اعتقد ان الموافقة على زواج القساوسة ينصب في صالح كنيستنا الكاثوليكية الكلدانيــــة . لقد التقيت بكهنة متزوجين وعوائلهم في العراق والأردن وأماكن اخرى من الكنائس الأخرى ، ووجدت فيها حالة مقبولة ومطلوبة اجتماعياً ليكون للقس منزلة اجتماعية محترمة إضافة الى مكانته الروحانية الدينية .
إنه مجرد اقتراح ليس إلا .
د. حبيب تومي / اوسلو في 24 / 12 / 12
ــــــــــــــــــ
*الملة تعني كلمة ( Millet ) في اللغة التركية ، أمة ، والصفة (Milli) تعني قومي اي خاص بأمة او شعب و (Milliyet) تعني قومية اما (Milliyetci) فتترجم الى الفرنسية بكلمة (Nationaliste) اي القومي ، اي المؤمن بالقومية . اشتقت الكلمة التركية (Millet) من الكلمة العربية ملة وجمعها ملل ، ومن الأرجح ألا تكون كلمة ملة من اصل عربي بل تعود بدورها الى الى كلمة (Mella) الآرامية .. للمزيد راجع مثال الأب فينسنزو بودجي ، ص655 من كتاب المسيحية عبر تاريخها في المشرق ( مجلس كنائس الشرق الأوسط ) .