دخان اسود... دخان ابيض
لا اقصد بالدخان الأسود هنا تلك الغازات المنبعثة من المولدات الكهربائية المنزلية التي أخذت مهمة وزارة الكهرباء، بعد ان يأس المواطن من تصديق وعود تحسين أدائها. هذا الدخان الذي يدلل على ضعف الإرادة على تصنيع البلد والمضي في إعادة بنائه على أسس صحيحة، تشيع الأمل عند العراقيين، وتبشرهم ان ثمة في الأفق خير قادما.الدخان الأسود الذي اقصده هو ما يتصاعد في العاصمة بغداد والعديد من المحافظات، جراء التفجيرات الإرهابية التي تنوعت إشكالها. فهذا الدخان ما زال يلبد سماء العراق، وليس هناك في القريب العاجل ما يبشر بتبديده. وكثير من الدلائل تشير الى ان المتوقع هو استمرار العمليات الإرهابية، بعد ان اتبعت "القاعدة" وحلفاؤها إستراتيجية "الانتحاري المجهول"، كما سماها احد المتحدثين باسم المؤسسات الأمنية، في معرض تحذيره من ألأساليب الجديدة للقاعدة، لكن من دون ان يعطي تصورا محددا لإمكانية تفادي جرائم "الانتحاري المجهول" وكيفية ردع المخططين الذين بدا
أنهم يطورون أساليبهم ويكيفونها مع إمكانياتهم.
ويتصاعد أيضا دخان فضائح الفساد الأسود، فملفاته متنوعة ولها مستويات عديدة، ولا احد يعرف من أين تبدأ. لكن الجميع يقر بأنها آفة تنتشر بسرعة فائقة "كالنار في الهشيم"، حيث لم يسلم من الفساد مفصل واحد من مفاصل الدولة. فالصفقات التي تضمن حصة هذا ونسبة ذاك، باتت حديث الشارع. وهناك من يتفنن في إدارة الفساد، فمنهم من ينفذ المشاريع على الورق فقط، ومنهم من سلك طريق "التعيين مقابل التوريق". ويبدو ان الفاسد لا رادع له، فخسته وصلت الى لقمة عيش المساكين، وتطاولت على شبكة الحماية الاجتماعية، والكلام يدور حول نسبة كبيرة من "الأثرياء الجدد" زاحموا
الثكالى والأرامل على المخصص الهزيل.
يتصاعد كذلك دخان الخطاب الطائفي الأسود مجددا، ويبدو ان وعود القوى المتنفذة بتجاوز الطائفية السياسية هو مجرد كلام، شأن الوعود بتحسين الأوضاع المعيشية والحياتية للمواطنين. هذا الخطاب الذي يكرس الانقسام والعزل والكراهية ويقف بالضد من دولة المواطنة، ومن حق العراقيين في العيش المشترك، ويُبقي على نظام الخوف الذي جاء مرادفا للمحاصصة الطائفية البغيضة.
ويتصاعد أيضا دخان بعض أوراق دستورنا المبجل، التي تم التجاوز عليه، مرة بقانون انتخابات جائر، ومرة أخرى بـ "الجلسة المفتوحة" التي لا تاريخ يحدد نهايتها، فيما لا احد يستطيع التكهن بالكيفية التي تنهي انتهاكات المدد الدستورية لتشكيل الحكومة. كما ان هناك دخانا يتصاعد من حرائق التجاوزات على الحقوق المدنية والسياسية، ودخان البطالة المخيف، ودخان التشرد، ودخان مآسي المهاجرين والمهجرين ومعاناتهم. يبدو ان الدخان الأسود هو الطاغي على أجواء العراق ومشهده السياسي.
ومع تصاعد الدخان الأسود تتراجع ثقة المواطن في أداء السياسيين المتنفذين ووعودهم، فيما يتسع التشكيك في ادعاءاتهم بإعادة الأمن والشروع في الأعمار، والإسراع في تشكيل حكومة وحدة وطنية بعيدة عن التعصب والانغلاق والمحاصصة، وعن العزل والتهميش.
لايزال المواطن يتنفس الدخان الأسود، متطلعا إلى أعضاء مجلس النواب عسى ان يقولوا كلمتهم في تحدي المتنفذين، ومن اجل إيجاد مخرج للازمة المستفحلة، او يدعو إلى إجراء انتخابات جديدة، تعيد المسؤولية مرة أخرى للشعب العراقي ، لعله يقول كلمته الصحيحة هذه المرة، وكي يشهد العراق ولو مرة صعود الدخان الأبيض كعلامة من علامات التغيير.