لماذا ربح المالكي الانتخابات وخسر"المقبولية"؟
في بلد مثل العراق، متعدد الأديان والمذاهب والأثنيات، وقواه السياسية متخندقة وفق هذه الانقسامات، وفي نظام ديمقراطي لم يألفه من قبل بعد عقود من الظلم والجور، ليس متوقعاً أن يفوز أي حزب أو كتلة سياسية أو زعيم سياسي بالأغلبية المطلقة في أي انتخاب برلماني، وإنما لا بد وأن يكون الفائز بالأغلبية النسبية. وفي الانتخابات الأخيرة حصل رئيس الوزراء المنتهية ولايته، السيد نوري المالكي على أعلى نسبة من أصوات الناخبين له ولكتلته دولة القانون. و وفق المادة 72 من الدستور العراقي، فاالمالكي هو الأولى من غيره بتشكيل الحكومة الجديدة.، و رغم ذلك أزيح لأنه خسر "المقبولية".
فقد كان هناك شبه إجماع لدى القيادات السياسية العراقية (بارزاني، علاوي، قيادة متحدون، مقتدى الصدر، عمار الحكيم...وغيرهم) على رفض الولاية الثالثة لرئيس الوزراء السيد نوري المالكي. وقد عولوا في البداية على الانتخابات البرلمانية عسى أن لا يفوز، ولما خاب أملهم في ذلك سهلوا دخول تنظيم (داعش) الإرهابي، ولما فشل داعش في إزاحته، أطلقوا فذلكة "المقبولية".
فما هي هذه "المقبولية"؟
المقبولية، مصطلح جديد في القاموس السياسي العراقي، سكه السيد عمار الحكيم، رئيس المجلس الإسلامي العراقي الأعلى (تنظيم المواطن)، للتخلص من المالكي في ترشيحه للولاية الثالثة. والمقصود بالمقبولية أن يكون المكلف بتشكيل الحكومة مقبولاً من قبل رؤساء الكتل السياسية الأخرى، و من حكومات إقليمية ودولية وخاصة أمريكا. وأضافوا إليها كلمة (الوطنية)، لتجميلها وتكون أكثر جاذبية لدى المتلقي، فصارت (المقبولية الوطنية). وهذا يعني أن فوز زعيم أي كتلة في الانتخابات لا يكفي لتكليفه بتشكيل الحكومة ما لم يكن مقبولاً من قبل رؤساء الكتل الأخرى، وحكومات خارجية وبالأخص أمريكا. ومن هنا فقد أصبحت للمقبولية الأولوية على نتائج الانتخابات. وهذا يتعارض مع أهم مبدأ من مبادئ الديمقراطية، وهي سابقة خطيرة ستتكرر في المستقبل للاستهانة بنتائج الانتخابات.
وفي خضم هذه الأوضاع التي تهدد البلاد بحرب طائفية، حصلت قناعة لدى قيادات حزب الدعوة ودولة القانون اللتان يرأسهما السيد المالكي، أنه حتى لو تم تكليفه بتشكيل الحكومة لكان بإمكان الكتل السياسية المعارضة إفشاله في البرلمان. وأخيراً، حتى المرجعية الدينية المتمثلة بالسيد علي السيستاني، انضمت إلى جماعة المقبولية بعد أن تلقت رسالة من قيادة حزب الدعوة لتقديم المشورة للخروج من المأزق، فأجاب المرجع: (انني أرى ضرورة الاسراع في اختيار رئيس جديد للوزراء يحظى بقبول وطني واسع و يتمكن من العمل سوية مع القيادات السياسية لبقية المكونات لإنقاذ البلد من مخاطر الارهاب و الحرب الطائفية و التقسيم)(1). لا شك أنه كلام معقول وحكيم.
ولذلك، وبعد مشاورات بين هؤلاء القادة، كمخرج من عنق الزجاجة كما يقولون، تم اختيار الدكتور حيدر العبادي الذي هو من نفس حزب وكتلة المالكي، لتكليفه بتشكيل الحكومة. وبذلك تم اختيار البديل ضمن السياقات الدستورية، وعلى هذا الأساس قدم السيد المالكي بيان تنازله مساء 14/8/2014.
والسؤال هنا، لماذا ربح المالكي الانتخابات، وخسر المقبولية الوطنية؟
ولتبرير رفضهم للمالكي شنوا عليه منذ عام 2010 عند تسلمه رئاسة الوزراء للمرة الثانية، حملات دعائية مضادة اتهموه بشتى الاتهامات، بأنه طائفي، ودكتاتوري، وأنه قام بتهميش السنة والكرد، وحتى قادة بعض الكيانات الشيعية عارضته، وألقوا عليه تفشي الفساد، إلى آخره من الاتهامات التسقيطية. فهل حقاً كان المالكي سيئاً إلى هذا الحد؟ وإذا كان كذلك، فلماذا زادت شعبيته في الانتخابات البرلمانية الأخيرة؟ وكيف استطاع قيادة السلطة التنفيذية لدورتين (8 سنوات) والعراق يمر بأخطر مرحلة تاريخية عاصفة؟
في الحقيقة، وإذا أردنا الإنصاف، إن بغضهم للمالكي لم يكن للأسباب المذكورة أعلاه، وإنما لأنه حاول تطبيق الدستور ومحاربة الإرهاب، وإعمار البلاد، وهناك شركاء ضد هذا الاتجاه ولأسباب مختلفة. وهنا نحتاج أن نعيد ما ذكرناه مراراً في مقالاتنا السابقة وذلك لتوضيح الصورة، وعلى سبيل المثال:
السيد مسعود بارزاني يريد التصرف بثروات كردستان لكردستان مع احتفاظه بـ17% من ثروة العراق وحكم العراق، والمالكي يرفض ذلك.
والسنة العرب لا يريدون أي شيعي "شروكي" رئيساً للوزراء، لأنهم يعتبرون حكم العراق حقاً وراثياً ومشروعاً لهم وحدهم تاريخياً، إضافة إلى حقدهم على المالكي لأنه وقَّع على حكم الإعدام بحق المجرم صدام حسين وأزلامه المقربين، وغايتهم إلغاء كلما تحقق من تغيير بعد 2003.
أما مناهضة بعض الزعماء الشيعة في (التحالف الوطني العراقي) للمالكي، فأرادوا إزاحته لأسباب عديدة، منها المنافسة على المنصب، ومقتدى الصدر يريد أن ينتقم من المالكي لأن الأخير شن حملة عسكرية ضد مليشياته في البصرة ومدينة الصدر في عملية (صولة الفرسان)عام 2008 التي صعدت من شعبيته. أما السيد عمار الحكيم، فيعتبر المالكي واحد من عامة الشعب، وأسرة الحكيم لها الحق بالوراثة في السيادة الدينية والسياسية على الشيعة ومن خلالهم على العراق كله. فقد كتب لي صديق مطلع على هذه المنافسات الشيعية قائلاً: ((ربما لا تعرف سبب عداوة آل الحكيم لعبد الكريم قاسم، لا لأنه كان متعاطفاً مع الشيوعيين فحسب، وإنما لأنه من خلفية عائلية بسيطة (في تعبيرهم الناقص \'ابن فقر\'). وهذا نفس الكلام سمعته من بعضهم في لندن عن المالكي انه \'معيدي وابن فقر\'!)). لا شك أن في هذا الكلام الكثير من الصحة.
أما الدول الإقليمية، تركيا والخليجية، وحتى إيران، فلا تريد للعراق أن تقوم له قائمة لأسباب مختلفة منها: طائفية وسياسية واقتصادية ذكرتها مراراً في مناسبات سابقة. فرغم عداء هذه الدول لصدام حسين وحكم البعث، إلا إنهم كانوا ضد إسقاطه، لأنهم كانوا يفضلون عراقاً ضعيفاً تحت حكم صدام، على عراق محرر ينعم شعبه بالديمقراطية والأمن والسلام والرفاه الاقتصادي.
غلطة المالكي الكبرى
ولكن كل هذه الأسباب المذكورة أعلاه هي مختلقة ولا أساس لها من الصحة وأمريكا تعرف ذلك جيداً، وحتى لو كانت صحيحة لغضت أمريكا الطرف عنها و تجاوزتها لو لم يرتكب المالكي الغلطة القاتلة الكبرى، والتي أعطت زخماً هائلاً للاتهامات التسقيطية بحقه مثل الدكتاتورية، والتهميش وإقصاء الكرد والسنة، وأبرزتها وكأنها حقائق لا تقبل الشك. والغلطة القاتلة الكبرى هذه تتمثل في رفض المالكي إبقاء قوات أمريكية في العراق وفق الاتفاقية العراقية- الأمريكية الاستراتيجية، اختصاراً SOFA.
والسبب الرئيسي لارتكاب المالكي لهذه الغلطة هو إذعانه لضغوط شديدة من إيران والمتعاطفين معها من السياسيين الشيعة في (التحالف الوطني). فقد هددت إيران المالكي أنه إذا وافق على إبقاء قوات أمريكية في العراق، فإنها ستحيل العراق إلى جهنم، رغم أن إبقاء هذه القوات كان في صالح العراق في الوقوف بوجه الإرهاب، ولتدريب جيشه الجديد. والمفارقة أن الذين ضغطوا على المالكي لصالح إيران هم الذين سعوا للتخلص منه، وكانت إيران السباقة في تأييد هذا التوجه.
ولذلك حصل سوء فهم لدى الأمريكان بأن المالكي أدار ظهره ضدهم، وتنكر لفضلهم وتضحياتهم في سبيل تحرير العراق، و أنه عميل إيراني يجب التخلص منه بأي ثمن. إضافة إلى دور الإعلام العربي المضاد، واللوبيات وشركات العلاقات العامة (PR) المأجورة في واشنطن ضد المالكي التي راحت تؤكد للرأي العام الأمريكي بأن المالكي هو سبب كل مشاكل العراق. ومما زاد في الطين بلة، وبعد رفض أمريكا تجهيز العراق بالسلاح والعتاد لمواجهة الإرهاب وخاصة بعد دخول داعش، اضطر المالكي إلى التوجه إلى روسيا، الأمر الذي أثار غضب أمريكا عليه أكثر.
فلو كان المالكي قد أقام علاقة وثيقة وحميمة مع أمريكا، ووافق على إبقاء بعض قواتها في العراق، لما حصل في العراق من جرائم داعشية الآن، وتحركت أمريكا لإسكات معارضيه.
لقد بات واضحاً أن أوباما لم يأمر قواته الجوية بضرب داعش لحماية المسيحيين والأيزيديين والأقليات الأخرى من الإبادة الجماعية، إلا بعد أن احتلت قوات داعش بعض الحقول النفطية ووصلت إلى أطراف أربيل، وراحت تهدد الشركات النفطية الأمريكية العشرة هناك. وهذا ما اعرب به بطريرك الكنيسة الكلدانية في العراق لويس ساكو في رسالة مفتوحة ان "الرئيس الاميركي باراك اوباما يريد حماية أربيل لا المسيحيين"(2)
وأكد ذلك، الصحفي الأمريكي مايك ويتني، في تقرير مفصل بعنوان: (لماذا يريد أوباما إزاحة المالكي؟)(3)، فيقول: "أوباما يريد خلق ذريعة لإعادة نشر الآلاف من القوات الامريكية المقاتلة في العراق، عن طريق تخويف صناع السياسة العراقيين بالإرهابيين (داعش) المتعطشين للدماء وقطع الرقاب". ويضيف وتني: "المالكي طائفي أو غير طائفي، هذا غير مهم، المهم عند واشنطن هو أن المالكي رفض التوقيع لبقاء قوات أمريكية في العراق (SOFA). ويؤكد على (ملاحظة: من السهل أن نرى أن - داعش قد لا تكون مباشرة تحت سيطرة الولايات المتحدة – ولكن وجودها في العراق بالتأكيد يخدم الأهداف الاستراتيجية الشاملة لواشنطن.)
والطريف في الأمر، أن الشاعر العراقي سعدي يوسف الذي كان يصف نفسه بـ"الشيوعي الأخير"،
والي ما قبل تنحيه كان سعدي يشتم المالكي، واليوم يدافع عنه ويستخدمه لشتم الآخرين، فكتب على موقعه خاطرة بعنوان (الإنقلاب الأميركي رقم واحد ...) جاء فيها:
((كما كان يحْدثُ في فيتنام الجنوبية ، قبل التحرير، يحْدثُ الآن في العراق المحتلّ .
تمّتْ إطاحةُ المالكيّ في انقلابٍ واضح، غير دمويّ، وجيءَ بحيدر العبادي .
أسبابُ الإنقلاب الرئيسة هي الآتيةُ :
1- رفضُ المالكيّ التوقيع على اتفاقية الأمن المتبادل مع المستعمِر الأميركي.
2- رفضُ المالكيّ منح الحصانة لعسكريّي الاحتلال.
3- رفضُ المالكيّ تمدُّد الإقطاعيّين الأكراد في المحيط العربي والتركماني وسهل نينوى المسيحيّ .
4- رفض المالكيّ تصدير النفط العراقي إلى إسرائيل عن طريق الإقطاعيّين الأكراد.
5- محاولة المالكيّ بناءَ جيشٍ بقيادته هو، لا بقيادةٍ أميركية، مع مسعىً لتنويع مصادر السلاح.
6- علاقة المالكيّ الوثيقة بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، والجمهورية العربية السوريّة.))(4)
في الحقيقة أرى الكثير من الصحة فيما كتبه الشاعر سعدي يوسف، وهذه من المرات النادرة التي يقول فيها كلاماً معقولاً وواقعياً، رغم اختلافي معه في اعتبار أمريكا دولة مستعمرة للعراق.
والجدير بالذكر، وبغض النظر عن الدوافع الحقيقية لأمريكا في تحرير العراق من الفاشية البعثية، فقد كان الشعب العراقي من أكبر المستفيدين من التحرير، وأمريكا قدمت تضحيات كثيرة منها: نحو4500 قتيل من جنودها، و40 ألف مصاب، ونحو ترليون دولار من الخسائر المادية على تحرير العراق، وفي النهاية يتنكر العراقيون لهذا الفضل واتجهوا إلى إيران وروسيا، العدوتان لأمريكا. وما (داعش) إلا عصا أمريكية غليظة تم صنعها بأموال السعودية وقطر، وبأيديولوجية الوهابية التكفيرية، لمعاقبة أية حكومة في المنطقة لا تكون على وئام مع أمريكا وحليفاتها في المنطقة.
ونحن إذ نسأل: ما هي مصلحة العراق بمعاداة الدولة العظمى؟ أمريكا لم تضرب العراق بالقنبلة النووية كما ضربت اليابان في الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك هناك علاقة إستراتيجية قوية بين البلدين. فلحد الآن لأمريكا 50 ألف جندي في اليابان، ومثله في كوريا الجنوبية، وألمانيا، ولها أكبر قاعدة عسكرية في قطر، ووجود عسكري في الكويت، ولم يسئ ذلك للسيادة الوطنية لهذه الدول. أنظر إلى التقدم المذهل في اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا، والدول الخليجية وغيرها من الدول التي تربطها علاقات استراتيجية جيدة مع أمريكا. فلماذا العراق المعرض للإرهاب والدمار والخراب يجب أن يكون في حالة عداء مع الدولة العظمى التي قدمت الكثير في سبيل تحريره من أعتى نظام دكتاتوري فاشي؟
ما العمل؟
نشير على رئيس الوزراء المكلف، الدكتور حيدر العبادي، كما أشرنا على السيد المالكي من قبل، أنه إذا أراد أن ينجح في حكمه، ويجعل شعب العراقي يعيش بسلام ورفاه، يجب عليه أن يقيم علاقة إستراتيجية وثيقة وحميمة مع أمريكا. ومن مصلحة العراق تعديل الاتفاقية الأمنية الإستراتيجية العراقية-الأمريكية (SOFA) Status of Forces Agreement ، والموافقة حتى على تواجد قوات أمريكية في العراق. فالعلاقة مع الدولة العظمى ضرورية لأمن وسلامة واستقرار وازدهار العراق. ويجب على القوى السياسية العراقية، وخاصة اليسارية والإسلامية أن تتخلص من عقلية فترة الحرب الباردة، والعنجهية المعادية لأمريكا التي لم نحصل منها سوى الدمار الشامل.
وأخيراً أتمنى على كل المخلصين للعراق أن يتركوا المناكفات والصراعات الداخلية، وأن نعمل سوية لدعم الدكتور حيدر العبادي في مهمته الشاقة. وتحية للسيد المالكي الذي قال أخيراً عن تكليف حيدر العبادي بتشكيل الحكومة:”حيدر العبادي ابن (الدعوة) ودولة القانون وابن العراق وابن الشيعة، واذا سقط او وقع العبادي لا سمح الله سأقع قبله، وانا سأبقى مستعداً لحمل البندقية وأقاتل معه دفاعاً عن العراق والحق والقانون، فقد قاتلنا ونحن خارج السلطة وقاتلنا معاً داخلها، وسنبقى نقاتل وندافع عن الحق والعراق دائماً، وأنا شخصياً حين اعلنت بيان انسحابي لصالح العبادي عدت للبيت وانا أشعر بأني القيت حملاً ثقيلاً عن كتفي، لكني في الصباح تساءلت مع نفسي وقلت ..على ظهر من القيتُ الثقل يا ابا اسراء”.(5)
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر
1- توضيح من موقع السيد السيستاني: كيف ولماذا تنحى السيد نوري المالكي؟
http://www.sistani.org/arabic/in-news/24950/
2- بطريرك الكلدان: أوباما يريد حماية اربيل لا المسيحيين
http://www.middle-east-online.com/?id=182064
3- MIKE WHITNEY: Why Obama Wants Maliki Removed
http://www.counterpunch.org/2014/08/15/why-obama-want-maliki-removed/
4- سعدي يوسف: الإنقلاب الأميركي رقم واحد ...
http://www.saadiyousif.com/home/index.php?option=com_content&task=view&id=1773&Itemid=1
5- المالكي لـ (الحقيقة):حيدر العبادي ابن العراق ودولة القانون واذا وقع سأقع أنا قبله
http://www.shababek.de/pw3/?p=4639
--
في حالة عدم الرغبة باستلام رسائلنا يرجى الضغط هنا
--
في حالة عدم الرغبة باستلام رسائلنا يرجى الضغط هنا