سيكولوجيا الكلام واللا تناظر الوظيفي للدماغ
"اللغة نافذة العقل على العالم"سينيكا
قبل الحديث عن المساهمة الغير متساوية أو اللا تناظرية لنصفي الكرة المخيين في عملية الكلام,أرى من الضروري الإشارة إلى بعض المعارف الأساسية حول الجهاز العصبي المركزي, وهي لازمه للإحاطة بجوانب الموضوع.أن الجهاز العصبي المركزي عامة, والدماغ منه بصورة خاصة,والمخ بشكل أخص هو الأساس المادي/الجسمي لانطلاق الكلام باعتباره إحدى العمليات العقلية الراقية(النشاط العصبي الأعلى). كما أن التركيبات التشريحية الوظيفية التي اكتسبها النوع الإنساني في مجرى عملية النشوء والارتقاء تشكل هي الأخرى الوعاء اللازم للنظام اللغوي.
يتكون الجهاز العصبي المركزي للإنسان من قسمين رئيسين هما: الدماغ, والحبل ألشوكي. ويتكون الدماغ أيضا بدوره من قسمين وهما: المخ, وما تحت المخ(الساق الدماغية, والمخيخ).وتتكون الساق الدماغية من أجزاء هي:النخاع المستطيل, والجسر,والدماغ المتوسط,والدماغ الأوسط .وينقسم المخ الذي هو القسم الأعلى من الدماغ, إلى نصفين كرويين متناظرين.يقع احدهما في الجهة اليمنى من الجسم, و الآخر في الجهة اليسرى, وتوجد بينهما روابط متبادلة متعددة,من خلال تركيب يسمى الجسم الثفني(الجسم الجاسيئ),والذي يشبه سلك سميك,وتغطيهما القشرة المخية,ذات التلافيف والشقوق, أو الأخاديد والفصوص, وهي رمادية اللون تقع تحتها المادة البيضاء وتفصلهما عن القحف(الجمجمة) ثلاثة أغشية رقيقة هي: الأم الجافية الذي يفصل المخ عن القحف,والغشاء الأوسط(ألعنكبوتي) الأم العنكبوتية, والأم الحنون.ويفصل الغشاء الأوسط عن الأم الحنون السائل المخي ألشوكي, والذي يقوم بالإضافة إلى عمله كوسادة لحماية المخ,بخدمة عمليات التغذية الخاصة بالمخ على نسق ما يؤديه اللمف والسائل النسيجي لأنسجة الجسم الأخرى.ويتكون المخ وقشرته من أربعة أزواج من الفصوص, أي لكل نصف من المخ أربعة فصوص:الفصوص الأمامية,والفصوص الجدارية, والفصوص الصدغية, والفصوص القفوية(القذالية).
يجري الحديث الآن,عن مفهوم اللا تناظر الوظيفي أكثر من الحديث التقليدي عن مفهوم الهيمنة المخية,لأحد نصفي الكرة المخيين على الآخر . إن النصف المخي الأيسر(وهو المسئول عن الكلام وفهمه عند الغالبية العظمى من الناس) يرتبط بسلسلة من المعالجات التحليلية واللغوية للمعلومات وترتبط بذلك أيضا,خصوصية الأذى الذي قد يصيب أجزاء هذا النصف المخي,منعكسا بأشكال اضطرابية في الوظائف اللغوية,وهي ذات طابع خطير وتسمى باضطرابات الحبسة اللغوية(في مجال إرسال الكلام واستقباله).أما الصفة المميزة للنصف المخي الأيمن فهو النشاط الكلي الذي يقرر طبيعته الأقل تنوعا,من الناحية الوظيفية.ومن الأسباب التي أدت إلى الاقتناع بعدم الحديث عن هيمنة النصف المخي الأيسر,هو الحقيقة التي تؤكد أن النصف المخي الأيمن يظهر كفاءة عالية في إنجاز المسائل التي تتطلب تحديدات مكانية,مثل الرسومات والانفعالات.
كما لوحظ أيضا, اختلاف في وظيفة المخ عند الرجال والنساء؛ حيث يبدو الرجال أكثر هيمنة جانبية, سواء في المعالجات اللغوية, أو غير اللغوية.ويلاحظ لدى الرجال هيمنة واضحة و مميزة لنصف المخ الأيسر,عند أنجاز المسائل ذات الطبيعة اللغوية,أما بالنسبة للمسائل ذات الصلة بالمعرفة البصرية /المكانية,فتستدعي لديهم دورا أكبر للنصف المخي الأيمن. وقد تم التأكد من هذه المعطيات,سواء عند الأشخاص الأصحاء,أو عند الذين تعرضوا لإصابات في المخ.
إن هذا اللا تناظر المذكور أعلاه, لم يبدو واضحا بنفس الدرجة لدى النساء, كما يلاحظ لديهن سيطرة واضحة للنصف المخي الأيمن,عند استقبال المثيرات المرتبطة بالانفعالات,مثل تعبيرات الوجه.ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن النساء يستقبلن الإشارات غير اللغوية بشكل أفضل,ومن ضمنها أيضا الإشارات التي يرسلها المرسل تلقائيا.
وتؤكد الأبحاث المعاصرة أن الانقسام التقليدي لنصفي الكرة المخيين,المرتبط بالنشاطات اللغوية وغير اللغوية,ليس كما هو متوقع,حيث يلاحظ أن الضرر الذي يصيب نصف الكرة المخي الأيمن, يمكن أن يؤدي إلى اضطراب في الكلام,على الرغم من أنه أضعف,قياسا بالضرر الذي يصيب نصف المخ الأيسر, ويلاحظ قبل كل شيء اضطراب في فهم الموضوعات المركبة, وبشكل خاص في فهم النكات, والأمثال ومعنى القصص.
وتتضح لدى المرضى المصابين بأضرار في النصف الأيمن للمخ,صعوبات في تمييز المظاهر الانفعالية للحديث,كما أكد ذلك كل من العالمين واطسون وهيلمان؛فقد تبين أن المرضى المفحوصين من قبلهم,والمصابين بشلل في نصف الكرة المخي الأيمن,لم يستطيعوا تحديد طبيعة الانفعال,الذي يتضمنه الموضوع المعروض عليهم.كما تم التأكد أن الأشخاص الأصحاء لديهم اتجاه واضح للنظر إلى اليسار, عند الإجابة عن سؤال يثير الانفعالات.وهذا يؤكد كما هو معروف, التدخل الكبير لنصف الكرة المخي الأيمن.وبالمقابل,فان المسألة التي تستدعي معالجتها معلومات لغوية,تدفع الشخص إلى النظر إلى الجهة اليمنى.
وكذلك في الحالات التي طلب فيها,من المفحوص,شرح الحالة المزاجية,المتضمنة في الموضوع الموجه إليهم,عن طريق الأذنين,في وقت واحد,فقد لاحظ الباحثون الهيمنة الواضحة للأذن اليسرى؛ أي النصف المخي الأيمن.ولابد من التذكير هنا,أن النصف المخي الأيمن يستقبل الايعازات من الجهة اليسرى للجسم, نظرا لتقاطع الطرق العصبية,قبل وصولها إلى مراكز الدماغ المناسبة.
وتؤكد المعطيات أعلاه, وجهات نظر العالم جاكبسون,من أن نصف الكرة المخي الأيمن مرتبط بالانفعالات,كما يمكن من التعبيرات التلقائية,والتي لا يحتاج تكوينها إلى وعي أو منطق.أما النصف المخي الأيسر,فهو مرتبط بالبناء الواعي والمنطقي والمتماسك في الموضوعات.وتشير بعض الأبحاث, إلى الإمكانات اللغوية, للنصف المخي أللأيمن,عند المرضى الذين أجريت لديهم عمليات جراحية في الطفولة المبكرة,في حالة قطع الجسم الثفني(الجاسيئ). وكذلك إمكانات لغوية محددة,لدى المرضى المصابين مبكرا بعطب في النصف المخي الأيسر.وأن ظهور إمكانية المعالجات اللغوية,عند هؤلاء المرضى,يقع ضمن عملية التعويض في الوظائف المضطربة,كما هو الحال في العلاج الطبيعي مع المرضى المصابين باضطرابات الحبسة اللغوية.أن هذه الإمكانات لا تعكس أبدا القدرة الوظيفية للنصف المخي الأيمن عند الأصحاء.
وفي الموضوعات الكتابية,التي تم الحصول عليها من المرضى المصابين بأمراض في الجزء الأيمن من المخ,فقد لوحظ لديهم,بشكل رئيسي,صعوبات في التنظيم المكاني لهذه الموضوعات,كما هو الحال في الشلل المخي للأجزاء الخلفية والأمامية للمخ. وقد طلب من أحد المرضى أن يكتب وصفا لقرية,فبدأ الكتابة,تاركا نصف الورقة من جهة البدء بالكتابة,وتاركا فراغات كبيرة,ولكن الكتابة كانت متفقة مع قواعد الإملاء الصحيح.
ويستنتج من الملاحظات أعلاه,أن نصف الكرة المخي الأيمن لا يلعب دورا أساسيا في بناء الموضوعات اللغوية, على الأقل عند الأشخاص الأصحاء,ولكن دوره في استقبال هذه الموضوعات أكبر مما كان متوقعا. إن هذه الإمكانيات المحدودة للنصف الأيمن تكمن في فهم الأشياء الملموسة,مثل العبارات البسيطة,والعلاقات الدلالية بين المفردات التي تتكرر في أغلب ألأحيان.أما بالنسبة لتمييز الوقت,والعمليات الحسابية المعقدة,والمبني للمجهول, والمبني للمعلوم,فهذا غير ممكن.إن المهم والضروري هنا هو المعطيات التي تؤكد لنا إمكانية النصف الأيمن في معالجة المعلومات غير اللغوية, والتي تسمح بالفهم الدقيق للمتحدث,على سبيل المثال,إيماءات الوجه والحركات الحية المعبرة,والتي بدونها يصعب علينا فهم غايات المتحدث,أن لم تكن في أحيان كثيرة متعذرة تماما.ويمكن للمقارنة الآتية أن توضح الخصائص الوظيفية,لكل جانب من جوانب المخ:
نصف المخ الأيمن نصف المخ الأيسر
حدسي عقلي
يتذكر الوجوه. يتذكر الأسماء
يستجيب للتوجيهات يستجيب للتوجيهات
المصورة, أو الرمزية. الكلامية, وللشروح.
يجرب بطريقة عشوائية يجرب بطريقة نسقيه
وأقل قيودا. مع التحكم.
أحكامه ذاتيه. أحكامه موضوعية.
منطلق وتلقائي. مخطط ومنسق.
يفضل المعلومات غير يفضل المعلومات المؤكدة
المؤكدة, المراوغة. الثابتة.
يعتمد على الصور في يعتمد على اللغة في
التفكير وفي التذكر. التفكير والتذكر.
قارئ مركب. قارئ محلل.
يفضل الرسم والتعامل مع يفضل الكلام والكتابة.
الأشياء.
يفضل الأسئلة المفتوحة. يفضل اختبارات الاختيار
من متعدد.
أكثر حرية مع المشاعر. يتحكم في المشاعر.
يجيد تفسير لغة الجسد لا يجيد تفسير لغة الجسد
يستعمل الاستعارة كثيرا. يستعمل الاستعارة نادرا.
يفضل الحل الحدسي للمشكلات. يفضل الحل المنطقي للمشكلات.
وفي حين نستطيع أن نذكر اختلافات كثيرة,بين خصائص كل من الجانبين,فمن المهم أن نتذكر أنهما يعملان معا,بوصفهما فريقا, إذ إن الرسائل ترد وتصدر عن طريق الألياف العصبية التي تصل الجانبين, حتى أنهما يشتركان في معظم النشاط العصبي للمخ ,ويتطلب حل المشكلات قدرات الجانبين,وأفضل الحلول هي تلك التي يساهم فيها الجانبان معا.
للمزيد من التفاصيل في المراجع الآتية,في اللغتين البولندية والانكليزية: .
1) Code C. Language, Aphasia and the Right Hemisphere.Chichester: John Wiley, 1987.
2) Kaczmarek B.L.J. Mozg, jezyk, zachowanie.Lublin: UMCS, 1995a.
3) Kaczmarek B.L.J. Mozgowe organizacja mowy.AWHAD, 1995a.
4) Luria A.R. The working brain.An introduction to neuropsychology.Allenlane.The Penguin Press, 1976.
5) Maruszewski M. Mowa a mozg, Warszawa, PWN, 1970.
.