نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى / الحلقة الثالثة
أولاً : جعفر العسكري يفشل في إقرار المعاهدة:كان رئيس الوزراء السيد جعفر العسكري قد أخذ على عاتقه إقرار معاهدة 1930، حيث كان قد سافر إلى لندن لوضع مسودة المعاهدة والتوقيع عليها بالأحرف الأولى كي تعرض على البرلمان لإقرارها.
لكن العسكري وجد نفسه في موقف صعب بعد عودته إلى بغداد. فقد استقال كل من وزير الداخلية [رشيد عالي الكيلاني]، ووزير المالية [يسين الهاشمي]،كما وجد البلاد في حالة من الغليان الشديد احتجاجاً على تلك المعاهدة التي لم تختلف في جوهرها عن سابقاتها معاهدة 1922 ومعاهدة 1926.
فلازالت بريطانيا تقيد العراق بقيود ثقيلة في سائر المجالات العسكرية والاقتصادية والمالية، وتتدخل بشؤون العراق صغيرها وكبيرها.
وهكذا وجد رئيس الوزراء أن مواجهة مجلس النواب بهذه المعاهدة قد بات أمراً صعباً للغاية، فلم يجد ُبد من تقديم استقالة حكومته إلى الملك فيصل في 8 كانون الثاني 1928، وقد تم قبول الاستقالة وكلف الملك السيد عبد المحسن السعدون بتأليف وزارته الثالثة في 14 كانون الثاني 1928. (1)
ثانياً:عبد المحسن السعدون يفشل في إقرار المعاهدة وانتحاره
كان في مقدمة المهام الملقاة على عاتق هذه الحكومة بطبيعة الحال هو إقرار المعاهدة الجديدة في مجلس النواب، والشروع في مفاوضات لتعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية.
وحيث أن الحكومة الجديدة لا تضمن الأكثرية في المجلس، ولوجود معارضة قوية من قبل العديد من النواب للمعاهدة المذكورة، فقد طلب رئيس الوزراء من الملك فيصل إصدار الإرادة الملكية بحل المجلس وإجراء انتخابات جديدة. وتم للسعد ون ما أراد، وصدرت الإرادة الملكية بحل المجلس في 18كانون الثاني1928، وقامت الحكومة بحملة تنقلات واسعة في الجهاز الإداري بين كبار الموظف قبل إجراء الانتخابات العامة لتأمين حصول الحكومة على الأكثرية اللازمة لإقرار المعاهدة.
لكن أحداث خطيرة وقعت في العراق في أول عهد الوزارة، فقد قبضت الحكومة على الشيخ [ضاري الشعلان ] الذي اتهم هو وأولاده بقتل الكولونيل [ لجمان ] بعد قرار السلطات البريطانية بالقبض عليه ومحاكمته أبان ثورة العشرين، واضطر الشيخ ضاري إلى الهرب، لكنه وقع في قبضة الحكومة في 3 تشرين الثاني 1927 نتيجة وشاية، فأحيل إلى المحاكمة وهو في حالة صحية سيئة، وحكم عليه بالإعدام ثم جرى تخفيض الحكم إلى السجن المؤبد، ولم يمضِ على سجن الشيخ ضاري سوى بضعة أيام حتى فارق الحياة في سجنه.
أدى موت الشيخ ضاري إلى هياج الجماهير الشعبية التي خرجت في مظاهرات صاخبة واقتحمت المستشفى، وانتزعت جثة الفقيد، وسارت به في مظاهرة عارمة وهي تندد بالحكومة وبالاستعمار البريطاني، وكان ذلك أول صدمة تلقتها الحكومة السعدونية.(2)
وجاءت زيارة الصهيوني البريطاني المعروف [السير الفرد موند] إلى العراق في 8 شباط 1928، واستقباله من قبل المندوب السامي، وكبار الشخصيات اليهودية المتحمسة للحركة الصهيونية لتزيد في الطين بله، فقد أثار مقدمه إلى العراق موجة من السخط العارم لدى أبناء الشعب الذين هبوا في مظاهرة صاخبة منددين بالصهيونية والاستعمار البريطاني وبالحكومة، واستخدمت الحكومة القوة لتفريق المتظاهرين فوقعت مصادمات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الشرطة، وأصيب خلال المصادمات العديد من المتظاهرين وأفراد الشرطة.(3)
لقد كانت المظاهرة من السعة بحيث ضمت أكثر من عشرين ألفاً سارت نحو محطة قطار الكرخ، حيث كان من المقرر أن يمر من هناك موكب الزائر الصهيوني، واضطرت الحكومة إلى تغير مسار الموكب نحو الكاظمية فالأعظمية، حيث نزل [الفرد موند] عند المندوب السامي البريطاني. وقامت الحكومة بحملة واسعة ضد العناصر الوطنية التي ساهمت في المظاهرة، وأغلقت [نادي التضامن] الذي اتهمت الحكومة المشرفين عليه بالتحريض على التظاهر، وأصدرت أمراً بمنع التجمعات والمظاهرات بدون موافقة السلطة.
كما قررت وزارة المعارف طرد عدد كبير من الطلاب والمدرسين وأحالت قسم منهم إلى المحاكمة، وأعلن وزير المعارف [ توفيق السويدي] أن الحكومة عازمة على منع المظاهرات حتى ولو تطلب الأمر إطلاق الرصاص على الطلاب المتظاهرين المخالفين للقرار.
أما المندوب السامي فقد قدم احتجاجاً للملك على قيام المظاهرات المنددة بالصهيونية وببريطانيا، لكن المظاهرات تجددت يوم 10 شباط حيث انطلقت من جامع [الحيدرخانه ] مظاهرة كبيرة تهتف بسقوط الصهيونية وسقوط وعد [بلفور] والاستعمار البريطاني، وجرى صدام عنيف مع رجال الشرطة التي استطاعت تفريق المظاهرة بعد جهد كبير، واعتقلت عدد من الخطباء وإحالتهم إلى المحاكمة.
ولما كان مجلس النواب قد حُلّ، ولإصرار الحكومة على إعادة الأمن وقمع المظاهرات فقد لجأت إلى إصدار المراسيم العقابية ضد كل من يحاول التظاهر، ونصت تلك المراسيم على جلد المتظاهرين، ووضعهم تحت مراقبة الشرطة، والطرد من المدارس والوظائف، والأبعاد والنفي وغيرها من المراسيم المنافية لروح الدستور، وقد أثارت هذه المراسيم موجة احتجاجات عاتية من قبل الأحزاب السياسية والصحافة التي وصفتها بأنها مراسيم جائرة.
وعلى أثر ذلك استقال وزير العدل [ حكمت سليمان ] من منصبه احتجاجاً على حضور المستشار البريطاني لوزارة العدل جلسة مجلس الوزراء، والتي قرر خلالها المجلس إصدار تلك المراسيم، ودور المستشار البريطاني في إصدارها، ونتيجة لكل تلك الضغوط اضطرت الحكومة إلى إلغاء تلك المراسيم في 17 أيار 1928. (4)
وفي 22 كانون الثاني 1928 شرعت الحكومة في الأعداد للانتخابات
الجديدة لمجلس النواب، وعبأت المعارضة قواها لخوضها، وبدأت الحكومة تمارس ضغوطها للتأثير على سير الانتخابات للخروج بمجلس يؤيد سياستها، ويقر المعاهدة الجديدة مما أثار موجة من الاحتجاجات لدى المعارضة التي أعلنت أن الحكومة تعين النواب في واقع الأمر، وتقوم بتهديد الأهالي للتصويت لمرشحيها.
تم انتخاب المجلس في 9 أيار 1928 بالشكل الذي أرادته الحكومة بعد أن استخدمت كل وسائل التزوير والترهيب، واحتج حزبا [ الاستقلال ] و الحزب [الوطني] على نتائج الانتخاب في مذكرة رفعاها إلى رئيس الوزراء.
تم دعوة المجلس الجديد للاجتماع يوم 13 أيار 1928، حيث ألقى الملك فيصل خطاب العرش، والذي حاول فيه تبرير حل المجلس وإجراء انتخابات جديدة بالرجوع إلى رغبات الأمة !! في بعض الأمور الخطيرة، وكان الملك يقصد بذلك إقرار المعاهدة الجديدة، والتفاوض على تعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية.
ولما رأت بعض الشخصيات الوطنية ما تنوي الحكومة الأقدام عليه قررت تجميع صفوفها، وتأسيس حزب سياسي معارض يقف ضد تلك المعاهدة فكان تأليف [الحزب الوطني ] بقيادة الشخصية الوطنية البارزة [جعفر أبو التمن ]، وضمت قيادة الحزب كل من السادة [محمد مهدي البصير] و[علي محمود الشيخ علي] و[أحمد عزت الأعظمي] و[عبد الغفور البدري] [ومولود مخلص] و[بهجت زينل] و[محمود رامز] . وبعض الشخصيات الوطنية الأخرى.(5)
قررت الحكومة السعدونية بدء المفاوضات مع بريطانيا في 11 تشرين الأول 1928 حول تعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية، وفوضت وزراء الدفاع والمالية والمعارف للتفاوض مع الجانب البريطاني، فيما فوضت بريطانيا من جانبها المندوب السامي ومارشال الجو [ أدور ولنكتون]، والسكرتير المالي لدار الاعتماد، وقد تقدم الوفد البريطاني بمسودة اتفاقيتين جديدتين لكي تحلان محل الاتفاقيتين الملحقتين بمعاهدة 1922.
لكن الوفد العراقي المفاوض وجد أن هاتين المسودتين لا تختلفان في جوهرهما عن سابقتيهما، ولذلك اعترض عليهما، وقدم من جانبه مسودتان جديدتان تضمنتا المطالب التي تحقق طموحات العراق في التحرر من التبعية البريطانية عسكريا ومالياً.
فقد تضمنت مسودة الاتفاقية العسكرية الطلب بأن يكون من مسؤولية الجيش العراقي الحفاظ على أمنه الداخلي والخارجي، مع تحديد عدد الضباط البريطانيين في الجيش، وأن يعهد بإدارة الأحكام العرفية إلى ضابط عراقي بدلاً من البريطاني.
أما مسودة الاتفاقية المالية فقد تضمنت طلب العراق تملك السكك الحديدية التي كانت تحت السيطرة البريطانية، وعدم تحمل الجانب العراقي نفقات المندوبية البريطانية.
أثارت المسودتين المقدمتين من الجانب العراقي غضب المندوب السامي البريطاني الذي أعلن على الفور رفض قبولهما، مما تسبب في وقوع أزمة بين الحكومة العراقية والمندوب السامي، وسارعت الحكومة إلى إرسال مذكرة للمندوب السامي في 27 كانون الأول أوضحت له فيها وجهة نظرها في المفاوضات الجارية وضمنتها المطالب التالية:
1ـ ضرورة تولي الجيش العراقي مسؤولية الدفاع عن الوطن.
2 ـ انتخاب قائد القوات المشتركة [البريطاني] من قبل الملك فيصل.
3 ـ إدارة الأحكام العرفية من قبل ضابط عراقي .
4 ـ رفض سلطة قائد القوة الجوية البريطاني على الجيش العراقي.
5 ـ تقليص عدد الضباط البريطانيين في الجيش العراقي .
6 ـ رفض الفقرة الخاصة بالدفاع البحري عن العراق .
أما ما يخص الاتفاقية المالية فإن الحكومة ترى ما يلي:
1 ـ أن العراق هو المسؤول عن مالية قواته البرية والجوية، وإن ما تقدمه الحكومة البريطانية من مساعدة يذهب إلى رواتب العدد الكبير من الضباط البريطانيين الذين لا ضرورة لبقائهم .
2ـ إن إمكانية الحكومة العراقية لا تسمح بدفع نفقات دار المندوبية البريطانية .
3 ـ يجب تعديل اتفاقية الرسوم الجمركية بما يتفق ومصالح العراق.
4ـ ضرورة تملك العراق للسكك الحديدية، والحكومة العراقية على استعداد لدفع تعويض للحكومة البريطانية.
5 ـ تحديد فترة زمنية لنفاذ الاتفاقية المالية.
و في الختام أبلغت الحكومة المندوب السامي في مذكرتها بأنها سوف لا تقدم المعاهدة الجديدة إلى مجلس الأمة قبل تعديل هاتين الاتفاقيتين المذكورتين. (6)
أما المندوب السامي، وبعد إطلاعه على مذكرة الحكومة العراقية، فقد سارع إلى الرد بعنف على ما جاء في مذكرة الحكومة، وخصوصاً فيما أعلنته حول عدم تقديم المعاهدة الجديدة إلى مجلس النواب قبل تعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية، ودعا المندوب السامي الحكومة العراقية إلى أن تعلن أن أحكام الاتفاقيتين نافذة طالما لم يتوصل الجانبان لاتفاقيات جديدة.
سارع السعدون بعد تلقي مذكرة المندوب السامي إلى عقد جلسة لمجلس الوزراء ودعا قادة المعارضة السادة [رشيد عالي الكيلاني] و[جعفر أبو التمن] و[ياسين الهاشمي] لحضور الجلسة، وأطلعهم على مذكرة المندوب السامي، وطلب مشورتهم فيما يمكن عمله، وقد أشاروا عليه بالاستقالة مؤكدين له أن لا أحد سيقدم على تشكيل وزارة جديدة.
وبعد هذا اللقاء جمع السعدون قادة حزبه [ حزب التقدم ] وعرض عليهم الأمر، وقد اتخذ قادة الحزب قراراً بدعم موقف السعدون.
وبناء عليه سارع السعدون إلى إرسال مذكرة جوابية إلى المندوب السامي أعلن فيها أن الشعب العراقي ومجلس الأمة لا يرضيان بأقل من تحقيق المطالب التي تقدمت بها وزارته، وأن الحكومة غير مستعدة لتعلن الاتفاق على استمرار سريان مفعول الاتفاقيتين العسكرية والمالية السابقتين إلى أجل غير مسمى، وأن إقدام الحكومة على خطوة كهذه معناه الرجوع إلى الوراء، وأن ذلك مخل بكرامة الحكومة ومدعاة إلى القول بحقها أقوال شتى، وعليه فلم يعد أمام الوزارة غير تقديم استقالتها، وسوف أقدم استقالتي بداعي الأسباب الصحية، وعدم الإدلاء بأي بيان عن المفاوضات لمجلس الأمة لكي لا يحدث ما لا يحمد عقباه، ويتخذ المجلس قراراً مخالفاً لخطة الوزارة المقبلة.
سارع المندوب السامي إلى إبلاغ وزير المستعمرات البريطاني برقياً في 19 كانون الثاني 1929عن الموقف المتأزم، وعن عزم الحكومة السعدونية على الاستقالة. وحالما قرأ الوزير البريطاني الرسالة كتب إلى السعدون مذكرة مستعجلة رجاه فيها الاستمرار في الحكم رغم فشل الطرفين في التوصل إلى اتفاق بشأن الاتفاقيتين العسكرية والمالية، واعداً إياه بمعاضدة بريطانـيا لــدخول العـراق إلى عصبة الأمم، وإمكانية تحقيق بعض المطالب التي تقدمت بها حكومته.إلا أن السـعدون رد على مـذكرة وزيـر المستعمرات البريطاني بمذكرة أرسلها له في 19 كانون الثاني 1929 معرباً له عن رفضه الاستمرار في تحمل المسؤولية.
قدم السعدون استقالة حكومته إلى الملك في 20 كانون الثاني 1929 واضطر الملك إلى قبول الاستقالة على مضض طالباً منه تسيير أمور الحكم حتى تؤلف وزارة جديدة.
لم يتمكن الملك فيصل من تشكيل وزارة جديدة لمدة ثلاثة أشهر من تاريخ استقالة وزارة السعدون، بسبب الموقف البريطاني المتعنت من تعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية، ولما وجد المعتمد السامي أن الأمر قد طال، ولتخوفه من خطورة الأزمة أسرع إلى مقابلة الملك فيصل طالباً منه الإسراع بتأليف الوزارة بأسرع ما يمكن، وقد رد عليه الملك انه لا يستطيع تكليف أحد بتأليف الوزارة طالما بقي الموقف البريطاني على حاله.
وسارع السعدون إلى دعم موقف الملك بغية إحراج المندوب السامي، فبعث إلى الملك برسالة أبلغه فيها بأنه لا يستطيع الاستمرار في تسيير دفة الحكم أكثر من هذه المدة، وطلب من الملك قبول الاستقالة والانسحاب راجياً الملك أن يكلف أحداً بتشكيل الوزارة. (7)
وفي تلك الأيام أنتقل الحكم في بريطانيا من حزب المحافظين إلى حزب العمال، وقررت الحكومة العمالية الجديدة نقل المندوب السامي [ هنري دوبس ] على أثر المشادة الكلامية التي حصلت بينه وبين الملك، وبذلك انتهت خدماته في العراق، وغادر بغداد في 1 شباط 1929، وقررت الحكومة البريطانية تعيين السير[جلبرت كلايتي] خلفاً له، والذي وصل بغداد في 2 آذار 1929.
تأمل الشعب العراقي أن يحصل تغير في السياسة البريطانية تجاه العراق بعد انتقال الحكم إلى حزب العمال وتغير المندوب السامي. فقد وعد المندوب السامي الجديد في خطابه الموجه إلى الملك فيصل أن يعمل على تحقيق ما يصبو إليه العراق !!، ودعاه إلى المحافظة على الثقة والاعتماد المتبادلين.كما سارع المندوب السامي الجديد إلى لقاء رئيس الوزراء المستقيل عبد المحسن السعدون راجياً إياه العدول عن الاستقالة والاستمرار في الحكم.
لكن السعدون أبلغه أنه لا يستطيع الاستمرار في الحكم طالما أصرت بريطانيا على عدم الاستجابة لمطالب العراق الوطنية المشروعة.
وعلى اثر تلك المقابلة سارع المندوب السامي إلى إعلام الحكومة البريطانية بالموقف، ووجدت الحكومة البريطانية أن بقاء التوتر بينها وبين الشعب العراقي ليس في صالح بريطانيا، وأن استمرار التوتر ينذر بأخطار كبيرة، فكتبت إلى مندوبها السامي تعلمه أن الوزارة عازمة على إدخال العراق في عصبة الأمم شرط أن تضمن المصالح البريطانية من خلال تعهدات ترتبط بها حكومة العراق مع بريطانيا، وأنها مستعدة للنظر في مطالب العراق فيما يخص الاتفاقيتين العسكرية والمالية، وعليه فقد سارع المندوب السامي إلى إبلاغ الملك فيصل بمضمون رسالة وزير المستعمرات البريطانية في 21 نيسان 1929.
حاول الملك فيصل تكليف نوري السعيد بتشكيل الوزارة الجديدة، إلا أن
السعدون أبلغ الملك أن أعضاء حزبه في البرلمان لا يستطيعون منح الثقة لنوري السعيد، ولما لم يجد الملك مفراً من ذلك عهد إلى توفيق السويدي بتأليف الوزارة الجديدة في 28 نيسان 1929 على أمل إنقاذ الموقف، وجرى تأليف الوزارة على عجل. (8)
جاءت الوزارة الجديدة من هيئة الوزارة السعدونية السابقة، ومستندة إلى حزب السعدون الذي يتمتع بالأغلبية في مجلس النواب، لكن الحزب وضع أمام الوزارة شرط إجراء التعديلات المطلوبة على الاتفاقيتين المالية والعسكرية كي تنال ثقة البرلمان.
أثار تشكيل توفيق السويدي للوزارة موجة من الغضب الشعبي، وغضب أحزاب المعارضة على حد سواء، ولذلك فقد كان عمر الوزارة قصيراً، ولم تستطع أن تقدم شيئاً يذكر سوى تصديها للمظاهرات الوطنية التي قامت في بغدد في 30 آب 1929 احتجاجاً على الجرائم التي ارتكبها الصهاينة وقوات الاحتلال البريطاني في فلسطين ضد السكان العرب في ذلك الشهر، حيث تصدت الشرطة للمظاهرات وقمعتها بالقوة، وقامت الحكومة بتعطيل صحيفتي {النهضة } و{الوطن }، وتوجيه إنذار لصحيفة {العالم العربي } بسبب نشر المقالات المنددة بوعد [بلفور] وجرائم الصهاينة في فلسطين، واحتج الحزب الوطني على أساليب الحكومة القمعية، وقمعها للحريات العامة.
وبسبب الموقف الشعبي وموقف أحزاب المعارضة من الحكومة لم يجد توفيق السويدي بُداً من تقديم استقالة حكومته إلى الملك فيصل في 25 آب 1929 ولم يمضِ على تشكيلها سوى أقل من أربعة أشهر كي تعقبها وزارة السعدون الرابعة، حيث كلفه الملك فيصل بتأليف الوزارة الجديدة في 19 أيلول 1929.
وخلال الفترة الزمنية التي تلت استقالة حكومة السويدي وتأليف حكومة عبد المحسن السعدون توفي المندوب السامي [ جلبرت كلايتي] بالسكتة القلبية في بغداد مساء يوم الأربعاء 11 أيلول 1929. شكل عبد المحسن السعدون وزارته الرابعة في 19 أيلول 1929 مبدياً أول ملاحظاته عن الوضع السياسي حيث أشار فيها إلى أن بريطانيا قد وافقت على العمل لإدخال العراق في عصبة الأمم دون قيد أو شرط عام 1932.
كما أعلن عن رغبة بريطانيا في عقد معاهدة جديدة لتنظيم العلاقة بين البلدين، على نفس الأسس التي أقتُرح للاتفاق المصري البريطاني، وأشار إلى أن هذا الموقف يعتبر تراجعاً من بريطانيا عن مواقفها السابقة المتصلبة تجاه المطالب العراقية المشروعة في التحرر والاستقلال الوطني والسيادة الحقيقية، وقد وضع السعدون في مقدمة قائمة المهام لوزارته الأمور التالية:
1 ـ العمل على عقد معاهدة جديدة وتطبيقها لتسريع دخول العراق في عصبة الأم قبل عام 1932، وإزالة أي صبغة للاحتلال البريطاني في صلب المعاهدة الجديدة.
2 ـ إنهاء مسؤولية بريطانيا الدفاعية عن العراق، وإناطتها بالجيش العراقي، وتطبيق قانون التجنيد الإلزامي، لبناء جيش كبير وقوي يستطيع القيام بالمهام المطلوبة منه.
3 ـ تقليص عدد الضباط البريطانيين في الجيش العراقي، وتقليص عدد المفتشين البريطانيين، والموظفين الذين لا تستدعي الحاجة إلى بقائهم، واستبدالهم بموظفين عراقيين.
4ـ إعادة النظر في التعريفة الجمركية، وتشجيع الصناعات الوطنية وصمودها أمام المنافسة الأجنبية.
وبالنظر لوفاة المندوب السامي [ جلبرت كلايتي ] المفاجئة بالسكتة القلبية قررت الحكومة البريطانية تعيين السير [ فرانسيس هيمفريز] ليحل محله كمندوب سامٍ لها في العراق، في 7 تشرين الأول 1929، ووصل بالفعل إلى بغداد لتسلم مهام منصبه في 10 كانون الأول من السنة نفسها، وأعلنت الحكومة البريطانية في الوقت نفسه عن عزمها على ترشيح العراق لدخول عصبة الأمم سنة 1932.
قررت حكومة السعدون الشروع بإجراء المفاوضات لوضع معاهدة جديدة تلبي طموح الشعب العراقي، وألّفت وفدها المفاوض من السادة وزراء الدفاع والمالية والداخلية، وسارع السعدون إلى طرح برنامج حكومته أمام مجلس النواب في أول لقاء له مع المجلس بعد تأليف وزارته.
لكن المعارضة هاجمته بشدة، واتهمته بالتراجع عن مواقفه السابقة التي أصر فيها على المطالب العراقية المشروعة فيما يخص المعاهدة، وتعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية.
وجاء ردّ ه على نواب المعارضة بنفس الدرجة من العنف عندما أنتقد النواب قبوله لتصريح الحكومة البريطانية السالف الذكر، وعما سيحصل إذا تغيرت الحكومة العمالية، وتراجعت بريطانيا عن التصريح حيث قال:
{إذا حصل ذلك فإني اعتقد أن نيل الاستقلال تابع إلى جرأة الأمة، فالأمة التي تريد الاستقلال يجب أن تتهيأ له، ولا يكون ذلك بالكلام والأقوال الفارغة، فالاستقلال يؤخذ بالقوة والتضحية، وهذا ما أحببت أن أقوله}.
انتحار عبد المحسن السعدون:
كان لكلام عبد المحسن السعدون في مجلس النواب دوي كبير لدى الجانب المعارض والجانب الموالي لبريطانيا على حد سواء، ففي الوقت الذي ثمّنَ المعارضون ما قاله من أن الاستقلال يؤخذ بالقوة، ومطالبته الشعب بالتهيؤ له والتضحية في سبيله، فإن الموالين لبريطانيا قد أغضبهم حديثه، وسعى البعض منهم للوشاية به لدى وكيل المندوب السامي البريطاني [ الميجر يانك ] لذي سارع إلى معاتبته، وتقريعه بكلمات خشنة وعنيفة أثارت في نفسه الحزن العميق لدرجة لم يعد يتحملها، ودفعته إلى الانتحار في 13 تشرين الثاني 1929، حيث أطلق على نفسه الرصاص تاركا رفاقه، والملك فيصل، ووكيل المندوب السامي في حالة من الذهول الشديد، والقلق العميق مما يمكن أن يحدثه انتحاره من رد فعل لدى الشعب، وقد ترك وصيته لأبنه [علي ] شرح فيها أسباب أقدامه على الانتحار، وأوصاه بوالدته و أخوته الصغار، وهذه نص الوصية:
{ ولدي وعيني، ومستندي علي: اعفِِ عني لما ارتكبته من جناية، لأني سئمت هذه الحياة التي لم أجد فيها لذةً، وذوقاً، وشرفاً. فالأمة تنتظر مني خدمة، والإنكليز لا يوافقون، وليس لي ظهير. العراقيون طلاب الإستقلال ضعفاء وعاجزون، وبعيدون كثيراً عن الاستقلال، وهم عاجزون عن تقدير أرباب الناموس أمثالي. يظنون أني خائن للوطن، وعبد للإنكليز؟ ما أعظم هذه المصيبة !! أنا الفدائي الأشد إخلاصاً لوطني، قد كابدت أنواع الإحتقارات، وتحملت المذلات مضضاً في سبيل هذه البقعة المباركة التي عاش بها آبائي وأجدادي مرفهين .ولدي نصيحتي الأخيرة لك هي :
1 ـ أن ترحم أخوتك الصغار، الذين سيبقون يتامى، وتحترم والدتك، وتخلص لوطنك.
2 ـ أن تخلص للملك فيصل وذريته إخلاصاً مطلقاً.
أعفِ عني يا ولدي علي} . (10)
التوقيع
عبد المحسن السعدون
سارعت الحكومة إلى إذاعة نبأ الفاجعة، وجرى تشيع مهيب للفقيد إلى المقبرة الكيلانية في باب الشيخ، وسار خلف جنازته جميع الشخصيات السياسية، وجمع غفير جداً من أبناء الشعب، وهم يعبرون عن الأسى والحزن العميق لانتحاره، وانهالت برقيات التعازي من شتى أنحاء العالم. أما وكيل المندوب السامي فقد أحتج على الحكومة بشدة بسبب سماحها بنشر وصية السعدون، معتبراً ذلك العمل تحريضاً على بريطانيا وسياستها تجاه العراق، وتثير هيجاناً لدى الرأي العام العراقي، لكن الملك فيصل والحكومة حاولوا بكل خنوع تبرير نشر الوصية إرضاءً لوكيل المندوب السامي البريطاني. (11)
بعد إتمام مراسيم تشيع الفقيد أصبحت الوزارة في حكم المستقيلة، وتحتم تشكيل وزارة جديدة تحاول تهدئة الغليان الشعبي الذي أحدثه انتحاره، ولاسيما بعد نشر وصيته، واتفق الملك فيصل مع وكيل المندوب السامي على ترشيح السيد [ ناجي السويدي ] ، وصدرت الإرادة الملكية بتكليفه في 18 تشرين الثاني 1929، وتم تشكيل الوزارة، وأعرب رئيس الوزراء بعد تشكيل وزارته في رسالته الموجه إلى الملك فيصل عن عزمه على السير على نفس النهج الذي سارت عليه وزارة الفقيد السعدون، وأكد حرصه على فسح المجال للوزراء لممارسة مهام وزاراتهم بحرية، والعمل على الحد من تدخل المندوب السامي والمستشارين البريطانيين، والعمل على تحقيق أماني الشعب فيما يخص المعاهدة الجديدة، وتعديل الاتفاقيتين العسكرية والمالية بما يضمن حقوق العراق وحريته واستقلاله.
وقد أوعز رئيس الوزراء إلى اللجنة التي شكلها السعدون لمفاوضة بريطانيا حول المعاهدة الجديدة، وبُوشر بالمفاوضات مع الوفد البريطاني، برئاسة المندوب السامي.
لكن المفاوضات اصطدمت مرة أخرى برفض المندوب السامي الاستجابة للمطالب الوطنية، وبقيت مواقف الطرفين متباعدة جداً، ولم تستطع المفاوضات تحقيق أي تقدم .
وفي عهد هذه الوزارة بدأ النفوذ الأمريكي بالتغلغل في العراق بشكل رسمي، بعد أن وقعت الحكومة الأمريكية من جهة، والحكومتان البريطانية والعراقية من جهة أخرى في 9 كانون الثاني 1930 على معاهدة تؤمن المصالح الأمريكية في العراق، وقد جعلت هذه المعاهدة تحت الهيمنة البريطانيةـ الأمريكية المشتركة،المتشابكة مصالحهما الاقتصادية والعسكرية والسياسية مع بعضها البعض، وكان الشيء الإيجابي الوحيد في تلك المعاهدة هو اعتراف الولايات المتحدة باستقلال العراق. (12)
غير أن هذه الوزارة عجزت عن تحقيق أي من الأمور الرئيسية التي كان قد قررها الراحل عبد المحسن السعدون في منهاجه والتي كانت قد وعدت بتنفيذها. فقد حاولت الحكومة تقليص الميزانية المخصصة للموظفين البريطانيين في محاولة منها لتقليص عددهم، وأدى ذلك إلى اصطدام الحكومة بالمندوب السامي الذي استشاط غضباً على خطط الحكومة، وطلب من الملك التخلص منها، واضطرت الحكومة تحت ضغط المندوب السامي إلى تقديم استقالتها إلى الملك فيصل في 9 آذار 1930، وتم قبول الاستقالة، ورحب المندوب السامي بها، ووقف رئيس الوزراء [ ناجي السويدي ] يخطب في مجلس النواب شارحاً أسباب الاستقالة ومتهماً الموظفين البريطانيين بالتحكم في أمور البلاد، ثم تلاه [يسين الهاشمي] وقال مخاطباً أعضاء المجلس أن الإنكليز يحكمون البلاد حكماً كيفياً، وإن الملك فيصل يساير الإنكليز، ولا يستطيع معارضتهم. (13)
أدت استقالة الحكومة، وبيان رئيسها حول سبب الاستقالة إلى هيجان شعبي عارم، وخرجت جماهير الشعب في مظاهرات صاخبة احتجاجاً على السياسة البريطانية تجاه العراق، ومطالبة بالاستقلال الحقيقي الناجز، والتخلص من الهيمنة الإمبريالية، وقد تقاطرت الوفود من كافة أنحاء العراق للمشاركة في مظاهرات الاحتجاج، وانهالت البرقيات على الحكومة والصحافة الوطنية، وأصبح الوضع يهدد بوقوع أحداث خطيرة، وخاصة في 21 آذار،حيث اجتاحت بغداد مظاهرة كبرى أقفلت على أثرها المحال التجارية والأسواق أبوابها، وأصدر المندوب السامي أمراً للموظفين البريطانيين بملازمة مساكنهم، وسارت المظاهرة في شوارع بغداد، وتوجهت إلى الباب الشرقي، ثم إلى دور السفارات والقنصليات، وهم يهتفون الهتافات الوطنية المطالبة بالاستقلال الناجز، ورفض الهيمنة البريطانية، وبالنظر لخطورة الموقف أشار المندوب السامي على الملك فيصل تكليف نوري السعيد بتشكيل حكومة جديدة تأخذ على عاتقها إقرار المعاهدة.
ثالثاً: نوري السعيد يشكل الوزارة، ويتولى إقرار المعاهدة:
هكذا إذاً شكل نوري السعيد وزارته الأولى في 23 آذار 1930، بناء على تكليف الملك بطلب من المندوب السامي البريطاني، وكان ذلك التكليف باكورة هيمنته على سياسة العراق، حيث تولى الحكم أربعة عشر مرة منذُ ذلك التاريخ وحتى سقوط النظام الملكي إثر قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958، ولعب خلال تلك الحقبة دوراً خطيراً في حياة البلاد السياسية، واشتهر بإخلاصه التام للإنكليز، وبحملات القمع التي مارسها ضد أبناء الشعب، والمراسيم الجائرة التي كان يصدرها لكي يسكت أفواه المواطنين وقوى المعارضة العراقية، مستخدماً كل الوسائل والسبل المخالفة للدستور. كما اتخذ له موقفاً معادياً من حركات التحرر العربية إرضاءً لأسياده البريطانيين. وقد جاءت وزارته على الشكل التالي :
1 ـ نوري السعيد ـ رئيساً للوزراء، ووزيراً للخارجية.
2 ـ جميل المدفعي ـ وزيراً للداخلية .
3 ـ علي جودت الأيوبي ـ وزيراً للمالية .
4 ـ جمـال بابان ـ وزيراً للعدل .
5 ـ جعفر العسكري ـ وزيراً للدفاع .
6 ـ جميل الراوي ـ وزيراً للأشغال والإسكان .
7 ـ عبد الحسين الجلبي ـ وزيراً للمعارف .
وقد أعلن نوري السعيد أن أمام وزارته مهمة التفاوض مع بريطانيا لعقد معاهدة جديدة على أساس الاستقلال، ودخول العراق إلى عصبة الأمم، لكن حقيقة الأمر أن حكومة نوري السعيد جاءت لفرض معاهدة 1930 الجائرة على العراق. (14)
رابعاً: إجراءات السعيد لتأمين فرض معاهدة 1930:
بدأت المفاوضات العراقية البريطانية حول عقد معاهدة جديدة في 31 آذار 1930، وقد ترأس الوفد البريطاني المندوب السامي السير [هيمفريز]، وضم الوفد مساعده [الميجر يونك ] و[المستر ستاجر] ،فيما كان الوفد العراقي برئاسة [الملك فيصل ]، وعضوية [نوري السعيد] و[جعفر العسكري ] و[رستم حيدر ]، وقد لعب الملك دوراً بارزاً في المفاوضات، وكانت الحكومة تصدر كل يوم بياناً مقتضباً حول مجرى المفاوضات دون الدخول في التفاصيل، حتى جاء يوم 8 نيسان 1930 حين صدر بيان عن الحكومة يقول:
لقد تم الاتفاق بين المتفاوضين على ما يلي:
1ـ إن المعاهدة التي تجري المذاكرة حولها الآن ستدخل حيز التنفيذ عند دخول العراق في عصبة الأمم.
2ـ إن وضع العراق كما هو مصرح في المعاهدة سيكون وضع دولة حرة مستقلة.
3ـ عند دخول المعاهدة الجديدة حيز العمل ستنتهي حالاً جميع المعاهدات والاتفاقات الموجودة ما بين العراق وبريطانيا العظمى، والانتداب الذي قبله صاحب الجلالة البريطانية سينتهي بطبيعة الحال.
لعب نوري السعيد دوراً أساسياً في عقد المعاهدة الجديدة بالنظر للثقة الكبيرة التي أولاها البريطانيون له، والاطمئنان إليه، وكذلك ثقة الملك فيصل.
كان الشعب العراقي يدرك أن المفاوضات لن تطول، وهذا ما كان، فقد أعلن بيان رسمي للحكومة في 30 حزيران 1930 عن توقيع معاهدة صداقة وتحالف مع بريطانيا العظمى تنفذ حال قبول العراق عضواً في عصبة الأمم، وأن المعاهدة ستنشر في بغداد ولندن في وقت واحد يتفق عليه الطرفان.
باشر نوري السعيد المهام التي أنيطت به، وكان جُلّ همه أن ينجح في الامتحان الصعب، وينال ثقة الإنكليز، وقد فعل ذلك ونجح، وأصبح رجل بريطانيا القوي دون منازع، فكانت بريطانيا تنيط به تأليف الوزارة كلما كان لديها مهمة صعبة تنوي تنفيذها كما سنرى فيما بعد، وقد اتخذ نوري السعيد الإجراءات التالية تمهيداً لإقرار المعاهدة.
1ـ حل المجلس النيابي :
بعد أن أتمت الحكومة عقد المعاهدة مع بريطانيا أصبحت أمامها مهمة تصديقها من قبل مجلس النواب، وبالنظر لأن نوري السعيد لم يكن يستطيع ضمان الأغلبية في المجلس القائم آنذاك، فقد أقدم على تعطيل جلسات المجلس، ثم طلب من الملك إصدار الإرادة الملكية بحله، على الرغم أنه لم يمضِ على انتخابه سوى خمسة أشهر، وإجراء انتخابات جديدة يستطيع من خلالها تحقيق أغلبية في المجلس الجديد، وتم له ما أراد، وصدرت الإرادة الملكية بحله تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة.
أما نوري السعيد فقد غادر إلى لندن لاستكمال المحادثات حول الاتفاقيتين العسكرية والمالية، وحول تعديل اتفاقية امتياز النفط.
وفي 18 تموز سلم ملاحظ المطبوعات نص المعاهدة الموقعة بالأحرف الأولى إلى الصحفيين، وتم نشرها في اليوم التالي 19 تموز، وأحدث نشرها هيجاناً وغلياناً شعبياً عارماً، وأخذت برقيات الاحتجاج تنهال على الحكومة والصحافة منددة بنوري السعيد وبالمعاهدة وبالإمبريالية البريطانية، فقد جاءت المعاهدة دون إجراء أي تغير جوهري يمس الهيمنة البريطانية على مقدرات العراق، بل لتكريس هذه الهيمنة لسنين طويلة، وتقييد العراق بقيود جديدة. (15)
2 ـ السعيد يزور الانتخابات لضمان فرض المعاهدة :
بعد أن حلت الحكومة مجلس النواب، أعلنت عن إجراء انتخابات جديدة في 10 تموز 1930، وبدأت الحملة الانتخابية، وشرعت القوى الوطنية تهيئ نفسها لخوضها من أجل إسقاط المعاهدة، ولكن الحكومة أخذت تمارس الضغوط والتزوير والتهديدات لصالح مرشحيها، مما دفع بالقائد الوطني [جعفر أبو التمن ] إلى إصدار بيان بمقاطعة الانتخابات بعد أن أدرك أن نوري السعيد سوف يأتي بالمجلس الذي يريده هو وليس الشعب. وبالفعل فقد جرت الانتخابات في 20 تشرين الأول 1930 في جو مشحون بالإرهاب.
فقد استلم نوري السعيد بنفسه وزارة الداخلية بالوكالة يوم 10 تشرين الأول لكي يشرف بنفسه على الانتخابات، ويمارس ضغوطه وإرهابه وأساليبه القمعية المعروفة لإرهاب المنتخبين الثانويين، وإجبارهم على انتخاب مرشحي الحكومة، كما أجرى قبل الانتخابات، تنقلات واسعة بين رؤساء وكبار الموظفين الإداريين، ولاسيما بعد أن رشح العديد من الشخصيات المعارضة للانتخابات، وأخذت تزاحم مرشحي الحكومة.
لكن نوري السعيد استطاع أن يخرج بمجلس جديد له فيه 70 مقعداً من أصل 88، وبذلك ضمن لنفسه إمكانية تصديق المعاهدة التي وقعها بالأحرف الأولى من قبل مجلس النواب،وجاءت المعاهدة على الوجه التالي. (16)
خامسا: نص معاهدة 30 حزيران 1930: (17)
صاحب الجلالة ملك العراق.
وصاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا والممتلكات البريطانية وراء البحار وإمبراطور الهند.
لما كانا راغبين في توثيق أواصر الصداقة، والاحتفاظ بصلات التفاهم وإدامتها ما بين بلديهما، ولما كان صاحب الجلالة ملك بريطانيا قد تعهد في معاهدة التحالف الموقع عليها في بغداد في اليوم الثالث عشر من شهر كانون الثاني 1926 ميلادية، الموافق لليوم الثامن والعشرين من شهر جمادي الآخر سنة 1344 هجرية، بأن ينظر نظراً فعلياً في تمتين علاقاتنا في فترات متتالية مدة كل منها أربع سنوات، ولما كانت حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا الشمالية قد أعلمت الحكومة العراقية في اليوم الرابع عشر من أيلول سنة 1929 أنها مستعدة لعضد ترشيح العراق لدخول عصبة الأمم سنة 1932 بلا قيد ولا شرط ، وأعلنت لمجلس العصبة في اليوم الرابع عشر من كانون الأول 1929 أن هذه هي نيتها. ولما كانت المسؤوليات الانتدابية التي قبلها صاحب الجلالة البريطانية فيما يتعلق بالعراق ستنتهي من تلقاء نفسها،عند إدخال العراق عصبة الأمم، ولما كان صاحب الجلالة ملك العراق، وصاحب الجلالة البريطانية يريان أن الصلات التي ستقوم بينهما بصفة كونهما مستقلين، وينبغي تحديدها بعقد معاهدة تحالف وصداقة.
فقد اتفقا على عقد معاهدة جديدة لبلوغ هذه الغاية،على قواعد الحرية والمساواة التامتين، والاستقلال التام، وتصبح نافذة عند دخول العراق عصبة الأمم، وقد عينا عنهما مندوبين مفوضين هما:
عن جلالة ملك العراق: نوري باشا السعيد، رئيس الوزراء ووزير الخارجية، حامل وسامي النهضة والاستقلال من الصنف الثاني.
وعن جلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندا والممتلكات البريطانية وراء البحار، إمبراطور الهند اللفتنانت كولونيل السر[ هنري هيمفريز]المعتمد السامي لصاحب الجلالة البريطانية في العراق اللذان بعد أن تبادلا وثائق تفويضهما فوجداها صحيحة قد اتفقا على ما يلي :
المادة الأولى: يسود سلم وصداقة دائمين بين صاحب الجلالة ملك العراق وصاحب الجلالة البريطانية، ويؤسس بين الفريقين الساميين المتعاقدين تحالف وثيق، توطيداً لصداقتهما وتفاهمهما الودي، وصلاتهما الحسنة، وتجرى بينهما مشاورة تامة وصريحة في جميع الشؤون السياسية الخارجية، مما قد يكون له مساس مصالحهما المشتركة.
ويتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بأن لا يقف من البلاد الأجنبية موقفاً لا يتفق ومعاهدة التحالف هذه، أو قد يخلق مصاعب للفريق الآخر. المادة الثانية : يمثل كل من الفريقين الساميين المتعاقدين لدى بلاط الفريق السامي المتعاقد الآخر ممثل سياسي [دبلوماسي] يعتمد وفقاً للأصول المرعية.
المادة الثالثة:إذا أدى نزاع بين العراق ودولة ثالثة إلى حالة يترتب عليها خطر قطع العلاقات بتلك الدولة يوحد عندئذٍ الفريقان الساميان المتعاقدان مساعيهما لتسوية ذلك النزاع بالوسائل السلمية وفقاً لأحكام ميثاق عصبة الأمم، ووفقاً لأي تعهدات دولية أخرى يمكن تطبيقها على تلك الحالة.
المادة الرابعة:إذا اشتبك أحد الفريقين الساميين المتعاقدين في حرب رغم أحكام المادة الثالثة أعلاه يبادر حينئذٍ الفريق السامي المتعاقد الآخر فوراً إلى معونته بصفة كونه حليفاً، وذلك دائماً وفق أحكام المادة التاسعة أدناه. و في حالة خطر حرب محدق يبادر الفريقان الساميان المتعاقدان فوراُ إلى توحيد المساعي في اتخاذ تدابير الدفاع المقتضية.
إن معونة صاحب الجلالة ملك العراق في حالة حرب، أو خطر حرب محدق تنحصر في أن يقدم إلى صاحب الجلالة البريطاني في الأراضي العراقية جميع ما في وسعه أن يقدمه من التسهيلات والمساعدات، ومن ذلك استخدام السكك الحديدية والأنهر، والموانئ والمطارات، ووسائل المواصلات.
المادة الخامسة: من المفهوم بين الفريقين الساميين المتعاقدين أن مسؤولية حفظ الأمن الداخلي في العراق وأيضاً ـ بشرط مراعاة أحكام المادة الرابعة أعلاه مسؤولية الدفاع عن العراق إزاء الاعتداء الخارجي تنحصران في صاحب الجلالة ملك العراق.
مع ذلك يعترف جلالة ملك العراق بان حفظ وحماية مواصلات صاحب الجلالة البريطانية الأساسية بصورة دائمة في جميع الأحوال هما من صالح الفريقين الساميين المتعاقدين المشترك.
فمن أجل ذلك، وتسهيلاً للقيام بتعهدات صاحب الجلالة البريطانية وفقاً للمادة الرابعة أعلاه يتعهد جلالة ملك العراق بأن يمنح صاحب الجلالة البريطانية طيلة مدة التحالف موقعين لقاعدتين جويتين ينتقيهما صاحب الجلالة البريطانية في البصرة، أو في جوارها، وموقعاً واحداً لقاعدة جوية ينتقيها صاحب الجلالة البريطانية في غرب نهر الفرات.
وكذلك يأذن جلالة ملك العراق لصاحب الجلالة البريطانية أن يقيم قوات في الأراضي العراقية في الأماكن الأنفة الذكر وفقاً لأحكام ملحق هذه المعاهدة، على أن يكون مفهوماً أن وجود هذه القوات لن يعتبر بأي حال من الأحوال احتلالاً، ولن يمس على الإطلاق سيادة واستقلال العراق.
المادة السادسة: يعتبر ملحق هذه المعاهدة جزء لا يتجزأ منها.
المادة السابعة: تحل هذه المعاهدة محل معاهدتي التحالف الموقع عليهما في بغداد في اليوم العاشر من شهر تشرين الأول سنة 1922 ميلادية، والموافق لليوم التاسع عشر من شهر صفر سنة 1341هجرية، وفي اليوم الثالث عشر من شهر كانون الثاني سنة 1926 ميلادية، الموافق لليوم الثامن والعشرين من شهر جمادي الآخر سنة 1344 هجرية مع الاتفاقات الفرعية الملحقة بها، التي تمسي ملغاة عند دخول هذه المعاهدة حيز التنفيذ، وهذه المعاهدة في نسختين في كل من اللغتين العربية والإنكليزية، ويعتبر النص الأخير المعول عليه.
المادة الثامنة: يعترف الفريقان الساميان المتعاقدان بأنه عند الشروع بتنفيذ هذه المعاهدة تنتهي من تلقاء نفسها وبصورة نهائية جميع المسؤوليات المترتبة على صاحب الجلالة البريطانية فيما يتعلق بالعراق وفقاً لأحكام وثيقة دولية أخرى، وينبغي أن يترتب على جلالة ملك العراق وحده، وعلى الفريقين الساميين المتعاقدين أن يبادرا فوراً إلى اتخاذ الوسائل المقتضية لتأمين نقل هذه المسؤوليات إلى جلالة ملك العراق.
المادة التاسعة: ليس في هذه المعاهدة ما يرمي بوجه من الوجوه إلى الإخلال أو يخل بالحقوق والتعهدات المترتبة، أو التي قد تترتب لأحد الفريقين الساميين المتعاقدين وفقاً لميثاق عصبة الأمم، أو معاهدة تحريم الحرب الموقع عليها في باريس في اليوم السابع والعشرين من شهر آب سنة 1928 ميلادية.
المادة العاشرة: إذا نشأ خلاف فيما يتعلق بتطبيق هذه المعاهدة أو تفسيرها ولم يوفق الفريقان الساميان المتعاقدان إلى الفصل فيه بالمفاوضة رأساً بينهما يعالج الخلاف حينئذٍ وفقاً لأحكام ميثاق عصبة الأمم .
المادة الحادية عشرة: تبرم هذه المعاهدة، ويتم تبادل الإبرام بأسرع ما يمكن، ثم يجري تنفيذها عند قبول العراق عضواً في عصبة الأمم، وتظل هذه المعاهدة نافذة لمدة خمس وعشرين سنة ابتداء من تاريخ تنفيذها، وفي أي وقت كان بعد عشرين سنة من تاريخ الشروع بتنفيذها، على الفريقين الساميين المتعاقدين أن يقوما بناء على طلب أحدهما بعقد معاهدة جديدة ينص فيها على الاستمرار على حفظ وحماية مواصلات صاحب الجلالة البريطانية الأساسية في جميع الأحوال.
وعند الخلاف في هذا الشأن يعرض الخلاف على مجلس عصبة الأمم .
وإقراراً لما تقدم قد وقع كل من المندوبين المفوضين على هذه المعاهدة وختمها بختمه.
كتب في بغداد في اليوم الثلاثين من شهر حزيران سنة 1930 ميلادي الموافق لليوم الثاني من شهر صفر سنة 1349 هجرية.
هنري هيمفر نوري السعيد
ملحق
فقرة رقم 1
يعين صاحب الجلالة البريطانية من حين لأخر مقدار القوات التي يقيمها جلالته في العراق وفقاً لإحكام المادة الخامسة من هذه المعاهدة، وذلك بعد مشاورة صاحب الجلالة ملك العراق في الأمر،ويقيم صاحب الجلالة البريطانية قوات في [الهنيدي] لمدة خمس سنوات، بعد الشروع بتنفيذ هذه المعاهدة، وذلك لكي يتمكن صاحب الجلالة ملك العراق من تنظيم القوات المقتضية للحلول محل تلك القوات، وعند انقضاء تلك المدة تكون قوات صاحب الجلالة البريطانية قد انسحبت من الهنيدي.
ولصاحب الجلالة البريطانية أن يقيم قوات في الموصل لمدة حدها الأعظم خمس سنوات تبتدئ من تاريخ الشروع بتنفيذ هذه المعاهدة، وبعد ذلك لصاحب الجلالة البريطانية أن يضع قواته في الأماكن المذكورة في المادة الخامسة من هذه المعاهدة، ويؤجر صاحب الجلالة ملك العراق مدة هذا التحالف لصاحب الجلالة البريطانية المواقع المقتضية لإسكان قوات صاحب الجلالة البريطانية في تلك الأماكن.
فقرة رقم 2
بشرط مراعاة أي تعديلات قد يتفق الفريقان الساميان المتعاقدان على إحداثها في المستقبل، تظل الحصانات والامتيازات في شؤون القضاء والعائدات الأميرية، بما في ذلك الإعفاء من الضرائب التي تتمتع بها القوات البريطانية في العراق شاملة القوات المشار إليها في الفقرة الأولى أعلاه، وتشمل أيضاً قوات صاحب الجلالة البريطانية من جميع الصنوف، وهي القوات التي يحتمل وجودها في العراق عملاً بأحكام هذه المعاهدة وملحقها، أو وفقاً لاتفاق يتم عقده بين الفريقين الساميين المتعاقدين، وأيضاً يواصل العمل بأحكام أي تشريع محلي له مساس بقوات صاحب الجلالة البريطانية المسلحة، وتتخذ الحكومة العراقية التدابير المقتضية للتثبت من كون الشروط المتبدلة لا تجعل موقف القوات البريطانية فيما يتعلق بالحصانات والامتيازات أقل ملائمة من الوجوه من الموقف الذي تتمتع به هذه القوات في تاريخ الشروع في تنفيذ هذه المعاهدة
فقرة رقم 3
يوافق جلالة ملك العراق على القيام بجميع التسهيلات الممكنة لنقل القوات المذكورة في الفقرة الأولى من هذا الملحق، وتدريبها وأعالتها وعلى منحها عين التسهيلات استعمال التلغراف واللاسلكي، التي تتمتع بها عند الشروع
في تنفيذ هذه المعاهدة.
فقرة رقم 4
يتعهد صاحب الجلالة ملك العراق بأن يقدم بناء على طلب صاحب الجلالة البريطانية، وعلى نفقة صاحب الجلالة البريطانية، وفقاً للشروط التي يتفق عليها الفريقان الساميان المتعاقدان، حرساً خاصاً من قوات صاحب الجلالة ملك العراق لحماية القواعد الجوية، مما قد تشغله قوات صاحب الجلالة البريطانية، وفقاً لأحكام هذه المعاهدة، وأن يؤمن سنّ القوانين التشريعية التي قد يقتضيها تنفيذ الشروط الآنفة الذكر .
فقرة رقم 5
يتعهد صاحب الجلالة البريطانية أن يقوم عند كل طلب يطلبه صاحب الجلالة ملك العراق بجميع التسهيلات في الأمور التالية، وذلك على نفقة جلالة ملك العراق، وهي:
1 ـ تعليم الضباط العراقيين الفنون البحرية والعسكرية والجوية في المملكة المتحدة.
2 ـ تقديم الأسلحة والعتاد والتجهيزات والسفن والطائرات من أحدث طراز متيسر إلى قوات جلالة ملك العراق .
3 ـ تقديم ضباط بريطانيين مجربين عسكريين وجويين للخدمة بصفة استشارية في قوات جلالة ملك العراق .
فقرة رقم 6
لما كان من المرغوب فيه توحيد التدريب والأساليب في الجيشين العراقي والبريطاني يتعهد جلالة ملك العراق بأنه إذا رأى ضرورة الالتجاء إلى مدربين عسكريين أجانب فإنهم يختارون من الرعايا البريطانيين.
ويتعهد أيضاً بأن أي أشخاص من قواته، من الذين يوفدون إلى الخارج للتدريب العسكري يرسلون إلى مدارس وكليات ودور تدريب عسكرية في بلاد جلالته البريطانية، بشرط أن لا يمنع ذلك صاحب الجلالة ملك العراق من إرسال الأشخاص الذين لا يمكن قبولهم في المعاهد، ودور التدريب المذكورة في أي قطر آخر.
ويتعهد أيضاً بأن التجهيزات الأساسية لقوات جلالته، وأسلحتها ،لا تختلف في نوعها عن أسلحة قوات صاحب الجلالة البريطانية، وتجهيزاتها.
يوافق جلالة ملك العراق على أن يقوم عند طلب صاحب الجلالة البريطانية ذلك بجميع التسهيلات الممكنة لمرور قوات صاحب الجلالة البريطانية من جميع الصنوف العسكرية عبر العراق لنقل وخزن جميع المؤن والتجهيزات التي قد تحتاج إليها هذه القوات في أثناء مرورها في العراق، وتتناول هذه التسهيلات استخدام طرق العراق، وسككه الحديدية، وطرقه المائية، وموانئه، ومطاراته، ويؤذن لسفن صاحب الجلالة البريطانية أذناً ع