اللغة والتفكير والديالكتيك الجدلي
عندما نقول الديالكتيك الجدلي أو المادية الجدلية فنعني به حصرا الفلسفة الماركسية التي نشأت في الأربعينات من القرن التاسع عشر على أيدي مؤسسيها, وهم كارل ماركس ( 1818 ـ 1883 ) وفردريك انجلز ( 1820 ـ 1895 ). ولعل التصاق الماركسية بالعلوم الطبيعية ونشأتها آنذاك كان له الأثر الكبير في بقاء الماركسية جزء من التاريخ الفلسفي العالمي الحي والذي تعاد قراءته باستمرار وإعادة بنائه وفهمه في ظروف عصرنا المتغير الذي يستند هو الآخر إلى أرقى الانجازات في العلوم المختلفة. إذ أن ازدهار علوم الطبيعة في القرن الثامن عشر, وفي السنوات الأولى من القرن التاسع عشر هو الذي قاد مؤسسي الماركسية إلى القول بان للجدلية أساسا موضوعيا. وكان للاكتشافات العلمية الثلاثة الآتية أثرها الكبير في صحة الماركسية وانتصار النظرة المادية الجدلية الجديدة عن العالم, وهي:
1 ـ اكتشاف الخلية الحية التي تتطور عنها الأجسام المعقدة.
2 ـ اكتشاف تحول الطاقة من حرارة وكهرباء ومغناطيس وطاقة كيمائية... الخ. فهي صور مختلفة نوعيا لحقيقة مادية واحدة.
3 ـ نظرية التحول عند دارون فقد أثبتت آن أنواع الحيوانات والنباتات المعروفة في الوقت الحالي لم تكن تبدو كما نراها اليوم, فهي نتيجة تطور طويل الأمد.
والديالكتيك الجدلي هو علم عن القوانين العامة لحركة وتطور الطبيعة والمجتمع البشري والتفكير, علم عن الروابط العامة بين جميع الظواهر الموجودة في العالم تجسده المقولات الماركسية الآتية: قانون تحول التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية, وقانون وحدة صراع الأضداد, وقانون نفي النفي, والسبب والنتيجة, والضرورة والصدفة, والإمكانية والواقع, والمضمون والشكل.
وتشكل موضوعات الإدراك واللغة والتفكير من أهم موضوعات الفلسفة الماركسية, لأنها ترتبط بإنسانية الإنسان. واستنادا إلى النظرية الماركسية فأن الادراك ليست نتاجا لأي مادة وإنما لمادة راقية التنظيم, وهي نتاج لنشاط المخ. والإدراك هو وظيفة المخ. وهو لا يستطيع أن يوجد بدون المخ, حامله المادي. وأساس النشاط النفسي هو العمليات المادية التي تجري في المخ البشري, وعلى الأدق في القشرة الدماغية التي تغطي نصفي كرة المخ. وقد وصل دماغ الإنسان في مجرى عملية التطور البيولوجي والاجتماعي إلى أرقى حالات التخصص والتنظيم العصبي والفسيولوجي في مجرى عملية الصراع من اجل البقاء والاستمرار والتكيف لظروف الحياة. كما تؤكد الماركسية أن الإدراك ليس نتاجا للطبيعة مثل الشعر أو الأيدي أو الأعين, بل لابد لنشوئه وعمله إلى جانب الأساس الطبيعي البيولوجي من مخ وأعصاب, لابد أيضا من ظروف اجتماعيه أي الحياة في مجتمع أنساني وفي وسط أنساني. أي أن الإدراك الإنساني يحمل طابعا اجتماعيا. أي انه لا يظهر بشكل منعزل عن الحياة البشرية الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية بين الأفراد !!!.
وعلى هذا الأساس الماركسي فأنه لا يوجد تفكير بشري خارج الجماعة, وهو ينشأ نتيجة لحياة الأفراد في المجتمع, ولا يمكن أن يظهر التفكير إلا عندما يدخل الإنسان في علاقات معينة مع الناس الآخرين في نشاط عمل إنتاجي ويدرك الطبيعة على هذا الأساس ويعكسها. لقد خلق العمل الإنسان, وخلق المجتمع الإنساني, وهو بالتالي خلق مخ الإنسان وإدراكه. وفي هذا السياق أيضا نشأ الكلام تدريجيا عبر عمليات التحسن والتطور المستمر للحنجرة وأعضاء الفم في تزايد قدراتها على النطق بأصوات متتابعة. وهكذا نشأ الكلام الواضح, أي اللغة كوسيلة لتبادل الأفكار, ووسيلة للتفاهم بين الأفراد, وغلاف مادي للتفكير !!!.
وتنشأ العلاقة الجدلية بين اللغة والتفكير من طبيعة التفكير نفسه, حيث في الكلمات فقط يصبح الفكر كما لو كان واقعا. وطالما بقي في رأس الإنسان فأنه يظل كأنه ميت في غير متناول الأفراد الآخرين. ولهذا أشار ماركس إلى أن اللغة هي الواقع المباشر للفكر. وهذا يعني أن التفكير لا يوجد في غير الغلاف اللغوي المادي. وحتى عندما لا نعبر عن أفكارنا بصوت مسموع, أي كما يقولون نفكر مع أنفسنا فأننا نغلفها في غلاف لغوي من الكلمات. وبفضل اللغة لا تتشكل الأفكار فحسب وإنما تنتقل إلى الأفراد الآخرين. وعن طريق الكتابة تنتقل حتى من جيل إلى جيل آخر. وبدون الكلمات لا يمكن التعبير عن الفكر المجرد !!!.
لقد أغنيت المقولات الماركسية الخاصة بعلاقة المادة بالوعي لاحقا في الكثير من الأبحاث والدراسات في نطاق الفسيولوجي وعلم النفس, فقد أخذت طابع الدراسات التاريخية المستقاة من المنهج الجدلي في فهم الظاهرة النفسية بارتباطاتها المتشعبة والمتداخلة, وكذلك طابع الدراسات التجريبية المؤسسة على منهجية البحث العلمي وفروضه. ولعل العالم الروسي ايفان بافلوف ( 1849 ـ 1936 ) والذي ارتبط بأسمه الاكتشاف التاريخي لنظرية الفعل المنعكس الشرطي خير من جسد المنهج الجدلي في أبحاثه العلمية, إلى جانب كوكبة من العلماء الذين جاء من بعده في دراسة الكثير من الظواهر النفسية, كاللغة, والتفكير والعلاقة بينهما, والعمليات العقلية ومختلف مظاهر السلوك الإنساني, أمثال فيجوتسكي, ولوريا وغيرهم. وقد أكدت نظرية بافلوف الكثير من الحقائق العلمي وأسست اتجاها سيكولوجيا علميا في تفسير الظواهر النفسية, يجد دلالته في المضامين الآتية:
1 ـ أن العمليات النفسية صورة لفعالية الدماغ ووظيفة من وظائفه الأساسية, والدماغ هو أرقى أشكال المادة, ويبنى على هذه المسلمة انه لا يمكن إدراك العمليات النفسية بصورة علمية بعيدا عن أدراك العمليات العقلية التي تتأصل في البنية الدماغية, فالفعل السيكولوجي فعل يتأصل ويحفر مجاريه في القشرة الدماغية الموطن الحقيقي لارتباطات مشاعرنا وأحاسيسنا وانفعالاتنا.
2 ـ الشعور انعكاس للمادة وصورة حية من صور العالم الموضوعي الخارجي والعمليات النفسية برمتها مرهونة بأشراطات هذا العالم الذي يتحول إلى صورة دماغية لحائية مرنة ذات طابع اشراطي, وبالتالي فأن أدراك الفعل النفسي مرهون بظروفه الخارجية والداخلية وبصورة أكثر تحديدا أن الفعل النفسي نتاج تفاعل بين الوسط الخارجي بمثيراته المختلفة مع الوسط الداخلي الذي يحسده الدماغ بشكل عام والقشرة المخية بشكل خاص.
3 ـ أن المادة أولية والشعور لاحق وثانوي وهذا يعني أن الأفكار والإحساسات تنبع من العالم الخارجي المادي الموجود بصورة مستقلة عن الوعي, وهذه الفكرة تنطوي على مضامين بالغة الأهمية في التفسير في مجال الصراعات الإيديولوجية الخاصة بالمسألة الأساسية للفلسفة, وهي إن المادة سابقة للوعي في الوجود, وفي علم النفس أن الصورة الشعورية تولد في عالم المادة والظروف الخارجية, أي أن ما يولد في الشعور هو صورة منعكسة من صور العالم المادي, وقد ساعد ذلك كثيرا على إخضاع العمليات العقلية والنفسية, بما فيها اللغة والتفكير والعلاقة بينهما للدراسة والاختبار !!!.
واعتقد العالم بافلوف بعد تجارب مختبريه استمرت لعقود من حياته وتم عرض نتائجها في المحافل العلمية الدولية, أن الإنسان نظام محكوم بالقوانين الطبيعية المشتركة بين كل ظواهر الطبيعة, ويرى أن النظام الإنساني هو الوحيد بين الأنظمة الطبيعية الذي يتميز بقدراته الهائلة على التنظيم الذاتي والذي يمتلك المرونة الفائقة لهذه الفعالية. فالإنسان بأنظمته المعقدة خلاصة تطور الطبيعة في صورتها الأكثر رقيا وتقدما, فالسلوك الإنساني صناعة تتم وفقا لمبدأ الاستجابات الشرطية, وهي صناعة ممكنة, أي أنه يمكن لنا التحكم في سلوك الإنسان وتشريطه وتصنيعه مختبريا أو بصورة اجتماعية عندما يتم التحكم بشروط الحياة الاجتماعية " شروط الوجود ", فأفكارنا ومفاهيمنا وتصوراتنا وقيمنا وعاداتنا وأنماط سلوكنا وكل جوانب نشاطاتنا النفسية والاجتماعية هي نتيجة لعملية تشريط اجتماعية تربوية بعيدة المدى, وأنه يمكن رسم حدود هذه النشاطات والتحكم فيها وفقا لمبدأ الاشراط ومبدأ الاستجابات الشرطية التي بين أسرار حركتها في مختبراته وتجاربه الطويلة. لقد بين بافلوف انه يمكن للاستجابة الشرطية إيقاع الناس فريسة الأمراض النفسية, وأنه خلاف ذلك يمكن لهذا التشريط نفسه أن يؤدي وظيفة تحرير الناس من آلامهم وعقدهم وأمراضهم النفسية !!!.
وقد أكد العالم المذكور في إطار فهمه للغة بأن الإنسان ينطلق في عملية تكيفه وفق منظومة دلالية من الرموز والمثيرات اللغوية التي تجعله في حركة استجابات شرطية تتصف بالاستمرار والديمومة. فالكلام يشكل بالنسبة للإنسان نظاما ثابتا من الدلالات الذي يتمايز به الإنسان عن الحيوان, فالكلام هو بالتأكيد الأمر الذي جعل منا بشرا, فالمثيرات الأولى " المنظومة الأشارية الأولى " هي المثيرات الصادرة عن العالم الخارجي, مثل الأصوات والروائح ومثيرات اللمس والضوء والأحداث الخارجية هي مثيرات مشتركة بين الإنسان والحيوان ولكن الإنسان يتفرد فيما يطلق عليه بافلوف بالمثيرات الدلالية من المستوى الثاني " المنظومة الاشارية الثانية ", والتي تتعلق بالرموز واللغة والكلمات والمعاني, وهي الرموز والدلالات التي يتفرد بها عالم الإنسان عن الحيوان !!!!.
أما بالنسبة لعلاقة اللغة بالتفكير فقد أكدتها الكثير من الدراسات الميدانية بما يدعم التصور الماركسي لهذه العلاقة, ولعل نظرية " استقلال الفكر عن اللغة استقلالا نسبيا مع تلاحمه العضوي بها والأثر المتبادل بينهما ", والتي يمثلها العالم السوفيتي فيجوتسكي ( 1896 ـ 1934 ), والفيلسوف الأمريكي جون ديوي ( 1859 ـ 1952 ) هما أفضل من شرح تلك العلاقة " وخاصة فيجوتسكي ", وفحوى تلك النظرية: أن اللغة وان كانت غير الفكر من حيث طبيعتها ووظيفتها ومن ناحية نشأتها التاريخية إلا إنها مع ذلك ملتحمة به التحاما عضويا غير قابل للعزل في مجرى تطور النوع الإنساني وضمن حدود تطور الفرد من المهد إلى اللحد. ومع أن هذا الالتحام أو الاندماج ليس بذي جذور فسلجية فطرية في الأصل, إلا إن جذوره تاريخية نشوئية على الصعيدين الفردي والنوعي على حد سواء. فاللغة والفكر جانبان مشتركان ملتحمان وان كانا متميزين في عملية واحدة أو كيان متماسك موحد.
يعبر الفكر هنا عن ظواهر البيئة المحيطة على هيئة صور ذهنية أو انطباعات فكرية تحمل المعرفة في شتى فروعها. معنى هذا ان الفكر يرتبط بالبيئة المحيطة الطبيعية والاجتماعية ارتباطا مباشرا, أي انه يصور الظواهر البيئة أو يسجلها مع ارتباطاتها الفعلية الموضوعية وقوانينها على صفحة المخ ويساعد الإنسان على فهمها والسيطرة عليها. أما اللغة فهي في الأساس وسيلة تجسيد الفكر ذاته ونقله وتداوله بين الناس في التحدث والكتابة. ولهذا فأن اللغة ترتبط بالبيئة ارتباطا غير مباشر وذلك عن طريق الفكر: أي أن اللغة تعين الإنسان على تجسيد فكره أو بلورته وصوغه وتداوله, ولولاها لاستحال ذلك. والفكر بدوره يعين اللغة على الدقة ويثريها بالمصطلحات وهكذا !!!.
وفي الختام فهناك الكثير من المعطيات الفسيولوجية والتشريحية لكل من اللغة والتفكير والتي تؤكد مسار استقلالهما النسبي وتلاحمهما المشترك, وان علم اضطرابات الكلام وتموضعه الدماغي يفسر الكثير من ذلك, ولكاتب السطور محاولات قادمة لإغناء تلك الموضوعة الشيقة علميا ومعرفيا !!!.