في الذكرى الخامسة والأربعين لانقلاب 8 شباط المشؤوم
في الذكرى الخامسة والأربعين لانقلاب 8 شباط المشؤومانقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963
حامد الحمداني 8 شباط 2008
لم تكد تمضي سوى أسابيع معدوة على نجاح ثورة الرابع عشر من تموز 1958 حتى تنكر حزب البعث و القوى القومية لجبهة الاتحاد الوطني وبدأوا بتسير المظاهرات مطالبين بإقامة الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة بزعامة عبد الناصر، وقد التفت هذه القوى حول عبد السلام عارف الشخص الثاني في قيادة الثورة، والذي استهوته شهوة السلطة طامحاً أن يكون ناصر العراق ليزيح عبد الكريم قاسم من السلطة، فراح يدعو لإقامة الوحدة الفورية.
وبحكم تعيينه نائباً للقائد العام للقوات المسلحة ووزيرا للداخلية، فقد اخذ يدور على القطعات العسكرية، ويلقي عليهم خطاباته التحريضية ممجداً بعد الناصر ومتجاهلاً الزعيم عبد الكريم قاسم ، حتى أوصل البلاد إلى حافة الحرب الأهلية .
وقد وقف الحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي والحزب الديمقراطي الكردستاني إلى جانب الزعيم عبد الكريم قاسم رافعين شعار الاتحاد الفيدرالي ، حيث لم يكن العراق مهيئا لإقامة الوحدة الفورية لأسباب تتعلق بظروفه الخاصة، كما أن البيان الأول للثورة لم يشر إلى أقامة الوحدة ، وعلى اثر ذلك قامت المظاهرات الجماهيرية المضادة التي تمثل الأحزاب الثلاث، والتي لعب فيها الحزب الشيوعي الدور القيادي دون منازع.
ونتيجة لسلوك عبد السلام عارف التحريضي لقوى الجيش، والتفاف البعثيين والقوى القومية حوله، وعلى الرغم من تحذير عبد الكريم قاسم المتكرر له أصر عارف على السر في هذا الطريق مما اضطر الزعيم إلى إعفائه من منصبه وتعيينه سفيراً في المانيا الغربية، وكان لموقف الحزب الشيوعي، ودعمه الحاسم لقيادة عبد الكريم قاسم العامل الحاسم في تغليب كفته على كفة عبد السلام والقوى القومية والبعثية .
وهكذا لجأت هذه القوى للتآمر على ثورة 14 تموز وقيادتها، فكانت مؤامرة رشيد عالي الكيلاني، فموآمرة عبد السلام عارف لاغتيال الزعيم ، فمؤامرة العقيد الشواف في الموصل ، ومؤآمر البعثيين لاغتيال عبد الكريم في رأس القرية، مما لا يتسع الوقت للتحدث عن تفاصلها، وكان للأحزاب الوطنية الثلاث الدور الحاسم في دحر كل تلك المؤامرات وحماية الثورة ومنجزاتها.
لكن من المؤسف أن تنتكس العلاقة بين الأحزاب الوطنية الثلاث من جهة، وبين الحزب الشيوعي والحزب الديمقراطي الكردستاني وعبد الكريم قاسم من جهة أخرى تلك الانتكاسة التي تتحمل كافة الأحزاب السياسية على الإطلاق، وعبد الكريم قاسم نفسه مسؤوليتها، حيث غلّب كل حزب مصالحه الذاتية على المصلحة العليا للشعب والوطن، وحيث عمل عبد الكريم قاسم جاهداً للاستئثار بالسلطة، وسعيه الحثيث لتحجيم الحزب الشيوعي، بعد المد الواسع الذي شهده الحزب خلال العام الأول للثورة، ولجوئه إلى سياسة توازن القوى بين حماة الثورة والقوى التي تآمرت عليها، واتخاذه سياسة التسامح والعفو عن المتآمرين على الثورة وقيادتها، سياسة{عفا الله عما سلف}التي اقتصرت على تلك العناصر دون سواها، حيث أطلق سراحهم من السجن، وأعاد عدداً كبيراً من الضباط الذين سبق وأن تمت إحالتهم على التقاعد بعد محاولة العقيد الشواف الانقلابية في الموصل إلى مراكز حساسة في
الجيش.
وفي الوقت نفسه أقدم الزعيم قاسم على اعتقال وسجن خيرة المناضلين المدافعين الأشداء عن الثورة وقيادتها ومسيرتها، بعد أحداث الموصل وكركوك ، وبعد مسيرة الأول من أيار التي أرعبته وأرعبت البرجوازية الوطنية ، بل وأرعبت الإمبريالية ، فقد اصبح عبد الريم قاسم على قناعة بأن الحزب الشيوعي قد بات قاب قوسين أو أدنى لانتزاع السلطة منه، فاستغل أحداث الموصل وكركوك لتحجيم وإضعاف الحزب تمهيداً لتوجيه الضربة القاضية له حيث أقدم على اعتقال الألوف من رفاق الحزب ومناصريه واحالهم إلى المجالس العرفية العسكرية التي أصدرت بحقهم أحكاماً بالسجن لمدد طويلة، وتسريحه لعدد كبير من الضباط المشهود لهم بالوطنية الصادقة، والدفاع عن الجمهورية الوليدة، حيث كان لهم دور كبير في القضاء على تمرد الشواف، وإجهاض كل المحاولات التآمرية الأخرى ضد الثورة وقيادتها.
كما لجأ عبد الكريم قاسم إلى تجريد المنظمات الجماهيرية التي لعبت دوراً بارزاً في حماية الثورة ومكتسباتها من قياداتها المخلصة، والأمينة على مصالح الشعب والوطن، والتي جادت بدمائها من أجل الثورة، ومن أجل مستقبل مشرق للعراق وشعبه، وتسليمها للقوى المعادية للثورة، وذلك بهدف إضعاف الحزب الشيوعي وتحجيمه، ومن أهم الإجراءات التي أتخذها عبد الكريم قاسم في هذا المجال، والتي كان لها الأثر الحاسم في وقوع ونجاح انقلاب الثامن من شباط الفاشي عام هي:
1ـ سحب السلاح من المقاومة الشعبية، وإنهاء وجودها فيما بعد، واعتقال معظم قادتها المخلصين للثورة وقيادتها. لقد كان موقف قاسم من المقاومة الشعبية خاطئاً بكل تأكيد، رغم أن الحزب الشيوعي يتحمل مسؤولية الكثير من الأخطاء التي أعطت المبرر لقاسم للإقدام على حلها، فقد سيطر الحزب على المقاومة الشعبية لدرجة أنها كانت تبدو وكأنها ميليشيا خاصة بالحزب، وكانت المقاومة الشعبية، نتيجة الحرص الزائد على الثورة، قد أوقعت نفسها بأخطاء جسيمة، ما كان لها أن تحدث، استغلتها القوى المعادية للثورة لتشويه سمعة المقاومة، وتحريض عبد الكريم قاسم على سحب السلاح منها وتجميد صلاحياتها، ومن ثم إلغائها.
لقد كان بالإمكان معالجة تلك الأخطاء لا في إلغاء المقاومة الشعبية، درع الثورة الحصين بل في إصلاحها، وإعادة تنظيمها، وتمكينها من أداء مهامها في حماية الثورة، فلو كانت المقاومة الشعبية موجودة يوم الثامن من شباط لما استطاعت تلك الزمر المعزولة عن الشعب من تنفيذ مؤامرتها الدنيئة، ونجاحها في اغتيال ثورة الرابع عشر من تموز، واغتياله قائدها بالذات، وإغراق العراق بالدماء. لقد وقع عبد الكريم قاسم في خطأ جسيم عندما ظن أن الخطر يأتيه من الحزب الشيوعي، وليس من القوى الرجعية وعملاء الإمبريالية.
إن الحزب الشيوعي بقي حتى اللحظات الأخيرة من حكمه يعتبره قائداً وطنياً معادياً للاستعمار، وذاد عن سلطته وعن الجمهورية يوم الثامن من شباط 963 وهو اعزل من السلاح، مستخدماً كل ما تيسر له، لمقاومة الانقلاب، وحاول بكل جهده الحصول على السلاح لمقاومة الانقلابيين، وكانت جماهيره العزلاء بالألوف تحيط بوزارة الدفاع وهي تهتف: {باسم العامل والفلاح يا كريم أعطينا سلاح} ولكن دون جدوى حتى أحاط الانقلابيون بوزارة الدفاع بدباباتهم، وقاموا بقصفها بالطائرات والمدفعية حتى انهارت مقاومة قاسم واستسلامه.
2 ـ بغية تحجيم الحزب الشيوعي وإضعافه، أقدم عبد الكريم قاسم على إحالة عدداً كبيراً من الضباط المخلصين للثورة ولقيادته. فقد أحال على سبيل المثال قائد الفرقة الثانية في كركوك الشهيد الزعيم الركن [داوود الجنابي] وعدد من مساعديه على التقاعد في 29 حزيران 1959، كما أقدم على إبعاد الزعيم الركن [هاشم عبد الجبار] آمر اللواء العشرين، المعروف بوطنيته الصادقة، والذي أفشل خطط الانقلابيين، يوم جرت محاولة اغتياله في شارع الرشيد، وأحكم سيطرته على بغداد، وأحلّ محله الزعيم [صديق مصطفى ] المعروف بعدائه للقوى التقدمية ولثورة تموز، والذي لعب دوراً بارزاً في انقلاب 8 شباط 1963عندما سيطرت قواته على مدينة السليمانية يوم الانقلاب، وقام بإعدام المئات من الوطنيين الأكراد ودفنهم بقبور جماعية.
كما أقدم عبد الكريم قاسم على اعتقال المقدم الركن [ فاضل البياتي] آمر كتيبة الدبابات الرابعة في أبو غريب، وزملائه الضباط الوطنيين الآخرين كان من بينهم النقيب [حسون الزهيري] والنقيب [كاظم عبد الكريم] والمقدم [خزعل السعدي] وغيرهم من الضباط الذين عرفوا بإخلاصهم للثورة، وأقدم قاسم على تسليم تلك الكتيبة إلى المتآمر الرائد [خالد مكي الهاشمي] الذي كان له ولكتيبته الدور الأساس في الانقلاب حيث قاد دبابات الكتيبة نحو وزارة الدفاع مقر قاسم .
3 ـ تنحية آمر القاعدة الجوية في الحبانية وتعيين العقيد الطيار [عارف عبد الرزاق] الذي أعاده للجيش بعد أن كان قد أحاله على التقاعد، وكان لتلك القاعدة ولآمرها دور هام جداً في نجاح الانقلاب، حيث قامت منه الطائرات التي قصفت وزارة الدفاع .
4 ـ تنحية آمر القاعدة الجوية في كركوك، وتعيين المقدم الطيار حردان التكريتي آمراً لها، وكان له الدور الكبير في الانقلاب، حيث قام بقصف وزارة الدفاع بطائرته.
5 ـ تنحية العقيد [ عبد الباقي كاظم ] مدير شرطة بغداد، وتعين العقيد طه الشيخلي المعروف بعدائه للثورة، ولسائر القوى التقدمية، وثبوت مشاركته في الانقلاب.
6 ـ إعادة 19من الضباط القوميين والبعثيين الذين سبق وأن أحالهم على التقاعد، وجرى ذلك في أوائل آب 1959، وكان من بينهم العقيد[عبد الغني الراوي ] الذي لعب دورا رئيسياً في الانقلاب.
7ـ أحال العقيد [حسن عبود] آمر اللواء الخامس وآمر موقع الموصل على التقاعد في كانون الثاني 1961، وكان العقيد حسن عبود قد قاد القوات التي سحقت انقلاب الشواف في الموصل، وذاد عن الثورة، وقيادة عبد الكريم قاسم نفسه.
8 ـ إعفاء قائد الفرقة الأولى في الديوانية، وتعين الزعيم الركن [ سيد حميد حصونة] الرجعي المعروف بعدائه الشديد للقوى التقدمية، والذي لعب دوراً كبيراً في محاربة الشيوعية في سائر المنطقة الجنوبية من العراق، حيث كانت تمتد سلطته العسكرية على سائر ألوية جنوب ، كما أحال عدداً كبيراً من ضباط الفرقة الوطنيين على التقاعد.
9 ـ إخراج كافة ضباط الاحتياط الدورة 13،المتخرجين عام 959 ،والبالغ عددهم 1700 ضابط من الخدمة في الجيش بالنظر للنفوذ الكبير للشيوعيين فيها .
10ـ تنحية المقدم الركن [ سليم الفخري] المدير العام الإذاعة والتلفزيون وتسليمها لعناصر لا تدين بالولاء للثورة وقيادتها . وقد وصفت صحيفة [صوت الأحرار] في 12 حزيران 962 دار الإذاعة بأنها قد باتت وكراً للانتهازيين والرجعيين بعد أن أبعد عبد الكريم قاسم جميع العناصر الوطنية منها.
كما كانت القوة العسكرية المكلفة بحماية دار الإذاعة لا تدين بالولاء للثورة، وهذا مما سهل للانقلابيين السيطرة على دار الإذاعة بكل يسرٍ وسهولة صباح يوم الانقلاب. وكان لذلك تأثير كبير على معنويات الجيش والشعب عندما سارع الانقلابيون إلى الإعلان عن مقتل عبد الكريم قاسم لإحباط عزيمة الجيش للتحرك لإخماد الانقلاب، ومعلوم أن عبد الكريم قاسم ظل يقاوم الانقلابيين حتى ظهر اليوم التالي التاسع من شباط، ولو لم يكن الانقلابيون قد سيطروا على دار الإذاعة واستطاع عبد الكريم قاسم إذاعة بيانه الأخير غير المذاع لما نجح الانقلاب.
11 ـ إعفاء كافة الوزراء ذوي الاتجاه التقدمي من الوزارة، وإعفاء عدد كبير من كبار المسؤولين المدنيين من وظائفهم، وتعين آخرين لا يدينون بالولاء للثورة وقيادتها، فقد كان جلَّ هم عبد الكريم قاسم إبعاد كل عنصر له ميل أو علاقة بالحزب الشيوعي من قريب أو من بعيد .
12 ـ تصفية كل المنظمات الشعبية ذات الصبغة الديمقراطية كمنظمة أنصار السلام، واتحاد الشبيبة الديمقراطية، ورابطة الدفاع عن حقوق المرأة، ولجان الدفاع عن الجمهورية، ومحاربة القيادات الوطنية المخلصة في الاتحاد العام لنقابات العمال، والاتحاد العام للجمعيات الفلاحية، ونقابات المعلمين، والمهندسين، والأطباء، والمحامين، وإبعادهم عن قيادة تلك المنظمات، وتسليمها إلى أعداء الشعب.
13ـ إصدار العفو عن عبد السلام عارف، وعن المجموعة التي نفذت محاولة اغتياله في شارع الرشيد، وإعفاء رشيد عالي الكيلاني وزمرته وعن جميع رجالات العهد الملكي من محكومياتهم في 11 حزيران 962، في حين أحتفظ بكافة الشيوعيين والديمقراطيين رهائن في السجون ليأتي الانقلابيون فيما بعد وينفذوا جريمة قتل أعداد كبيرة منهم بعد تعذيب بشع. لقد شجعت سياسة العفو والتسامح مع أعداء الثورة على إيغال أولئك المتآمرين واستمرارهم في التآمر، على عكس ما تصور عبد الكريم قاسم من أن إصدار العفو عنهم سوف يكفهم عن التآمر.
14ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم مسالة الصراع مع القوى المضادة للثورة الذي أججته قراراتها، وخاصة فيما يخص قانون الإصلاح الزراعي الذي أحدث ثورة اجتماعية سلبت السلطة من الإقطاعيين دعائم الإمبريالية. فقد بدأ الرجعيون والإقطاعيون وكل المتضررين من ثورة تموز بتجميع صفوفهم وبعث نشاطهم من جديد، على أثر الموقف الذي أتخذه عبد الكريم قاسم من الشيوعيين. لقد استغلت الرجعية تلك الظروف لتنفيذ هجمتها الشرسة ضد القوى الديمقراطية سند الثورة وحاميها، وإضعاف السلطة، وعزلها عن الشعب.
15ـ قيام التمرد الكردي بقيادة الإقطاعيين [ رشيد لولان ] و [عباس مامند]،وانجرا ر الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى تلك الحركة، ولجوء السلطة إلى القوة العسكرية لحل التناقض مع القيادة الكردية، مما سبب إضعافاً خطيراً للسلطة الوطنية، وشق جبهة الاتحاد الوطني، ودفع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتعاون مع انقلابيي 8 شباط، ومع التمرد الرجعي لرشيد لولان، وعباس مامند، المدعوم من قبل الإمبريالية الأمريكية وحليفها [شاه إيران].
كما يتحمل الزعيم عبد الكريم قاسم جانباً كبيراً من المسؤولية في إيصال الأمور مع القيادة الكردية إلى مرحلة الصراع المسلح.
16 ـ اعتماد عبد الكريم قاسم على جهاز أمن النظام الملكي السابق، الذي لم يجر عليه أي تغيير، سوى إحالة 45 من ضباط الأمن على التقاعد، ومعلوم أن ذلك الجهاز الرجعي الذي أنشأته، ورعته الإمبريالية وعملائها الحاكمون في بغداد آنذاك، لم يكن يدين بالولاء للثورة لزعيمها عبد الكريم قاسم، وكان له دور كبير في إخفاء نشاطات القوى الرجعية والحركات التآمرية على السلطة، وحماية المتآمرين.
ولم يكن جهاز الاستخبارات العسكرية بأحسن حال من جهاز الأمن الذي أنيط به حماية الثورة من المتآمرين، وتبين فيما بعد أن ذلك الجهاز كان ملغماً بالعناصر المعادية للثورة، وكان على رأسهم رئيس الجهاز[محسن الرفيعي] ومن قبله [ رفعت الحاج سري] الذي ثبت للمحكمة اشتراكه في الحركة الانقلابية للشواف، وحكم عليه بالإعدام، ونفذ الحكم فيه.
أما احمد صالح العبدي،رئيس أركان الجيش والحاكم العسكري العام، فإن خيانته قد توضحت تماماً عندما اصدر أمراً يوم 5 شباط 63، أي قبل وقوع الانقلاب بثلاثة أيام ، يقضي بسحب العتاد من كتيبة الدبابات التي كان يقودها العقيد الركن [ خالد كاظم ] وهو الوحيد الذي بقي في مركزه القيادي من الضباط الوطنيين، وأودع العتاد في مستودع العينة. وهكذا بقيت دباباته دون عتاد لكي لا يتصدى للانقلابيين، ولم يمس الانقلابيون العبدي بسوء.
17 ـ لم يقدر عبد الكريم قاسم ما سوف يسببه صراعه مع شركات النفط من أجل انتزاع حقوق العراق في ثروته النفطية، والحفاظ على استقلاله الوطني، وإصداره القانون رقم 80 لسنة 961، والذي أنتزع بموجبه 99،5% من مناطق امتياز تلك الشركات من سيطرتها، والعمل على استغلالها وطنياً.
لقد كان الصراع على أشده مع شركات النفط، وتبادل الطرفان التهديدات، وكان آخر كلمة لوفد شركات النفط هي التحدي، وكان الوفد يعني ما يقول، فكانت مؤامرتهم الدنيئة على ثورة 14 تموز وقيادتها، والأمر المؤسف حقاً هو أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ الحيطة، فيما يخص ترصين الجبهة الداخلية ، والحذر من أحابيل ومؤامرات شركات النفط حرصاً على مصالحها حتى ولو أدى ذلك إلى إغراق العراق بالدماء. ولاشك في أن الدور الأول في الإعداد لانقلاب 8 شباط كان لشركات النفط.
من قاد ونفذ الانقلاب؟تولى قيادة وتنفيذ الانقلاب 8 شباط الجناحين المدني والعسكري لحب البعث والحركة القومية التالية أسمائهم:
[علي صالح السعدي] و[أحمد حسن البكر] و[طالب شبيب] و[حازم جواد] و[مسارع الراوي] و[حمدي عبد المجيد] والضباط البعثيين المقدم [عبد الستار عبد اللطيف] والمقدم [عبد الكريم مصطفى نصرت] والمقدم[صالح مهدي عماش] والمقدم [حردان التكريتي] والملازم الأول الطيار [منذر الونداوي]. وعدد آخر من صغار الضباط، وبعض مراتب الجيش البعثيين.
أما القوى القومية فقد ضمت كل من: [عبد السلام عارف] و[طاهر يحيى] و[عارف عبد الرزاق] و[عبد الهادي الراوي[ و[رشيد مصلح] و[عبد الغني الراوي] و[ خالد مكي الهاشمي] عدد من صغار الضباط.
أختار الانقلابيون موعداً لانقلابهم الساعة التاسعة من صباح يوم الجمعة الموافق للثامن من شباط 963، وكانت لهم حساباتهم في هذا الاختيار، حيث يوم الجمعة يوم عطلة، ولا يتواجد في المعسكرات سوى الضباط الخفر، وكانوا قد رتبوا مسبقاً خفارة الضباط المتآمرين في ذلك اليوم، ليسهل عليهم عملية تنفيذ الانقلاب، كما أن وقوع الانقلاب في الساعة التاسعة صباحاً أمر غير متوقع، حيث جرت العادة بوقوع الانقلابات العسكرية في الساعات الأولى من الفجر، ورغم وصول إشارة إلى وزارة الدفاع قبل ساعة ونصف من وقوع الانقلاب، إلا أن آمر الانضباط العسكري، الزعيم الركن عبد الكريم الجدة لم يأخذ ذلك على مأخذ الجد ، وأعتقد أن ذلك نوع من الخيال.
فقد ذكر أحد الضباط الوطنيين المتواجدين في وزارة الدفاع، وكان ضابط الخفر ذلك اليوم قائلاً:
أن جرس الهاتف دق في الساعة السابعة والنصف من صباح ذلك اليوم الثامن من شباط، أسرعت لرفع سماعة الهاتف وإذا بشخص مجهول يحدثني قائلاً:
{إنني أحد الذين استيقظ ضميرهم، ووجدت لزاماً على نفسي أن أبلغكم بأن انقلاباً عسكرياً سيقع ضد عبد الكريم قاسم في الساعة التاسعة من صباح هذا اليوم ينطلق من قاعدة الحبانية الجوية، وكتيبة الدبابات الرابعة في أبو غريب}، وأغلق الهاتف، ثم يضيف الضابط الخفر قائلا: أسرعت بالاتصال بالزعيم عبد الكريم الجدة، آمر الانضباط العسكري أبلغته بالأمر فما كان منه إلا أن أجابني قائلاً :
{هل أنت سكران يا هذا ؟ كيف يقع انقلاب عسكري في يوم 14 رمضان، والزعيم صائم !! والناس صيام !!، وفي مثل هذا الوقت الذي تتحدث عنه ضحى؟ فلم يسبق أن وقع انقلاب عسكري في وضح النهار ثم أغلق الزعيم الجدة الهاتف }.
كان ذلك الموقف من عبد الكريم الجدة لا ينم إلا عن سوء التقدير للوضع السياسي في البلاد، فقد كان الجو السياسي مكفهراً، ونشاط المتآمرين يجري على قدم وساق، وإضراب الطلاب على أشده. كان الأولى بعبد الكريم الجدة الاتصال بعبد الكريم قاسم فوراً واستنفار كل الأجهزة الأمنية والقوات العسكرية، وسائر الضباط الذين لا يشك بولائهم للثورة، وخاصة قائد القوة الجوية، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث.
كما أن الحزب الشيوعي كان قد أصدر بياناً في 3 كانون الثاني 963، ووزع بصورة علنية وعلى نطاق واسع، حذر فيه من خطورة الوضع، و جاء فيه:
{هناك معلومات متوفرة لدينا تشير إلى الكتائب المدرعة في معسكرات بغداد، ولواء المشاة التاسع عشر الآلي قد أصبحت مراكز لنشاط عدد كبير من الضباط الرجعيين، والمغامرين الذين يأملون تحويل هذه المراكز إلى قواعد انطلاق لانقضاض مفاجئ على استقلال البلاد، ولقد حددوا موعداً بعد آخر لتحقيق هذا الغرض، وللموعد الحالي مغزى خاص نظراً لخطورة الأزمة السياسية الراهنة، وعدد الزيارات التي يقوم بها كبار الجواسيس الأمريكيين لبلدنا، ووجه الحزب نداءه لعبد الكريم قاسم لأجراء تطهير واسع وفعال في صفوف الجيش}.
إلا أن عبد الكريم قاسم لم يأخذ بذلك التحذير مأخذ الجد معتقداً أن ذلك لا يعدو أن يكون تهويلاً يستهدف أهدافاً حزبية ضيقة.
وُزعت الأدوار على الضباط الانقلابيين، ومنظمات حزب البعث وأفراد الحرس القومي الذي أُعد مسبقاً ودُرب وجُهز بالسلاح!!، وجعلوا ساعة الصفر اغتيال قائد القوة الجوية الشهيد [جلال الأوقاتي] .
كان البعثيون قد رصدوا حركته، حيث أعتاد صباح كل يوم جمعة أن يخرج لشراء الفطور بنفسه، وترصدوا له ذلك اليوم وهو خارج وبصحبته ولده، حيث أطلقوا عليه النار، وأردوه قتيلاً في الحال، وجرى الاتصال بالزمرة الانقلابية، وتم إبلاغهم باغتيال الأوقاتي، وعند ذلك تحرك المتآمرون، حيث قاموا بقطع البث من مرسلات الإذاعة في أبو غريب، وتركيب تحويل في مرسلات الإذاعة وبدأ البث فيها من هناك قبل استيلائهم على دار الإذاعة. وفي نفس الوقت قام الملازم منذر الونداوي بطائرته من قاعدة الحبانية، وحردان التكريتي من القاعدة الجوية في كركوك بقصف مدرج مطار الرشيد العسكري، وتم حرثه بالقنابل لشل أي تحرك للطيارين الموالين للسلطة، وبعد أن تم لهم ذلك بادروا إلى قصف وزارة الدفاع .
وفي تلك الأثناء سمع عبد الكريم قاسم أصوات الانفجارات باتجاه معسكر الرشيد فبادر على الفور بالذهاب إلى وزارة الدفاع، وتحصن فيها، وكان ذلك الإجراء في غاية الخطورة، إذ كان الأجدى به أن يتوجه بقواته المتواجدة في وزارة الدفاع إلى معسكري الرشيد، والوشاش، القريبين من مركز بغداد، والسيطرة عليهما، ومن ثم الانطلاق نحو الأهداف التي تمركز فيها الانقلابيون، بالاستناد إلي جماهير الشعب الغفيرة التي هبت حال سماعها بنبأ الانقلاب تطالب بالسلاح لمقاومة الانقلابيين. لكن عبد الكريم قاسم حصر نفسه في وزارة الدفاع ، على الرغم من تحذير الزعيم الركن الشهيد [طه الشيخ أحمد] مدير الحركات العسكرية، الذي أشار عليه إلى ضرورة استباق المتآمرين ومهاجمتهم قبل توسع الحركة، وسيطرتهم على معسكري الوشاش والرشيد ، القريبين جداً من بغداد. لكن الزعيم عبد الكريم قاسم لم يأخذ بنصيحته مما سهل على الانقلابيين تطويق الوزارة، وقصفها بالطائرات والمدفعية، قصفاً مركزاً، حتى انهارت مقاومة قواته.
ربما أعتقد عبد الكريم قاسم أن وجوده في وزارة الدفاع المحصنة، يمكّنه من الاتصال بالوحدات العسكرية الموالية له ولكن خاب ظنه بعد كل الذي فعله بإبعاد كل العناصر الوطنية الصادقة والمخلصة واستبدلهم بعناصر انتهازية لا مبدأ لها، ولا تدين بالولاء الحقيقي له وللثورة، فقد سارع معظمهم إلى إرسال برقيات التأييد للانقلابيين، وانكفأ البعض الأخر في بيته، وكأن الأمر لا يعنيه سواء بقي عبد الكريم قاسم أم نجح الانقلابيون.
توجه[عبد السلام عارف]إلى[معسكر أبي غريب]،حيث وصل مقر كتيبة الدبابات الرابعة، وانضم إليه [ أحمد حسن البكر] واستقلا كلاهما إحدى الدبابات، وتوجها إلى دار الإذاعة، وبصحبتهما دبابة أخرى، وقد ساعدهم حرس دار الإذاعة المشاركين في الانقلاب على السيطرة عليها ثم التحق بهم كل من حازم جواد، وطالب شبيب، وهناء العمري، خطيبة علي صالح السعدي.
أما خالد مكي الهاشمي فقد أندفع بدباباته متوجهاً إلى بغداد رافعاً صور عبد الكريم قاسم لخدع جماهير الشعب التي ملأت شوارع بغداد لتدافع عن الثورة وقيادتها.
وفي نفس الوقت وصل العقيد [ عبد الغني الراوي ] إلى مقر لواء المشاة الآلي الثامن في الحبانية، وتمكن بمساعدة أعوانه من الانقلابيين من السيطرة على اللواء المذكور، وتحرك به نحو بغداد، كما نزل المئات من أفراد الحرس القومي على طول الطريق بين الحبانية وأبو غريب، حاملين أسلحتهم، وقد وضعوا الشارات الخضراء على أذرعهم، وتقدمت قوات الانقلابيين بقيادة المقدم المتقاعد[عبد الكريم مصطفى نصرت] وأحاطت بوزارة الدفاع ، كما تقدمت قوة أخرى من الطرف الثاني لنهر دجلة، مقابل وزارة الدفاع ، وبدأت قصفها للوزارة بالمدفعية الثقيلة.
كانت جموع غفيرة من أبناء الشعب قد ملأت الساحة أمام وزارة الدفاع والشوارع المؤدية لها وهي تهتف للثورة وقائدها عبد الكريم قاسم، وتطالب بالسلاح لمقاومة الانقلابيين . لقد حدثني أحد رفاقي الذي كان متواجداً في تلك الساعة مع الجماهير المحيطة بالوزارة، والمستعدة للتضحية والفداء دفاعاً عن الثورة فقال:
تجمعنا حول وزارة الدفاع حال سماعنا بوقوع الانقلاب، وكانت أعدادنا لا تحصى، فلقد امتلأت الشوارع والطرقات بآلاف المواطنين الذين جاءوا إلى الوزارة وهم يهتفون بحياة الثورة وقائدها عبد الكريم قاسم ، ويطالبونه بالسلاح للدفاع عن الثورة منادين:
{باسم العامل والفلاح يا كريم أعطينا سلاح}. كان الجو رهيباً والجموع ثائرة تريد السلاح للانقضاض على المتآمرين، وكان عبد الكريم يردد قوله:
{إنهم مجرد عصابة مأجورة لا قيمة لها، وسنقضي عليهم}
وهكذا أخطأ عبد الكريم مرة أخرى في حساباته، ولم يستمع إلى صوت الشعب وتحذيره، ولم يقدر خطورة الوضع، وكان لا يزال على ثقة بأولئك الذين أعتمد عليهم، وبوأهم أعلى المناصب السياسية والعسكرية والإدارية، بأنهم سوف يؤدون واجبهم لحماية الثورة، وسحق المتآمرين. لكن تلك الزمر الانتهازية الخائنة أسفرت عن وجهها الحقيقي، فقسم منها أشترك اشتراكاً فعلياً مع المتآمرين، والقسم الآخر آثر الجلوس على التل دون حراك، فلا تهمهم الثورة، ولا الشعب ولا عبد الكريم قاسم .
ثم يضيف رفيقي قائلاً:
في تلك الأثناء وصلت أربع دبابات، تحمل في مقدمتها صور عبد الكريم قاسم ، استخدمتها لتضليل جماهير الشعب لكي يتسنى للانقلابيين عبور الجسر نحو جانب الرصافة حيث وزارة الدفاع، وكانت الجماهير قد أحاطت بالجسور وقطعتها، واعتقدت أن هذه الدبابات جاءت لتعزز موقف عبد الكريم قاسم .
وعندما وصلت تلك الدبابات إلى وزارة الدفاع، استدارت ظهرها نحو الوزارة، وبلحظات بدأت رشاشات [الدوشكا] المنصوبة عليها تطلق رصاصها الكثيف على الجماهير المحتشدة، وتخترق أجسادهم بالمئات لقد غطت الجثث والدماء تلك الشوارع والساحة المقابلة لوزارة الدفاع، خلال عشرة دقائق لا غير، وكانت مجزرة رهيبة لا يمكن تصورها ، ولا يمكن أن يدور في خلد أي إنسان أن يجرأ المتآمرون على اقترافها. ولم تكتفِ دبابات المتآمرين بما فعلت، بل جاءت الطائرات لتكمل المجزرة، موجهة رشاشاتها حتى نحو الجرحى الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة. ثم بدأ بعد ذلك القصف المركز على وزارة الدفاع بالطائرات ومدافع الدبابات التي أحاطت بالوزارة من جانبي الكرخ والرصافة وبدأت القذائف تنهال عليها، والقوات المتواجدة داخلها ترد على القصف بما تملك من أسلحة وعتاد، إلا أن المقاومة بدأت تضعف شيئاً فشيئاً، دون أن يأتي أي إسناد من أي من القطعات العسكرية التي كان عبد الكريم يعتمد عليها، لأنه كان في وادٍ، وأولئك الخونة في وادٍ آخر، وادي الخونة والخيانة .
وفيما كانت عملية القصف تتواصل، تقدمت قوات أخرى نحو معسكر الرشيد، ومقر الفرقة الخامسة، واللواء التاسع عشر، وحيث هناك المعتقل رقم واحد، الذي كان عبد الكريم يحتجز فيه عدد من الضباط البعثيين والقوميين، حيث تم إطلاق سراحهم ليشاركوا في الانقلاب، وتمكنت قوات الانقلابيين من السيطرة على المعسكر، ومقر الفرقة، ووقع بأيديهم مجموعة من الضباط الوطنيين المعتقلين هناك، حيث نفذ الانقلابيون مجزرة أخرى بالعديد منهم. وفي بعقوبة تصدى عدد من الضباط ، وضباط الصف والجنود للانقلاب إلا أنهم فشلوا في ذلك، وجرى إعدام فوري لما يزيد على 30 ضابطاً وجندياً .
وفي معسكر التاجي القريب من بغداد، حيث توجد محطات الرادار، حاولت مجموعة أخرى السيطرة على المعسكر، غير أن الانقلابيين تمكنوا من التغلب على المقاومة بعد قتال عنيف، غير متكافئ، وجرى الإعدام الفوري لعدد من الضباط الصغار ،وضباط الصف والجنود.
كما حدثت مقاومة من جانب عدد من الضباط وضباط الصف والجنود في منطقة فايدة في شمال الموصل، لكنها لم تستطع الصمود، حيث تم للانقلابيين قمعها، وجرى إعدام فوري لعشرات من الضباط والجنود.
أما قادة الفرق، وكبار القادة العسكريين فلم يحركوا ساكناً، بل أن قسماً منهم كان له ضلعاً في الانقلاب، وبشكل خاص محسن الرفيعي، مدير الاستخبارات العسكرية الذي كان يغطي ويخفي كل تحركات الانقلابيين، دون أن يتخذ أي إجراء ضدهم، ولم ينقل لعبد الكريم قاسم حقيقة ما يجري. ففي 4 شباط، قبل وقوع الانقلاب بأربعة أيام، اصدر عبد الكريم قاسم قرارا بإحالة مجموعة من الضباط المعروفين بعدائهم للثورة على التقاعد، ولكن أولئك الضباط استمروا بلبس ملابسهم العسكرية، ولم يغادروا بغداد، ولم تحرك أجهزة الاستخبارات العسكرية، ولا الأمنية ساكناً وهذا خير دليل على تواطؤ مدير الأمن العام، ومدير الاستخبارات العسكرية مع الانقلابيين.
كما أن عبد الكريم قاسم قام قبل الانقلاب بتعيين عبد الغني الراوي المعروف بعدائه للثورة، وتوجهاتها، آمراً للواء المشاة الآلي الثاني، وكانت تلك الخطوة ذات أبعاد خطيرة، فقد كان الراوي أحد أعمدة ذلك الانقلاب، وقام اللواء المذكور بدور حاسم فيه
منذُ اللحظات الأولى لوقوع الانقلاب.
سارع الحزب الشيوعي إلى إصدار بيان وُزع على جماهير الشعب صباح ذلك اليوم دعا فيه القوات العسكرية الوطنية، وجماهير الشعب إلى التصدي للانقلابيين بكل الوسائل والسبل، ومما جاء في البيان:
{إلى السلاح ! اسحقوا المؤامرة الرجعية الإمبريالية}.
أيها المواطنون، يا جماهير شعبنا العظيم المناضل، أيها العمال والفلاحون والمثقفون، وكل الوطنيين والديمقراطيين الآخرين: لقد دق جرس الخطر،استقلالنا الوطني يتعرض للخطر العظيم و إنجازات الثورة تحدق بها المخاطر.
لقد قامت عصابة حقيرة من الضباط الرجعيين والمتآمرين بمحاولة يائسة للاستيلاء على السلطة استعداداً لإعادة بلدنا إلى قبضة الإمبريالية والرجعية، بعد أن سيطروا على محطة البث الإذاعي في أبو غريب، وانكبوا على إنجاز غرضهم الخسيس وإنهم يحاولون الآن تنفيذ مجزرة بحق أبناء جيشنا الشجاع .
يا جماهير شعبنا المناضل الفخور!إلى الشوارع، اقضوا بحزم وقسوة على المتآمرين والخونة، طهروا بلدنا منهم، إلى السلاح دفاعاً عن استقلال شعبنا ومكتسباته، شكلوا لجان دفاع في كل ثكنة عسكرية وكل مؤسسة وكل حي وقرية، وسيُلحق الشعب بقيادة قواه الديمقراطية الخزي والهزيمة بهذه المؤامرة الجبانة كما فعل بمؤامرات الكيلاني والشواف، إننا نطالب بالسلاح }.
وقد دعا البيان رفاق وجماهير الحزب إلى الاستيلاء على الأسلحة من مراكز الشرطة وتوزيعها على الجماهير، إلا أن ذلك لم يكن في مستوى الأحداث، فلم يكن الحزب قد كدس السلاح، كما فعل الانقلابيون خلال ثلاث سنوات. ولاشك أن قيادة الحزب تتحمل جانباً كبيراً من المسؤولية في عدم أخذ الاحتياطات اللازمة للتصدي للانقلابيين، ولاسيما وأن الحزب كان على علم بما يجري في الخفاء، وأنه كان قد أصدر بياناً قبل أيام يحذر فيه من وقوع مؤامرة ضد الثورة. فما هي الإجراءات التي اتخذتها قيادة الحزب لتعبئة رفاقه وجماهيره، وخاصة في صفوف الجيش؟ في الوقت الذي كان الحزب لا يزال يتمتع بنفوذ لا بأس به داخل صفوف الجيش، على الرغم من تصفية عبد الكريم قاسم لمعظم القيادات الشيوعية فيه. ورغم كل ذلك، فقد أندفع رفاقه وجماهير الشعب التي كانت تقدر بالألوف للذود عن حياض الثورة بكل اندفاع، ووقفوا إلى جانب قيادة عبد الكريم قاسم، بل أستطيع أن أقول أن الشيوعيين كانوا القوة السياسية الوحيدة التي وقفت بجانبه،رغم كل ما أصابهم منه من حيف خلال السنوات الثلاث الأخيرة. فقد أندفع معظم الضباط، وضباط الصف، والمسرحين من الخدمة العسكرية إلى الالتحاق بالمقاومة وحماية الثورة، بناء على دعوة الحزب وقدموا التضحيات الجسام ، وسالت دماؤهم على ساحات المعارك مع الانقلابين. كان كل ما يعوز جماهير الشعب آنذاك هو السلاح الذي كانوا يفتقدونه، ورغم كل النداءات التي وجهوها إلى عبد الكريم قاسم للحصول على السلاح لمقاومة الانقلابيين، إلا أن كل تلك النداءات ذهبت أدراج الرياح.
ربما كان قاسم يتوقع من أولئك الذين أعتمد عليهم ، في القوات المسلحة أن يقمعوا الانقلاب، ولكنهم كانوا في وادٍ آخر، وربما خاف قاسم من إعطاء السلاح للحزب الشيوعي على مستقبله السياسي إذا ما تم قمع الانقلاب على أيدي الشيوعيين، وفي كلتا الحالتين كان قاسم مخطئاً،ودفع حياته، ثمناً لتلك الأخطاء التي أرتكبها طيلة فترة حكمه.
في الوقت الذي كان فيه القصف المركز يجري على وزارة الدفاع، والقوات الانقلابية تحيط بها، حاول عبد الكريم قاسم تسجيل خطاب يوجهه إلى الشعب والقوات المسلحة، يدعوهم لمقاومة الانقلابيين، وقد تم تسجيل ذلك الخطاب على شريط [كاسيت] تحت أصوات الانفجارات والقصف، وأرسله إلى دار الإذاعة مع الرائد [سعيد الدوري] الذي تبين فيما بعد أنه من المشاركين في الانقلاب، حيث سلمه للانقلابيين، كما أن دار الإذاعة كانت قد احتلت من قبل الانقلابيين، ولذلك لم يتسنَ إذاعة الخطاب، وقد حصلت على نسخة منه وبالإمكان اسماعكم إياه.
لقد فات الأوان، واستولى الانقلابيين على دار الإذاعة، ووقع الشريط الذي يحوي الخطاب بين أيديهم، وربما كان بالإمكان لو لم تقع دار الإذاعة بأيدي الانقلابيين، وتم إذاعة البيان، أن تتحرك بعض القطعات العسكرية الموالية له، وتتصدى للانقلابيين.
كان الانقلابيون يدركون مدى تعلق الشعب العراقي وجيشه بثورة 14 تموز وقيادتها، رغم كل الأخطاء التي أرتكبها عبد الكريم قاسم يحق القوى الوطنية المخلصة حقاً وفعلاً، فالكل يركب سفينة الثورة، التي إذا غرقت غرق الجميع، ولذلك نجد الانقلابيين يعلنون في أول ساعات الانقلاب عن مقتل عبد الكريم قاسم لكي يمنعوا أي تحرك عسكري لإسناده، مثل ما فعلوا عندما تقدمت دباباتهم وهي تحمل صور عبد الكريم قاسم لخدع جماهير الشعب حتى تتمكن من الوصول إلى وزارة الدفاع. ورغم كل ذلك فقد اندفعت جماهير الشعب تقارع الانقلابيين بكل ما أوتيت من عزم وقوة رغم أنها كانت عزلاء من السلاح، حيث خاضت المعارك معهم بالبنادق والعصي والحجارة فيما قابلتهم الدبابات والمصفحات منزلة بهم خسائر فادحة في الأرواح بلغت عدة آلاف .
أما [الحرس القومي]الذي شكله الانقلابيون فقد أندفع أفراده إلى الشوارع وهاجموا مراكز الشرطة واستولوا على الأسلحة، وبدءوا يهاجمون جماهير الشعب بكل عنف وقوة موجهين نيران أسلحتهم نحو كل من يصادفونه في طريقهم .واستمرت مقاومة الشعب في بعض مناطق بغداد، وخاصة في مدينة الثورة، والشاكرية والكاظمية وباب الشيخ، وحي الأكراد والحرية والشعلة لعدة أيام، ولم يستطع الانقلابيون قمع تلك المقاومة إلا بعد أن جلبوا الدروع لتنفث نار القنابل الحارقة فوق رؤوسهم، وأصدر الانقلابيون بيانهم المشؤوم رقم 13 الذي يدعو إلى إبادة الشيوعيين الذين تصدوا للانقلاب منذُ اللحظات الأولى، وشنوا على الحزب الشيوعي حرب إبادة لا هوادة فيها، حيث اعتقلوا ما يزيد على نصف مليون مواطن، بينهم 1350 ضابطاً عسكريا ومن مختلف الرتب، وجرى تعذيب المعتقلين بأساليب بشعة لا يصدقها أحد، واستشهد جراء ذلك المئات من المناضلين تحت التعذيب الشنيع، وكان من ضحايا التعذيب كل من [ سلام عادل ] السكرتير العام للحزب الشيوعي، حيث قطع الانقلابيون يديه ورجليه، وفقأوا عيناه في محاولة لانتزاع الاعترافات منه عن تنظيمات الحزب. كما استشهد أيضاً من أعضاء اللجنة المركزية كل من: جمال الحيدري، ومحمد صالح العبلي، ونافع يونس، وحمزة سلمان، وعبد الجبار وهبي، أبو سعيد، ومتي الشيخ، و محمد حسين أبو العيس، وجورج تللو، وعبد الرحيم شريف، وطالب عبد الجبار بالإضافة إلى المئات من الكوادر الحزبية ورفاق الحزب، قضوا جميعاً تحت التعذيب رافضين تقديم الاعترافات عن تنظيمات حزبهم .
أخذت المقاومة داخل وزارة الدفاع تضعف شيئاً فشيئاً، وتوالت القذائف التي تطلقها الطائرات، والدبابات المحيطة بالوزارة التي تحولت إلى كتلة من نار، واستشهد عدد كبير جداً من الضباط والجنود دفاعاً عن ثورة 14تموز وقيادة عبد الكريم قاسم، وكان من بينهم الشهيد الزعيم [وصفي طاهر] المرافق الأقدم لقاسم، والزعيم [عبد الكريم الجدة] أمر الانضباط العسكري، واضطر عبد الكريم قاسم إلى مغادرة مبنى الوزارة إلى قاعة الشعب القريبة من مبنى الوزارة، تحت جنح الظلام وكان بصحبته كل من الزعيم الشهيد [فاضل عباس المهداوي] رئيس المحكمة العسكرية العليا الخاصة، والزعيم الركن الشهيد [طه الشيخ أحمد] مدير الحركات العسكرية ، والملازم الشهيد [كنعان حداد] مرافق قاسم .
ومن هناك قام عبد الكريم قاسم بالاتصال هاتفياً بدار الإذاعة، وتحدث مع عبد السلام عارف، طالباً منه باسم الأخوة والعلاقة التي ربطتهم معاً قبل الثورة، مذكراً إياه بالعفو الذي أصدره بحقه ورعايته له، بالسماح له بمغادرة العراق. غير أن عبد السلام عارف أجابه بكل صلافة بكلمات نابية لا تدل على خلق، مما أثار غضب الزعيم طه الشيخ أحمد الذي أمسك بالهاتف من يد عبد الكريم قاسم، ورد على عبد السلام عارف، باللهجة العامية بكلمات قاسية. واتصل عبد الكريم قاسم مرة أخرى بعبد السلام عارف طالباً منه السماح له بمغادرة العراق، أو إجراء محاكمة عادلة له، لكن عبد السلام عارف طلب منه الاستسلام.
وفي صباح اليوم التالي9 شباط خرج[يونس الطائي] صاحب صحيفة الثورة المعروف بعدائه للشيوعية،والذي كان قد سخره عبد الكريم قاسم لمهاجمة الحزب الشيوعي على صفحات جريدته [ الثورة ] خرج للقاء الانقلابيين، وكان في انتظاره أحد ضباط الانقلاب، واصطحبه إلى دار الإذاعة، حيث قام بدور الوسيط!! بين عبد الكريم قاسم والانقلابيين لقاء وعدٍ بالحفاظ على حياته، وتسفيره إلى تركيا، وهكذا انتهت الوساطة بخروج عبد الكريم قاسم، ومعه المهداوي، وطه الشيخ أحمد، وكنعان حداد حيث كان بانتظارهم ناقلتين مصفحتين عند باب قاعة الشعب، كان الوقت يشير إلى الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً حيث نقل عبد الكريم قاسم وطه الشيخ أحمد على متن إحدى المصفحات، ونقل المهداوي وكنعان حداد على متن المصفحة الثانية، وعند وصول المصفحتين إلى دار الإذاعة أنهال عدد من الانقلابيين على المهداوي ضرباً مبرحاً حتى غطت الدماء جسمه، وأدخل الجميع إلى مبنى دار الإذاعة، حيث كان بانتظارهم قادة الانقلاب، وكان عبد الكريم بكامل بزته العسكرية، عند دخوله مبنى الإذاعة.
إن كل ما قيل عن إجراء محاكمة لعبد الكريم قاسم كانت محض هراء فلقد كان الانقلابيون قد قرروا مسبقاً حكم الموت بحقه وبحق رفاقه، وما كان لعبد الكريم قاسم أن يسلم نفسه لأولئك المجرمين، ولكنه خُدعَ أو ربما خَدَعَ نفسه بوساطة ذلك الخائن،والدجال[يونس الطائي]الذي كان يتملقه طيلة أيام حكمه وتبين فيما بعد أنه كان على علاقة حميمة بالانقلابيين، وتصور عبد الكريم قاسم أن يدعه الانقلابيون يخرج بسلام، أو أن يوفروا له محاكمة عادلة، وعلنية كما فعل هو عندما حاكم عبد السلام عارف، والمتآمرين الآخرين على الثورة.
لكن الانقلابيين كانوا على عجلة من أمرهم للتخلص منه لكي يضعوا حداً للمقاومة، ويمنعوا أي من قطعات من الجيش من التصدي لانقلابهم المشؤوم.
قام العقيد عبد الغني الراوي بإبلاغه ورفاقه بقرار الإعدام للجميع، وحسبما ذكر إسماعيل العارف في مذكراته أن عبد الكريم لم يفقد رباطة جأشه وشجاعته، ولم ينهار أمام الانقلابيين، وعند الساعة الواحدة والنصف من ظهر ذلك اليوم 9 شباط 963، اقتيد عبد الكريم قاسم ورفاقه إلى ستديو التلفزيون، وتقدم عبد الغني الراوي، والنقيب منعم حميد،والنقيب عبد الحق فوجهوا نيران أسلحتهم الأوتوماتيكية إلى صدورهم فماتوا لساعتهم، رافضين وضع عصابة على أعينهم، وكان آخر كلام لعبد الكريم قاسم هو هتافه بحياة ثورة 14 تموز، وحياة الشعب العراقي.
\
سارع الانقلابيون إلى عرض جثته وجثث رفاقه على شاشة التلفزيون لكي يتأكد الشعب العراقي أن عبد الكريم قاسم قد مات، فقد أراد الانقلابيون التخلص من عبد الكريم قاسم وإعلان مقتله لمنع أي تحرك من جانب القطعات العسكرية ضد الانقلاب، ولإحباط عزيمة الشعب على المقاومة. ولم يكتفِ الانقلابيون بكلما فعلوه، بل انبرت أقلامهم القذرة، وقد أعمى الحقد قلوب أصحابها بنهش عبد الكريم قاسم، وإلصاق شتى التهم المزورة به، في محاولة للإساءة إلى سلوكه وأخلاقه مستخدمين ابذأ الكلمات التي لا تعبر إلا عن الإناء الذي تنضح منه، فعبد الكريم قاسم، رغم كل أخطائه، يبقى شامخاً كقائد وطني معادى للاستعمار، حارب الفقر بكل ما وسعه ذلك، وحرر ملايين الفلاحين من نير وعبودية الإقطاع، وحرر المرأة، وساواها بالرجل، وحطم حلف بغداد، وحرر اقتصاد البلاد من هيمنة الإمبريالية، وبقي طوال مدة حكمه عفيف النفس، أميناً على ثروات الشعب، ولم يسع أبداً إلى أي مكاسب مادية له أو لأخوته، ورضي بحياته الاعتيادية البسيطة دون تغيير. وها هم بعض الذين أساءوا إلى شخصه، بعد أن هدأت الزوبعة الهوجاء، قد بدأت تستيقظ ضمائرهم ليعيدوا النظر في أفكارهم وتصوراتهم عن مرحلة عبد الكريم قاسم وثورة 14 تموز، بنوع من التجرد، لتعيد له اعتباره، وتقيّم تلك المرحلة من جديد.