Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

دور التعليم العالي ومسؤولية الجامعات العراقية في رفد اقتصاد المعرفة

الاقتصاد العالمي اخذ في التغير، فالمعرفة بدأت تصبح جزأ اساسيا من اقتصاديات البلدان المتطورة، ورأس مال يستحق
الاستثمار والنمو كمصدر للثروات، ومورد استراتيجي جديد في الحياة الاقتصادية. وتلعب التكنولوجيا دورا مهما في نمو اقتصاد المعرفة، فالمتوقع ان تؤدي استخداماتها في الحقول الطبية والمعلوماتية والبيئية الى تبديل جوهري في نمط حياتنا والطريقة التي نعمل ونعيش فيها. لقد أصبح عامل التطور المعرفي أكثر تأثيرًا في الحياة من بين العوامل الأخرى، المادية والطبيعية، واصبح للتعليم العالي اهمية اكبر من حيث انه يوفر الكوادر البشرية المؤهلة بدرجة عالية لاشغال الوظائف التي تتطلب مهارات كثيرة وبنوعية عالية، وهو ما يتطلب اعادة هيكلية التمويل الحكومي بحيث يتم احداث زيادة هائلة في التمويل المخصص للمعرفة، هذا بالاضافة الى الاستثمار في خلق وتطوير رأس المال البشري. والسؤال الذي يطرح نفسه بحدة هو: اين نحن في العراق وبصورة خاصة في الجامعات العراقية من هذا التطور الهائل لنطاق المعرفة ودورها؟



في هذه المقالة القصيرة احب ان القي الضوء على دور التعليم العالي والجامعات العراقية ومسؤولياتها في رفد اقتصاد المعرفة، وان استشرف مستقبل هذا القطاع المهم في ظل اقتصاد المعرفة، ومن منطلق ان الجامعات هي اضخم حقل يمكن استثماره في عصر اقتصاد المعرفة بما تمتلكه من كوادر علمية هائلة وبرامج تعليمية وتدريبية. فعلى سبيل المثال يعزى النمو الاقتصادي في امريكا خلال النصف الثاني من القرن الماضي الى التكنولوجيا التي تعود جذورها الى الجامعات التي تركز على البحث العلمي، وما قامت من صناعات قوت الاقتصاد الامريكي ونهضت به الا شواهد على الادوار الاساسية التي لعبتها الجامعات في نمو الاقتصاد. ان دور الجامعات في تطوير اقتصاديات العراق يشكل تحديا خطيرا لها ومهمة شبه مستحيلة، بسبب ان قطاع التعليم العالي لا يحظى باولوية عالية في سياسة الحكومة العراقية خصوصا في ظل الاوضاع الحالية من انعدام الاستقرار، وهذا الوضع يكبل من دور الجامعات ويعيق حركتها، وهو تحدي يرتبط بواقع المجتمع العراقي الذي يحمل اثقالا كبيرة تحول من دخوله الى عالم مجتمع المعرفة وانتاجها وبالتالي تحويلها الى قوة اقتصادية واجتماعية ترقى بالبلاد الى مصاف الدول المتطورة. واستنادا لمصادر وزارة المالية فان التخصيصات المالية لكل من التربية والتعليم العالي للفترة 2006 الى 2011 نجد انها تتراوح بين 4% الى 10% وتبلغ نسبة الرواتب والمستلزمات السلعية بحدود 90% وهو توزيع يتطابق مع التوجه العام في القطاعات الاخرى والمتجسد في سوء توزيع الميزانية العامة (د. كمال البصري: واقع التعليم وتحديات التمويل في العراق). ولعل مقارنة بسيطة بما تصرفه بعض الدول على قطاع التعليم العالي توضح لنا مدى إهمال الدولة العراقية للتعليم الجامعي، وعدم تقديرها لدور الجامعة في التنمية، فالدولة في أحسن الحالات تعتبر الدعم المادي للجامعات وللعلماء والبحث العلمي دعما يسجل في خانة الأموال المفقودة، فكل ما يصرف على الجامعة من غير رواتب الأساتذة هي أموال ضائعة. واذا ما نظرنا الى ما تخصصه المملكة العربية السعودية لقطاع التعليم العام والتعليم العالي فسنجد ان 26% من مجمل النفقات المعتمدة في ميزانية 2011 تذهب الى هذا القطاع وتتضمن الميزانية صرف مبلغ يعادل 2.25 مليار دولار لتنفيذ خطة للعلوم والتقنية لدعم البحث العلمي والتطوير التقني، اما مجمل ميزانية البحث العلمي لحكومة المملكة المتحدة فهي تقارب 5.6 ملياردولار. ولعله من الطريف ان نقارن هذا الصرف مع ما تم تخصيصه في العراق من مبلغ لا يتعدى 40 مليون دولار للبحوث العلمية في ميزانية العام الحالي، وهو مع شحته مقارنة بالتخصيصات المالية في العالم الصناعي يعتبر مبلغ كبير جدا بالمقارنة بما كان عليه الصرف في الاعوام السابقة، مع العلم ان معدل الواردات العراقية من النفط تقدر باكثر من 100 مليار دولار سنويا وتوجد بالاضافة لذلك 36 مليار دولار نقدا فائضة في المصد المالي.



ونتيجة لقلة الصرف على قطاع التعليم العالي عانى هذا القطاع من مشاكل كبيرة ومن نقص مزمن في الموارد بالرغم من ازدياد الطلب عليه، فمعظم اعضاء هيئة التدريس غير مؤهلين بدرجة كافية ويعيشون وضعا تنعدم فيه الدافعية والحوافز ويتسم بانخفاض جودة التعليم وبضعف وتخلف المردودية. وبالرغم من ان جهودا كبيرة تبذل لزيادة عدد المقاعد الدراسية لاحتضان الاعداد الهائلة من الطلبة وذلك بانشاء جامعات جديدة وزيادة عدد المقبولين في الجامعات الحالية الا ان مستوى التعليم والتدريب وبقاء المناهج الدراسية على حالها وعدم ربط برامج الجامعات بحاجة السوق والمجتمع خلق اجيالا من الخريجين لا تتناسب مؤهلات معظمهم مع الحاجيات المتقلبة لسوق العمل، ونجد عددا كبيرا من هؤلاء الخريجين يعملون في مهن لا تمت ابدا لاختصاصاتهم. اليوم نحن بحاجة الى توفير اجابات شافية لاسئلة مهمة منها هو كيف يمكن للجامعات من درء هذه المشكلة لتصبح مؤسسات لتكوين كوادر تلائم عصر اقتصاد المعرفة المدعوم بتكنولوجيا المعلومات وبحيث تمتلك هذه الكوادرمهارات وظيفية وفنية وإنتاجية وإشرافية وإحترافية؟ يمكن للجامعات ان تصبح مؤسسات لتوفير هذه الكوادر وبما يعود من فوائد كثيرة على المجتمع اذا ما تبنت استراتيجية جديدة بالتعامل لزوما ووجوبا مع الوظائف الموجودة في الواقع والإسهام بإصرار ونفس طويلة في تأهيل كوادر لشغل هذه الوظائف. هل أن عدم تمكن الجامعات من التكيف مع احتياجات سوق العمل يعود الى أنها لازالت أسيرة تاريخها وتقاليدها، أو أن سياساتها لازالت أسيرة الاختصاصات التدريسية التقليدية المتوفرة بكثرة؟ او ان الدولة لا تسمح لها بتطوير مناهجها؟ او ان ضعف كادرها التدريسي وادارتها لا يسمح لها بالولوج في طريق التعامل مع سوق العمل. هذا التوزيع غير الموازي لحاجة السوق إضافة إلى الزيادة الهائلة في أعداد الطلاب غير الموازية مع احتياجات المجتمع، تعمل مجتمعة على إغراق السوق بقوى عاطلة في الوقت الذي يبقى فيه المجتمع بحاجة كبيرة لخريجين في اختصاصات كالطب والهندسة وفروع اخرى كالغات العالمية الحية وتكنولوجيا المعلومات والتي تعتبر دعامة اساسية من دعامات اقتصاد المعرفة. ان حاجة المجتمع اليوم هو لخريجين يحملون تعليما وتدريبا يتسم بالمرونة ويمنحهم القابلية على الابتكار والتجديد المستمر في عالم سريع التغيير ويعلمهم كيف يمكن تجديد معارفهم وكيف يمكن استخدامها لحل المشاكل التي تواجههم عن طريق البحث. وحاجة المجتمع تكمن ايضا في تحسين مخارج البحث العلمي والابداع والابتكار كعوامل اساسية في انتاج المعرفة ليسمح للعراق من تطوير موارده وخلق معارف جديدة باكثر كفاءة وسرعة وليستطيع من دخول مجتمع المعرفة والرقي الى مصاف الدول المتطورة.



والواقع ان الجامعات في الدول الغربية لم تعد جامعات نخبة مقيدة وطنيا ومحليا ولم تعد اهتماماتها تتركز فقط على الاكتشافات المثيرة والبحث العلمي من الدرجة العالية، بل شمل نشاطها العلاقات التجارية مع الشركات والمشاركة في عقود الخدمات وتطوير الانتاج والبيئة وابتكار النظم التشغيلية والادارية، فاصبحت محرك للصناعات الجديدة ولنقل الافكار من المختبرات الى ساحات الانتاج، والجامعات في يومنا هذا ليست قنوات لتوفير وجذب المعرفة العالمية الى مناطقها المحلية وانما تعمل ايضا كلاعب مهم في تسويق المعرفة العالمية بالرغم ان هذا الدور يختلف من جامعة لاخرى استنادا الى قدرة الجامعة وامكانياتها والى المكانة المعرفية لدولة تواجدها. الجامعات تعتبر في ضوء الاقتصاديات الجديدة مصانع معرفة تنتظر الانتقال الى السوق، وان تدفق المعرفة هو الذي يقود الابتكار اخذين بنظر الاعتبار ان عملية نقل المعرفة عملية معقدة تنطوي على كثير من العوامل المحلية والعالمية ولا تعتبر بحد ذاتها محفزا للنمو الاقتصادي. وفي بلد كالعراق تلعب الدولة دور المحرك الاقتصادي، والجامعة بامكانياتها المتواضعة لا تستطيع الا تقديم خدمات استشارية وطبية وسلع بسيطة للاقتصاد المحلي، ولكي تتمكن من لعب دور اكبر في الاقتصاد والمجتمع لابد من استثمار هائل في البحث العلمي وفي تطوير قابليات اعضاء الهيئات التدريسية في الابتكار ولتوفير الدعم التكنولوجي الملائم للصناعة المحلية، ولربما من دون الحاجة الى الولوج عميقا في مواضيع حافات العلوم والمعرفة بسبب السرعة الهائلة التي تنمو فيها هذه المواضيع والتي تحتاج الى تطبيع وتعليم مستمر وبيئة ملائمة ومعقدة. واقعنا يؤكد على اننا لسنا بمقربة من "اقتصاد المعرفة" وما نحتاج اليه اولا هو الولوج في "اقتصاد التعلم" حيث يصبح الابتكار سمة من سمات الجامعة والاستثمار في العقول سياسة من سياسات الدولة واستيعاب الانتاج المعرفي صفة من صفات المجتمع. والابتكار يمكنه ان يكون المحرك الذي بمقدوره ان يقود بيئة المعرفة المحلية الى اقتصاد المعرفة، ومن ثم فانه من الضروري ان يساعد نظام جامعي مبني على تشجيع الابتكار في تطبيق المعارف العالمية لحل المشكلات المحلية. وما اقترحه في هذا المجال هو ان تبدأ الحكومة العراقية في رسم خريطة طريق للولوج في اقتصاد المعرفة من خلال عقد منتدى عالمي لدراسة التوجهات الدولية وتطوير وتفعيل دور الدولة وتنمية العلاقات المؤسساتية لتحفيز الاستثمار وتعزيز ممارسات المؤسسات التعليمية في تفعيل الاقتصاد المعرفي، ومناقشة التشريعات المحفزة للبحث والتطوير والابتكار ونقل التقنية وحماية الملكية الفكرية واستقطاب الكفاءات، وان تزمع وزارة التعليم العالي ووزارة العلوم والتكنولوجيا بتأسيس وكالة متخصصة للتبادل المعرفي ونقل التقنية تطلق مجموعة من البرامج البحثية التطويرية الطموحة في مجالات مختلفة وخاصة في مجالات العلوم العصرية الاستراتيجية مثل تقنيات تكنولوجيا المعلومات والتقنيات الحيوية وان تكون مسؤوليتها بناء المؤسسات العلمية المسؤولة عن البناء والتطوير كحدائق التكنولوجيا وحاضنات البحوث.

ويبدو للوهلة الاولى ان الجامعات العراقية لاتحتاج الى مسايرة طريق الجامعات الغربية في التحول نحو توفير الدعم العلمي والمعرفي للصناعات المحلية لانه على ما يبدو ان الهيكلية الصناعية ضعيفة وان التنمية في العراق تعتمد على استيراد التكنولوجيا وتوطينها طالما تتوفر الثروة النفطية ولكن ذلك استنتاج غير صحيح لان اقتصاد المعرفة هو الخيار الاستراتيجي لحفظ حقوق الاجيال المقبلة. الثروة النفطية تخفي تحديات اساسية الا انه لم يتقدم باي علاج لهذا المصدر الوحيد لموارد الاقتصاد الوطني والذي يمثل كمورد لحوالي 90% من ايرادات الدولة السنوية، وهذه التحديات لابد من مواجهتها والاقتداء بالجامعات الغربية هو طريق صحيح واكيد للتطور، فالجامعات الغربية تؤمن طاقات الادمغة البشرية التي تحرك مراكز الاقتصاد الغربي. انني لا ادعو هنا الى التسابق للحصول على مواقع متقدمة ضمن السلالم العالمية لترتيب الجامعات لان هذه السلالم تحتوي على اساليب غريبة بعض الشئ فهي تهمل اجراءات ومؤشرات عديدة لها علاقة بتدريب الطاقات التي يحتاجها الوطن ولان مجرد الرجوع اليها سيزيد من الاحباط لعدم امكانية جامعات العراق في الوقت القريب من دخول وصدارة تلك القوائم، ولكني اريد الجامعات العراقية ان تهتم ببرامج التوأمة مع الجامعات العالمية العريقة وتفعيلها وكذلك تعميم تجربة برامج الاشراف المشترك على بحوث الشهادات العليا التي تتبعها الجامعات العراقية في اقليم كردستان ليتحقق ما نأمله من البحث العلمي والتطبيق الفعلي لكل الابتكارات التي تخدم البشرية، وكذلك اطلب من الجامعات العراقية الاهتمام بمستويات الاساتذة من ناحية التدريب والجودة وان توفر لهم امكانيات الالتحاق بالجامعات الغربية لتطوير ادائهم.

بالرغم من وجود اتفاق عام على ان الجامعة ذات الطراز العالمي لها ثلاثة مزايا مهمة هي الجودة العالية للتعليم والتفوق في البحث العلمي ونشر المعرفة والمساهمات المتميزة في الثقافة والعلوم والحياة المدنية للمجتمع، الا انه من المناسب ايضا الاشارة لعدد من خصائص الجامعة الجيدة، منها: 1- ذات اعتبار كبير في التدريس. 2- معترف بتفوقها من قبل الجامعات العالمية الاخرى ومن المؤسسات خارج منظومة التعليم العالي. 3- تمتلك عددا من الاقسام العلمية ذات المستوى العالمي المتميز. 4- تبتكر افكارا رائدة وتنتج بحوثا اصيلة وتطبيقية بكثرة. 5- تجذب افضل الطلبة وتنتج افضل الخريجين لسد حاجة السوق والمجتمع ويحصلون على مستوى عالي جدا من الوظائف ذات النفوذ في الدولة والمجتمع. 6- يمكنها من جذب افضل الاساتذة للعمل فيها. 7- تجذب اكبر الاعداد من الطلبة الاجانب. 8- عالمية في عملها الاكاديمي من حيث الارتباطات العلمية وتبادل الاساتذة والطلبة والزائرين العلميين. 9- توفر لطلبتها واساتذتها بيئة اكاديمية وعلمية وحريات اكاديمية. 10- تمتلك قيادة ادارية لها رؤية استراتيجية وخطط تطبيق. 11- تقدم مساهمات متميزة للمجتمع وللحياة العصرية.

ومن الصعب الاتفاق حاليا على اولويات التعليم العالي في العراق لكون ذلك يرتبط بالروءيا والاهداف من ناحية التوسع الافقي او تحسين النوعية. ولان الرغبة في الحصول على شهادات عليا تفوق غالبا حاجة السوق الى كوادر متخصصة، ولان الدراسات النظرية لا تكلف مثلما تكلف الدراسات العملية، ولان الشهادة توفر وضعا اجتماعيا وسياسيا افضل، لا تعكس نسبة الخريجين المستوى التكنولوجي والحضاري للمجتمع. ومع هذا اتصور ان اهداف التعليم في العراق لابد لها ان تضمن توفير خريجين خصوصا من الطبقات الفقيرة والمهمشة باختصاصات ومهارات يحتاجها سوق العمل وبما يراعي حاجة المجتمع والتنمية، وبدون هذا التركيز في الاهداف ستبقى الجامعة في مأزق كبير. ولابد للجامعات من تكيف برامجها وطرق التدريس لكي تنتج خريجين متعلمين تعليما عاما يشجع المرونة على التكيف والابتكار ويتعامل بسهولة مع عالم سريع التغير، ويعلم الطلاب ليس ما هو معروف حتى الان وانما كيف تكتسب المعلومات الجديدة في ظل بيئة اقتصادية متغيرة. كما هو مهم ايضا ان تزيد الجامعات من البحوث العلمية كما ونوعا مما يسمح بتطوير البلاد وخلق فرص عمل جديدة وبكفاءة اعلى بكثير مما هي عليه حاليا. وهذا كله لن يحدث الا بتوفير الامكانيات المالية والبشرية والحاكمية النزيهة والعالية المستوى.

25 حزيران 2011

Opinions